23 ديسمبر، 2024 5:59 ص

البعد السيكوسوسيولجي للصوت الأنتخابي العراقي !

البعد السيكوسوسيولجي للصوت الأنتخابي العراقي !

أعلنت مفوضية الانتخابات في الاسبوع الماضي عن تسجيل 88 قائمة و 205 كيانات سياسية و 27 تحالفا انتخابيا للمشاركة في الانتخابات البرلمانية العراقية في 12 أيار المقبل. وقد سبق ذلك الأعلان تحالفات لكيانات سياسية مختلفة ذات طابع اسلاموي في غالبيتها ثم اعقبها انهيارات سريعة لم تدم أيام معدودة, وقبل ذلك كله شهد الاسلام السياسي أنقسامات وانشقاقات مختلفة لبس البعض منها مدعيا ثوب التجديد والمدنية المقرونة بالوعود الكاذبة بعد عقد ونصف من الفشل السياسي المقترن بالخراب الاقتصادي والاجتماعي المتمثل بتدمير البنية التحتية, وكما نفهم ذلك سيكولوجيا فأن التشظي المتعمد هو محاولة لأخفاء العيوب والهروب من الغضب الشعبي العام في محاولة للعودة بوجه آخر يمتص نقمة الشارع العراقي, كما أن السرعة التي انهارت بها بعض التحالفات الاسلاموية يعكس بشكل واضح ان الخلاف ليست برنامجي أبدا بل على اعادة اقتسام النفوذ والسلطة السياسية لما بعد الانتخابات. بل هناك توجه لممارسة تزوير الانتخابات ” كما ورد على لسان رئيس الوزراء حيدر العبادي ” ولكن عدم جرأته وشجاعته والملتبسة بالمحاصصة تحول دون ذكره للتفاصيل واتخاذ الاجراءات الللازمة لمنع ذلك علنا. ومن هنا تأتي اهمية الدعوة الى اشراف دولي على الانتخابات للحد قدر الممكن من التزوير !!!.

وقد سبب ذلك كله احباطا نفسيا غير قليل للمواطن العراقي مما انعكس في قناعته شبه المطلقة بعدم حصول أي تحسن لاحق في ظروف حياته المعيشية العامة, في ظروف اهدرت فيه السلطة الاسلاموية طوال الفترة المنصرمة ما يقارب 1000 مليار دولار في عمليات الفساد المالي والاداري وخراب مختلف الاوجه لمؤسسات الدولة العراقية, فلا نستغرب أن منظمة الشفافية العالمية تؤكد تصدر العراق والصومال دول الفساد في العالم. وقد أنعكس احباط المواطن العراقي في اتجاهاته النفسية نحو الانتخابات القادمة بين مقاطع لها او الذهاب لتسقيط ورقته الانتخابية أو التصويت وفق قناعات محتلفة لمجمل الكيانات والاحزاب السياسية التي ستخوض الانتخابات وحتى اتجاه نحو انتخاب كيان لا يعرف عنه شيئ. وحيث لا يوجد اليوم في العراق فرصة لحاكم قوي عادل يعيد السيطرة على الامور ويعيد بناء العملية السياسية وأطرها المؤسساتية, من دستور وقانون انتخابات وقانون احزاب ومفوضية انتخابات مهنية نزيهة, فأن خيار المساهمة في الانتخابات يبدو هو الضمانة الآن ولو ألى حين في محاولة لتغير موازين القوى !!!.

في خضم التحالفات السياسية الموجودة الآن والصراع الدائر بين الكتل والتحالفات السياسية تجري الاستعانة بدول الجوار للتدخل للمساعدة في بلورة رأي مسبق والانحياز الى جانب بعض الكتل السياسية وخاصة الاسلاموية منها بشكل خاص, وهو أمر ليست فقط مرفوض ولكن يعبر عن ضحالة الفكر والممارسة الديمقراطية لدى تلك الكتل, قد يشذ عن ذلك عموم التيار المدني بمختلف شرائحه وتوجهاته الفكرية. والديمقراطية تقول ان اصوات الشعب هي التي تقرر خيارات الشعب عبر صناديق الانتخاب وليست الاجندة الخارجية.

