23 ديسمبر، 2024 5:47 ص

البغدادية ..صوت الشروكية المهدور

البغدادية ..صوت الشروكية المهدور

الشروكية تسمية عراقية تطلق على سكان جنوب شرق العراق وترتبط بشكل غير مباشر بالشيعة في تلك المناطق ٬انا لست شروكيا ولكني اشعر بالانتماء الشديد لهذه  الشريحة المهدورة من المجتمع العراقي حد الاندماج بها . فقد تربيت في بيوت ابنائها ، واكلت من طعامهم وتعلمت دماثة الطبع ومكارم الاخلاق وطيبة القلب وبساطة العيش وطهارة الروح من هؤلاء الناس الطيبين المقهورين ٬فهم اخوالي (وثلثين الولد عل الخال )كما في المثل العراقي .
عاش الشروكية على هامش الحياة السياسية والادارية والقيادية للدولة العراقية رغم انهم الداينمو والطاقة الفعلية لكثير من اسس الجمال والابداع والصمود والتضحية والاباء العراقي ٬وهذا  الهميش ليس مقتصرا على البعد السياسي  بل حتى على صعيد مذهبهم الشائع حيث لا تجد مرجعا شيعيا اعلى  للطائفة  الشيعية من ابناء جنوب العراق  .
البغدادية قناة اثارت كثيرا من الجدل في الوسط السياسي والاعلامي لانها خطت لنفسها اسلوبا لا يمكن اعتباره اعلاما مهنيا موضوعيا .
هي قناة منفعلة متعصبة منحازة بلا شك ٬ولكنها في كل ذلك متعصبة ومنحازة لمعاناة العراقيين عموما والشروكية خصوصا ،  ليس في البغدادية شيئ بغدادي سوى اسمها فكل ما فيها جنوبي ٬روحها كوادرها جرحها صراخها حتى انفعالها ٬كم كان يليق بها اسم الجنوبية او الشروكية ٬ وهذا ليس من باب الترفع او الانتقاص ابدا ولكن من باب المزاج ونمط الخطاب واللهجة المعتمدة في القناة .
قدمت البغدادية دراما عدها معنيون من اهم ما انتجته الدرامة العراقية في توثيق جرائم نظام البعث الصدامي وكانت روح الدراما شروكية وصرخات المعذبين فيها جنوبية ايضا ٬وقدمت البغدادية برامج فنية وثقافية ويوميات صباحية قريبة جدا من ذوق العائلة العراقية خصوصا استديو الصباح للمتالقة شيماء ٬كما تنقلت مع الشروكية في انفعالاتهم ٬فهي تغني حين يطربون وتلطم وترافق مواكب العزاء حين يواسون سيد الشهداء الحسين ع في مراسيم عاشوراء ٬وهي تتظاهر حين يتظاهرون ٬وتنتخب حين ينتخبون ٬كما ارتدت البغدادية بزتها العسكرية متنقلة من خندق لاخر ترافق الابطال المقاتلين  وهم يدافعون عن شرف العراق وكرامة شعبه وسيادته الترابية في مواجهة عصابات داعش الارهابية من الجيش ومكافحة الارهاب والحشد الشعبي وغيرهم من المقاتلين الغيارى ٬وهكذا تنقلت البغدادية في العشوائيات واحياء الصفيح وبرك المياه الاسنة لتوثيق الفقر الجوع والحرمان الذي يعيشه الشروكية الجنوبيون .علاقة البغدادية بالشروكية والفقراء والمعدمين مثل أم تتفقد ابناءها وتتنقل معهم ووراءهم من مكان الى مكان .
يفترض ان اجيب في هذه السطور عن سؤال جدلي شائع بين المراقبين : هل كانت البغدادية نزيهة ومهنية وتعاملت بشرف مع الملفات والقضايا الحساسة التي تناولتها ؟
 هنا لست معنيا بالاجابة الدقيقة عن ما وراء الشاشة لاني وبكل صدق لا اعرف عن هذه القناة اكثر مما يعرفه اي مراقب ومتابع عام ٬ولكني استطيع ان اتحسس ان هذه القناة لم تتاجر بدماء العراقيين ومعاناتهم لعدة اسباب اهمها :
١-انها لم تغلق ملفا فتحته ولم تبيّض وجها كشفتْ فساده كما فعلت قنوات معروفة بالابتزاز السياسي .
٢-لا يقف خلف البغدادية قوة سياسية لنعتبر اثارة البغدادية ابتزازا سياسيا .
٣-حين اغلقت القناة لاكثر من مرة لم يدافع عنها احد لا محليا ولا اقليميا ولا دوليا مما يؤشر ان القناة لم تكن تلبي رغبة احد الضالعين بتدمير العراق ونهب ثرواته .
وهنا يبرز امامنا سؤال الاخطاء التي وقعت بها البغدادية والتي استفزت حتى الرأي العام والمثقفين والنشطاء المدنيين ؟
