23 ديسمبر، 2024 10:45 ص

البعير يستجير بجاموسة

البعير يستجير بجاموسة

بين يوم وليلة السرية التي أخدمُ فيها عسكريتي كجندي احتياط منتصف سبعينات القرن الماضي في لواء مشاة رباياه والمنتشرة على طول السلسلة الصخرية العالية الممتلئة بأشجار الجوز والبلوط والمسماة جبل هرزلة المطل في قامته الشمالية على حوض بنجوين وسفوحه الجنوبية على المدينة الساحرة التي اسمها نال باريز التي يبدأ الوصول اليها من معسكر قليسان في السليمانية ثم عربت وشاندري ثم نال باريز ثم نبدأ الصعود ببغال سود جُلبتْ من مناطق ديار بكر جنوب تركيا وبأسماء نطلقها نحن عليها ، وبالرغم من اغلبها من الذكور إلا انها جميعها تحمل اسماء انثوية .

وجدت نفسي منقولا انا وسريتي الى منطقة صحراوية لا ينبت فيها اي زرع وليس تضاريسها سوى تلال رملية ومقالع للحصى والرمل وبيوت للعقارب تسمى ( جلات ) وهي منطقة تقع على الحدود العراقية الايرانية واداريا هي تابعة للعمارة في محاذاة حدود محافظة واسط.

تغير شكل الطبيعة لدينا فمن الفردوس الاخضر الى غبار صحراء لا ماء فيها ولا شجر ولم نرَ أي من البشر غير سائق الارزاق والحانوت يطل علينا ، لكن الفرح سكن عيوننا يوم حطَ بدوي مع أباعره غير بعيد عنا ، ومع البدوي الذي لا أعرف ما الذي يجبره ليأتي بجماله وحلاله الى هذا المكان توطدت علاقة طيبة اثناء مروري بمضاربه حيث يمتد سلك المخابرة الذي اقوم بربطه حين تقطعه اقدام أباعره والممتد من مقر السرية فوق تلال حمرين الى مقر الفوج في منطقة المقالع .

ذات صيف كان اليباب قد سكن المكان وافتقد الى غدران الماء التي كانت تتجمع من السيول القادمة من جبل دهلران الايراني في الجهة المقابلة ، وكنت قد اكملت خدمة الاحتياط فمررت على صديقي البدوي لأسلم عليه فوجدته حزينا لأمرين أنه سيفتقدني وفي نفس الوقت هو مضطر ليبيع اباعره الى قصابي مدينة العمارة الذين وجدتهم واقفين بكروش كبيرة بالدور على باب خيمته والكل يساومه ليحصل على بعير بأبخس الاثمان ، وقتها جادلتهم ومنعت استغلال صديقي البدوي وقلت لهم سنأخذ الجمال ونبيعها في الكوت بسعر افضل وقد تلقينا عروضا جيدة .

 داهم الغضب صدورهم ورضوا على مضض بالسعر الذي طلبناه لأباعر الرجل الذي قرر ان يودع حياته الطبيعية الصعبة ويشتري بيتا في كربلاء ليعيش قرب ضريح الحسين واخيه العباس ( ع ) كما كان يتمنى.

وتكريما لموقفي ووفاء لصداقة اشهر كنت اشرب فيها حليب الجمل وانتعش بنشوة التخلص من لهيب ظهاري ( جلات ) الحارقة قال الرجل :عندي جمل صغير ولد قبل ثلاث اسابيع خذه معك ربيه انت وليبقى يذكركَ بنا والزاد والعشرة الذي قضيناها معا .

قلت : انا اسكن المدينة وصعب أن تربي بعير في المدن .

قال : خذه الى حيث عملكَ كما تقول معلما في الاهوار ، لا اريد لهذا البعير الصغير أن يُذبح ، اريده أن يبقى ويكبر معك، دعه يستجير بالجواميس ويعيش معها .

ضحكت وقلت : هذه اول مرة اسمع بها ان بعيرا يستجير بجاموسة .

وبالرغم من هذا قبلت عن طيبة قلب عطيته ، وحملته بسيارة بك آب استأجرتها ولم اذهب الى بيتنا مثل كل مرة ،بل ذهبت الى القرية التي تقع فيها مدرستنا ، وبصعوبة حملنا البعير الصغير على شختوره وحين وصلت وجدت شغاتي على الشاطئ مستغربا المشهد .

قائلا :ما هذا يا استاذ ، البعران لا تعيش هنا .

قلت :ولكنه استجار بجواميسكَ.

ضحك وقال : اهلا به…………!