أن الاقتراب من صناديق الاقتراع وإيداع ورقة فيها كيفما اتفق ليست نزهة انتخابية عبثية يراد بها الضحك على شعب طال أمد معاناته وحرمانه من ابسط مقومات العيش الكريم, وقد حرم لعقود قبل وبعد سقوط النظام الدكتاتوري من الحرية والتمتع بماله ونفطه وثرواته, وهو الآن يعاني الآمرين من التعسف والظلم والفقر وانعدام الخدمات وتصدع وحدته الوطنية وتمزق نسيجه الاجتماعي والقومي والديني, وكذلك حرمانه من السماح له بحرية اختياراته وقد سلطت على رقابه سيوف الدين المتطرف والخندقة الاثنية والتعصب الممزوجة برائحة الكراهية والعفن من النظام السابق وثقافة الاسلامويين !!!.

من المعروف أن ارث النظم الفردية والدكتاتورية والاسلاموية كبير جدا ولا يمكن الاستهانة به أو دفع بلائه وإحلال القيم الديمقراطية وثقافة الانتخاب في مكانه دفعة واحدة. وضمن ثقافة الهيمنة السابقة والإقصاء والتهميش والعبادة الفردية والعقلية القبلية والولاء الهش لدولة الحزب الواحد أو الفرد, حيث تحولت هذه المكنونات القيمية إلى خزين في اللاوعي يتحكم في الكثير من سلوكيات الحاضر ويتحول إلى موضوعات استثاره مستديمة, وخاصة بعد عمليات التغير الجذري صوب صناديق الاقتراع لتقرير مستقبل الشعب واتجاهات تطوره, قد لا يعلم بها الناخب نفسه في أحيان كثيرة, وتتحول بفعل ذلك لحظات التصويت إلى حالات من غيبوبة العقل لا تتأثر بأحداث الحاضر وأزمته في البحث عن بدائل تضمن الأمن والاستقرار والسلم الأهلي وتفتح الأبواب للتنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة, بل قد تندفع جماهير غفيرة تحت وطأة تأثير تجيشها بالخطابات الانفعالية القوية التي تسرق عقولها قبل عواطفها فتتركها فريسة للانفعالات, كما اعتادت عليها النظم الدكتاتورية والفردية بثقافتها وأغانيها وأهازيجها الممسوخة التي تعزف على أوتار انفعالاتها لتوقظ فيها نزعات الحماس اللاواعي,حيث تعرقل فيه حكمة العقل ومكانته في الخيار الانتخابي الحر, ويترك فيها الناخب مسلوب الإرادة محتكما إلى الهوى والعاطفة والانطباعات الآنية المخيفة وسلطة المزاج التي تعرقل الخيار العقلاني, وخاصة في ظروف أحزاب تمتلك قدرات هائلة من مال حرام وتطفل مذموم على ابسط أخلاقيات وقواعد الدعاية الانتخابية واستخدام للماضي الأليم لرسم صورة الحاضر على خلفيته وإثارة النزعات العقلية الانقسامية من دينية وطائفية وقبلية ومناطقية وحتى سلالية وعائلية تعززها الإغراءات المادية والنفعية ذات الفائدة قصيرة الأجل, وخاصة في مجتمع خرج من آتون دكتاتورية وشوفينية عاتية عبثت في المنظومة القيمية وزرعت في أوصاله الجهل والفقر والمرض والتخلف وعدم المساواة, وهنا نحذر شعبنا من استراتيجيات الشراسة لدى بعض الكيانات الانتخابية في إشاعة الكذب والخداع والوهم والإيهام التي تتدخل بقوة لتصنع رأيا انتخابيا مجافيا للعقل والحكمة مستخدما من العزف على أوتار الماضي الديني والسياسي في ظل مجتمع يعاني من اختلال اقتصادي واجتماعي,فقد تمتلئ أمعاء الناخب بالمال الحرام والهبات ولكنها ستجوع إلى الأبد بعد فرز الأصوات الانتخابية وتتبخر أحلام الناخب البريء وتتجدد دورة الكبت والحرمان والقمع الذاتي !!!!.