وبتصوري ان ربط القناة بالشروكية يهدف في بعض جوانبه لتبرير تلك الاخطاء ٬فالبغدادية لم تعمل في اجواء طبيعية نقية ٬الكل يعرف ان الشأن السياسي العراقي معقّد لدرجة ان القائمين على رأس السلطة يتخبطون ولا يعرفون الى اين هم ذاهبون بنا ٬كيف يتوقع من قناة متفاعلة مع شارع فقير منفعل يقدم اجمل الشباب يوميا في حفلات القتل والابادة الجماعية ٬الى جانب كل هذا التخبط والعبث السياسي بالاتجاه المقابل ذلك يبرر ما نعتبره اخطاءً ومخالفة لمعايير الاعلام المهني .
بتصوري ان تقييم البغدادية بوصفها اعلاما محايدا يعنى بالشأن السياسي، فيه خسارة كبيرة وحيف لكل الايجابيات البارزة فيها  ، وفي الوقت نفسه خسارة لتميزها في اسلوبها الذي اتسمت به .
سألت احد اصدقائي المخضرمين العاملين في البغدادية عن مهنية القناة بانفعال وانزعاج من خطاب احد برامجها ٬ فكان جوابه بكل ثقة وهدوء وايمان بما يقدمونه :
البغدادية ليست محايدة ولا اعلام ملتزم بقواعد الاعلام المهني ٬البغدادية مظاهرة شعبية منفعلة عبر الشاشة ٬كل مواطن يتظاهر باسلوبه فالشاعر يكتب قصيدة والمطرب ينشد اغنية والرسام يتظاهر بلوحة ونحن نتظاهر عبر شاشة تلفزيونية افهمونا من هذه الزاوية ..انتهى
وبظني انه جواب ذكي وبليغ يعالج كل تساؤلاتنا الفنية والمهنية .
بقي بعض الاسئلة المهمة يجب ان نبحث عنها في هذه المعادلة :
١-لماذا تغلق البغدادية (الشروكية الجنوبية )ويسمح للجزيرة والعربية وغيرها من القنوات التي تستهدف العراقيين في وحدتهم الوطنية ؟
٢-لماذا نختزل البغدادية في برنامج او بعضه ونتجاهل البرامج الاخرى ونتجاهل العدد الهائل من متابعيها والمتفاعلين معها والمؤمنين بخطابها ؟
٣-لماذا لا تطلب الحكومة العراقية من ادارة البغدادية فتح استيدوهاتها في بغداد وتعيد بث برامجها من بغداد وتصفية كل متعلقاتها في الخارج في خطوة لتشجيع الاعلام الوطني والشعبي خصوصا ان البغدادية لم تحرض على العنف ولم تساند الارهابيين في اقصى انفعالها؟
شخصيا كنت معارضا لجوانب من خطاب هذه القناة وخصوصا البرنامج الاكثر جدلا للاخ انور الحمداني واعتراضاتي كانت على الاداء والاسلوب وليس اصل البرنامج ولا اصل الفكرة ٬ولكن كنت مثل غيري من المهتمين اتفهم منطلقات القناة وادارتها واقدر لهم تعاونهم وحرصهم على دعم  الفقراء والمحرومين .
لم التق صاحب القناة السيد عون الخشلوك وليس بيني وبينه اي تواصل من اي نوع ٬ولكن تربطني علاقة اخوية اعتز بها جدا مع الصديق الشروكي عماد العبادي وهو نقي مثل الاهوار ونقائها ويعرف كل الوسط الاعلامي والسياسي هذا الرجل الطيب ودماثته ٬وكذلك تربطني علاقة اخوية وثقافية مع الكاتب والاكاديمي والشاعر الصديق الاستاذ عبد الحميد الصائح الذي اعدّه اخي الكبير وموطن سكوني وثقتي فهو مثال للانسان الكريم والعصامي والصادق والعذب ٬كما اتشرف باصدقاء شباب وبنات في القناة فنيين ومراسلين ومقدمين عملوا بكل جد واخلاص وتفانٍ من اجل ايصال صوت اهلهم بشرف .
اراني ملزما اخلاقيا ان اقدم الشكر الجزيل والامتنان البالغ لكل هؤلاء الاعزاء الشجعان الذين تحملوا التهديدات والضغوط والمخاطر من اجلنا ٬كما اتقدم بواجب الشكر لصاحب القناة الدكتور عون حسين الخشلوك لانه بلا شك تحمل الكثير من الاعباء جراء مؤازرته للشروكية ودفاعه عنهم ٬أملنا من الحكومة العراقية ان تتعامل مع هذا الصوت العراقي الجنوبي بشرف ومسؤولية وتعيد البغدادية لبغدادها وتساندها في تأدية واجبها في رسالة اخلاقية ووطنية عظيمة البلاغة تؤكد احترام الحكومة للعراقيين في انفعالهم واحتجاجهم مهما بغلت مدياته السلمية .
 __________
كاتب وباحث في الفكر الاسلامي  – رئيس المركز العراقي لادارة التنوع