في الاساس كانت الكلمة، ومن خلالها تشكلت العلاقات على مختلف مستوياتها، وقد تطور استخدام الكلمة مع الزمن ليتم استخدامها في العملية الكتابية، ولعبت الكتابة دورها في جميع الميادين واصبحت من اقوى الاسلحة. فالكتابة، كما هو معروف، عملية ابداعية وان تحولت في بعض الاحيان الى ممارسة مهنية وما يترتب عليها من مسؤولية اخلاقية تجاه العملية الابداعية، ووطنية تجاه مجتمعها المستهدف الرئيسي من هذه الكتابة، وبخاصة الكتابة الصحفية التي عادة ما تكون موضع اقبال واحترام ومتابعة من القارئ الذي يجد فيها صورته ومشاعره وامانيه، ويجد بين كتابها رموزاً حقيقية للأصالة وصدق الرسالة وامانة الالتزام، كتاباً يترفعون عن ان يكونوا موضع تندر وسخرية، يحفظون كرامتهم ويعرفون مكانتهم، غايتهم ومنهجهم كلمة الحق والتزامهم بقضايا وطنهم ومجتمعهم، يربأون بأنفسهم ان يتلقوا الوحي فيما يكتبون من خارج ضميرهم.
من هنا، جاء دور الكاتب وما يقع على عاتقه بما يتعلق باستخدام الكلمة سواء لنشر المعرفة والافادة او الاقناع بما يتعلق بالموضوع المراد مناقشته او الكتابة عنه، وواضح هنا، ان الكاتب أياً كانت مواهبه والمعطيات الثقافية التي يتمتع بها، لا بد ان يكون منسجماً مع ذاكرته كمبدع ومع مجتمعه الذي يكتب له وينتمي اليه وصولاً الى الهدف النبيل وهو التغيير الاجتماعي والتطوير الحضاري المتفق مع تطلعات الغالبية العظمى من المجتمع والمصالح العليا للوطن.
نعرف ان هناك كتابة ابداعية، ونؤمن ان الكاتب احد اثنين، اما مستوثق او مبدع، المستوثق يحتاج معرفة يتزود من خلالها بما يعينه على اداء دوره، والمبدع يحتاج الى جانب مصادر المعرفة الى بيئة نقية تأخذ بيده وتشجعه من خلال التواصل المعرفي ومناقشة الافكار وبلورتها بما يرقى بالكتابة الى المستوى الذي يعزز ثقة الكاتب بنفسه وثقة القراء بصحفهم ومجلاتهم وكتابها.
والكتّاب عامة ومنهم كتّاب الصحف وبحكم قدرتهم واطلاعاتهم وتجاربهم، تقع عليهم مسؤولية كبيرة تمثل في توعية المجتمع ونقل الحقائق والمعلومات بصدق وامانة، بعيداً عن الذاتية والعاطفة وتناول الموضوع من جوانبه المختلفة وترك المجال للمواطن القارئ ليكون رأيه ويتخذ الموقف الذي يعتبره صحيحاً تجاه المسألة المطروحة اجتماعية كانت ام سياسية ام اقتصادية.
والكتابة الصحفية تحتل مركزاً متقدماً في عصرنا الحالي، وذلك لأن وسائل الاتصال الحديثة تتمكن بمجملها من تناول اي خبر او حدث بالوصف والتحليل عند حدوثه واحيانا يتم التنبؤ بامور قبل وقوعها. ومن هنا، فان نجاح الكاتب الصحفي بمهمته يعتمد على امرين رئيسيين: الاول: مستوى من الثقة المتبادلة بينه وبين الجهات الرسمية والفكرية في بلده والتي يتزود من خلالها بطريقة او باخرى بدقائق الامور حتى يتمكن من التواصل مع قرائه ضمن مفهومي المصداقية والواقعية، لانه ان لم يكن هكذا فان متابعة القراء ومقارنتهم للعديد من الصحف بين الصادر خارج الوطن وداخله، سيضعهم في موقف يشككهم، اما بعدم معرفة الكاتب بما يدور حوله او انه غير قادر على تجسيد الانتماء الحقيقي لمهنته وامانته تجاهها. والثاني- وهو ان الحصول على السبق الصحفي لم يعد بالامر السهل بالنسبة لأي كاتب صحفي، اذ هناك مؤسسات اعلامية لها مكاتب ومندوبون في جميع انحاء العالم، ولها القدرة على تناول اي حدث حال وقوعه، وبمثل هذا الوضع، فان مهمة الكاتب الصحفي المبدع هي التحليل والمتابعة ووضع التصورات الآنية والمستقبلية بما يخدم الغاية او الهدف الذي يهيء اي كاتب صحفي نفسه من اجله. وهذا ما يبرز اهمية المسؤولية الوطنية والانسانية التي يتوجب ان تمارس ضمن كل المعايير الاخلاقية والادبية.