ومن الناحية الطبيعية والعقلانية وبعيدا عن دعايات المرشحين ومزاميرهم والتي تفوق أحيانا حتى حجم إمكانياتهم وخبرتهم في إدارة البلاد ” رحم الله امرئ عرف قدر نفسه ” فان السياقات المنطقية التي تدفع صوب الانتخابات والمشاركة السياسية الفعالة يجب أن تكون أسبابا اقتصادية والتي يكون هدفها تحسين ظروف الوجود والارتقاء بمستوى العيش وطمأنة الحاجات الإنسانية, وأسبابا اجتماعية والهدف منها تحسين أداء الجماعة وانتشالها من براثن الفرقة والتفكك والتعصب بمختلف ألوانه الديني والطائفي والقبلي والمناطقي والاثني. ودوافع أمنية حيث أهميته وضرورته في بعث الطمأنينة لدى المواطن والذي يشكل لبنة لازمة لانطلاق العمليات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ” فالأمن أولا والبقية تأتي “,وكذلك أسباب فكرية قد تدفع الناخب إلى التصويت لتأكيد انحيازه ألمبدأي,وهنا لا نؤكد على ما هو الفكر, ولكن نؤكد على ضرورة الفكر ووجوده,ومن عدم أهلية وجوده استنادا إلى معايير التجارب الإنسانية الغنية, فالانحياز إلى أفكار ” الصندوق الأسود المغلق ” أثبتت التجارب الماضية إلى فشله باعتباره نموذجا لممارسة القتل الذاتي للوجود وإلحاق المزيد من الدمار والخراب والفساد وفقر الشعب وأهانته وتفرقته, أو على اقل تقدير هو الانحياز إلى مشروع ” المراوحة في المكان “.

أن الشعوب والمجتمعات التي خطت خطوات راسخة صوب الديمقراطية تشكلت لديها منظومة عقلية راسخة لا تهزها الدعاية الانتخابية إلا في التفاصيل الثانوية, أي تشكلت لديها استراتيجيات معرفية وعقلية للانتقاء والتصفية والبحث عن البدائل على أسس استقرائية للواقع ورسم الطموحات للنهوض به, وهي استراتيجيات لا تخطئ إلا ما ندر, حيث تقترب من منهجية العقل وطبيعته في حل المشكلات, ابتداء من الإحساس بالمشكلات, وجمع التفاصيل الكافية عنها وعن مسبباتها والياتها, وانتهاء بفرض الفروض عنها وتبيان حجم تأثيرها والعوامل المتداخلة في صنعها,وانتهاء ببرامج وخطط لحلها والتماس الحلول المستقبلية لها, وعلى خلفية ذلك يندفع الناخب لاختيار البدائل الأصلح في السياسة استنادا إلى التجارب السابقة.