لكن الذي يؤسف له حقاً، ان لا يلتزم بعض الكتّاب العاملين في وسائل الاعلام ذات النفوذ الواسع والتأثير العميق على وعي افراد المجتمع وتشكيل ارائهم وتوجهاتهم، بالثوابت الاخلاقية، وبالتالي الوطنية لفن الابداع الكتابي والصحفي. فهم بذلك لا يحترمون جماهيرهم ويمارسون الخداع والتضليل في تعاملهم معها لاسباب غالباً ما تتمحور حول مصالحهم الانانية المتناقضة مع مصالح مجتمعهم الحيوية.
وهناك مجموعة اخرى تنتمي الى فئة الكتّاب المضللين الذي بحكم ذاتيتهم المفرطة ونرجسيتهم وضحالة تجربتهم وبالتالي جهلهم، خاصة في القضايا السياسية، تراهم يخوضون في الامور الهامة بل والمصيرية بالنسبة للبلاد والمجتمع بكل بساطة وبلادة ولا مبالاة لابعاد ما يكتبون، لان همهم الاول والاخير هو الكتابة وعدم الغياب عن الساحة.
ان هذه الفئة الاخيرة من الكتّاب لا تشكل خطراً هاماً على المجتمع، لانها مكشوفة في الغالب ولا يعتمد على تحليلاتها وارائها، لكن الخطر الكبير يأتي من فئة الكتّاب المضللين والمتلونين الذين يحتقرون عقول الناس بتحدٍ وصلافة، معتمدين على ضعف الذاكرة عند افراد المجتمع حسب قناعاتهم المريضة. فهذه الفئة تستغل منابر الاعلام للحصول على مكاسب ذاتية متدفئة في حضن هذا الحزب او ذاك او هذه الفئة او تلك، وهي جاهزة للتنقل من حضن الى حضن ما دام ذلك يخدم اهدافها ومصالحها، اما الحقيقة والاخلاق والمصلحة الوطنية، فهي بنظرها كلمات ومصطلحات جامدة لا اهمية لها الا بمقدار استعمالها في كتاباتها للتضليل والخداع وذر الرماد في العيون لتظهر وطنيتها وحيادها وغيرتها على مصالح مجتمعها.
كما ظهر في الآونة الاخيرة بعض من ادعياء القلم والكتابة، بعضهم من اولئك الذين يحملون مؤهلات علمية عليا حصلوا عليها بطرق امتيازية، ممن توهموا انهم حقاً كتّاب بمجرد نشرهم (كذا) مقالاً، على الرغم من انهم على دراية مسبقة وكاملة بالكيفية التي تنشر فيها مقالاتهم التي ما هي الا محاولة لملئ الفراغ بمثله كونها بلا شكل ولا محتوى، لا معنى ولا مبنى، بل كلام اجوف يتثاءب في الفراغ.
اني اقول لهؤلاء واشباههم في حالة استمرارهم بهذه المآسي في ظل فقدان المعايير المهنية والادبية الحاصلة الآن… انه ليس كل من نشر (كذا) مقالاً بهذه الوسيلة او تلك الكيفية التي تعرفونها جيداً صار كاتباً، وليس كل من حمل مؤهلا علمياً عالياً يتعكز عليه ويتبجح به بسبب من خوائه المعرفي العام اصبح- ابو الكتّاب-.
ان الكتابة في الصحافة بشكل عام قبل كل شيء شرف واخلاقيات رفيعة واحترام للمهنية واهلها. فمن يرفع القلم ليكتب للصالح العام لا لاغراضه المبطنة يفترض فيه ان يتمتع او يتحلى بمثل وقيم اخلاقية اصيلة. فاحترام فكر وعقل الغير واجب، واحترام الحرفة والصدق في التعامل وتغليب المصلحة العامة على الخاصة وعدم اللجوء الى اساليب التدليس والابتزاز والاستغفال والدس واجب آخر.
ان تكون كاتباً يجب ان تكون صاحب مبدأ ولا تحيد عنه، فأنت شخص أمين على كرامتك ومهنتك ومهما كانت الامور فلن تؤثر على المبدأ الذي ارتسمته طريقا لحياتك، ولكن ما بالك اذا وجدت نفسك مرائياً منافقاً كذوباً وضربت بتلك المبادئ عرض الحائط وجعلت نفسك كمن يتبع اسلوب التسوق بهذا التصرف والسلوك، حتماً ستجد حولك من يضحك عليك ويسخر منك، وستفقد بعدها احترامهم وتقديرهم لك لا سيما اذا كنت كاتباً او تمارس حرفة الكتابة للصحافة. ففي عرف هذه الحرفة، الرياء والنفاق والكذب، خيانة وتلويث مبادئها، وانتهاك لحريتها، وخطر يهدد كينونتها.
الكتابة من منطلق الاخلاص للوطن وللصالح العام وللكلمة الحرة، من يجد انها ليست نزوة عابرة ولا شحنة طارئة، انها احساس راق بوجوب العطاء المستمر وشعور متأصل بشحذ الهمم نحو مستقبل حضاري خلاق للوطن والشعب.
الكاتب لا يصل الى هذه القدرة الا اذا كان على اطلاع واسع وعلى صلة حية بجميع فئات مجتمعه على ان يكون ممن تنطوي جوانحه على ضمير حي يتفاعل مع المشكلة التي يعاني منها المجتمع، بينما- المعنيون بكلامنا هذا- يكتبون لمبدأ الربح المادي قبل اي مبدأ اعتباري او قيمي آخر، وهو مبدأ انتهازي لا يفيد الصالح العام. انها دقائق يمضيها القارئ- ان وجد لهم قارئ- في قراءة قوالب انشائية وتنظيرات مضحكة، النفاق والرياء فيها مفضوح، وهذا ضد هدف ومبدأ الكتابة السياسية والفكرية في الصحافة.
هذه بعض من كل اخلاقيات الكتابة في الصحافة التي نأمل ان يلتزم بها اولئك الذين تلبسوا بثياب الرياء والنفاق والنميمة والكذب واستغلال الفرص سابقاً وراهناً، الذين لا يعملون الا من اجل مصالح ذاتية انانية بحتة فقط.
ان الكتابة الصحفية يجب ان تكون ذات هدف مبدئي يدعو الى كشف الحقائق والوقوف مع الحق مهما كانت النتائج وتقديم المعلومة النافعة والجيدة والتحليل والاستنتاج العلمي الرصين, ومن دون وجود هذا الهدف في نفس كل من يريد امتهان الكتابة من الافضل له ان لا يكتب.
الكتابة الصحفية حرفة لها منزلة اخلاقية راقية في كل بلدان العالم، فلم تتدن مكانتها في صحافتنا ولم يهبط مستواها الا في السنوات الاخيرة .. بفضل الممارسات غير المبدئية في آليات العمل الصحفي من قبل بعض مسؤولي ومحرري صفحاتها الثقافية والسياسية ومرؤوسيهم من رؤوساء التحرير ممن كانوا ولاسباب شتى يفرضون كتابات هذا النفر او ذاك فرضاً.
ان الواجب الاول والاخير للكاتب المبدئي الاصيل، ان يكون صادقاً واميناً مع نفسه وصريحاً مع الرأي العام، فيقول ما يؤمن به حقاً سواء كان هذا يرضي فريقا ويغضب فريقا آخر، وبغير هذه القاعدة يصبح لا مسوغ للكتابة ولا لابداء الرأي على الاطلاق اي مبرر او مسوغ.
فكم من كاتب حقيقي أثر الانزواء والانسحاب من الساحة راضيا بالفقر والجوع على ان لا يهبط بفكره وقلمه الى سوق النخاسة حتى لا يتحول الى تاجر بضاعته الفكر الرخيص والكلام المزوق المشين.
فكيف يمكن لنا الآن مع وجود نفس هؤلاء الواهمين انهم كتّاب او صحافيون ممن يتولون حالياً رئاسة تحرير بعض الصحف الصادرة في عراق فقدان القيم والمعايير المهنية، ان نصوغ مستقبلا لصحافة وطنية حقه تسعى الى بلورة وعي سياسي وفكري خلاق من دون الكشف عن سيئات امزجة هؤلاء المريضة التي ابت الا ان تخضع الكتابة الصحفية ومؤسساتها مفاهيم مرذولة اقلها شأناً التنكر لأصالة هذه الحرفة ومحيطها الذي يستمد منها كافة مقومات وجوده الحضاري.
انه في حالات المد والجزر السياسي، يكون للاقلام دورها الفعال، اذ ان طرح الافكار من قبل الكتّاب على مختلف مستوياتهم، يساعد الجهات صاحبة القرار على الوصول الى كل الاستنتاجات ووضع البدائل المناسبة على هذا الاساس، وقد تمثل الاراء العشوائية ردود فعل مناسبة اكثر من الاراء المتحفظة بحد ذاته وقد يخفي بعض التوجيهات التي يسعى اصحاب القرار للوقوف عليها. وفي كل الحالات، فان السعي للكمال هو ظاهرة ايجابية ولكن تحقيق الكمال بحد ذاته من اصعب الامور، والمهم هو وضوح الرؤية والشعور بالاطمئنان الذي يجسد العطاء المثمر.
لقد آن الاوان لاحداث تغيير جذري وشامل في العملية الاعلامية برمتها بهدف تخليصها من ازمتها وتنظيمها على اسس الاخلاق والمسؤولية الوطنية والانسانية. فأننا بحاجة الى اعلام يقدم المعلومات والتحليل العلمي والعقلاني.
اننا الآن وفي مثل ظروفنا الحالية بحاجة الى كتابات تعيد الى الكلمة صدقها واصالتها ومعناها، وبغير ذلك سيظل الكلام الذي يقرأه القارئ باهتاً وممجوجاً، وستظل صحفنا ملاعب لمجموعة ادعياء باعت مبادئها وقيمها واخلاقها… ورحم الله امرئ عرف قدر نفسه.