ويعزز ذلك كله نشوء منظومة فكرية ـ عقلية تقترب من مستوى الأداء النفسي للفرد غير قابل للمساومة, تقوم على بعض القناعات,لعل أبرزها هو أن الإيمان بالمشاركة السياسية والتداول السلمي للسلطة هو مكون أساسي ومقدس ولا يمكن اغتصابه بمختلف الواجهات والممارسات التي ترغب في الإطاحة بالديمقراطية من الداخل أو الخارج, وأدراك المواطن أن تحسين ظروف العيش لا يأتي عبر مقاطعة صناديق الاقتراع والقبول بالأمر الواقع الذي يقرره الآخرين عنه, وتقرر ظاهرة ” أنا أقرر ” مزاجا نفسيا عاما لدى المجتمعات ذات الديمقراطيات الراسخة, بل أن هذا الاتجاه السلوكي والمعرفي تعززه النظم السياسية والتربوية منذ نعومة الأظافر وفي مظاهر مختلفة ابتداء من طريقة اللبس والشرب والحوار المتكافئ حتى مع الطفل وانتهاء بظاهرة تقرير النخب السياسية, وكذلك دور التنشئة الاجتماعية التربوية والنفسية في نبذ قيم التفرد والدكتاتورية السياسية والسلوكية العامة في مختلف مظاهر الحياة العامة, مما تجعل من المواطن أن يقف متأنيا ومتفحصا لظاهرة السياسة وما تنتج عنها من مظاهر سلوكية, وكذلك نشأة استقطاب واضح على خلفية إدراكية ـ معرفية ولنقل فكرية تجد لها تبريرا جدليا في اعتناق هذا الفكر أو ذاك بعيدا عن حالات الهيجان الانفعالي المدمر, فأنا شيوعي…لماذا, وأنا إسلامي…كيف !!!, وأنا علماني..كيف افهم ذلك, وأنا ملحد…ماهية المبررات, ويجري ذلك على خلفية تلاقح الأفكار بعيدا عن الإقصاء, وعلى خلفية البرنامج الاقتصادي والاجتماعي والسياسي المميز لهذه المنظومة العقائدية أو تلك, لا على أساس ” أرميها برقبة عالم وأخرج منها سالم دون حسبان للعواقب “.

أن عراق اليوم محتاج أكثر من أي وقت مضى للتحييد الديني والطائفي بشكل خاص في ظل احتراب طوائفه التي تقوم على تكفير بعضها البعض, ونحن نعرف أن أصل الانقسام الطائفي في أسلامنا الحنيف كما في مختلف الأديان هو سياسي من الناحية التاريخية وليس ديني والذي لازال مداره إلى اليوم يرجع إلى مسألتي الخلافة والإمامة وما شابه ذلك, ولئن الإسلام السياسي يشن حربا بسوس على العلمانية وقد تطول أكثر,لأنه يرفض مبدأها في فصل الدين عن الدولة, ومن شأن العلمانية أن تساعد الإسلام وغيره على استرداد أوضاعهما الطبيعية في وجدان الناس وتهذيب مشاعرها وانفعالاتها الدينية.
أن ألتحالفات القائمة على اساس القناعة ببناء مجنمع مدني هي التي تضمن لنا الدين والمعتقد السياسي في جغرافية العراق المتنوع بدينه وأنتمائته السياسية بعيدا عن الهجرة والتهجير ألقسري وتضمن لنا الحداثة في الديمقراطية والعلمانية وسهولة التفاعل مع منجزات العصر في التقدم العلمي والتكنولوجي, كما تضمن لنا حب المسلم لأخيه المسلم ولأخيه في الإنسانية من الدين الآخر, وتلغي لنا حكم المناطق والمحافظات والشوارع والحارات والأزقة, تضمن لنا عراق فدرالي موحد, وتضمن لمواطنينا صحة موفورة تستند إلى آخر منجزات العلوم الطبية وليست عراق ” يتشفى من السرطان ببول السيد وبصاقه ” وتضمن قدر معقول من الصحة النفسية في التكيف مع البيئة المحيطة وتقبل الآخر المتنوع, وتضمن لنا مزيدا من تكافؤ الفرص والخدمات التعليمية في مختلف مدن العراق وأريافه ومناطقه النائية.

أن الإتيان ببرلمان منزوع السلاح يتمتع أعضائه بصدق النوايا ومحمي من قبل جماهير الشعب هو السبيل الوحيد لاستقرار العراق وبناء ديمقراطيته التي لا تزال قيد مخاض عسير,أنها مهمة صعبة لا يستوعبها خطاب اللحظة الهش ولا المغريات المؤقتة, أن شعبنا يتطلع إلى سياسيه الأوائل ذوي الحكمة والعزيمة المستديمة والذين ينتظرون الدعم والمساندة من قبل شعبنا أولا لإنفاذ العراق من براثن التخلف والجهل والأمية والتسقيط للأخر ونبذ الطائفية والتوافقية.

العراقي ورغم ضيق فسحة العيش والأمل مطالب اليوم باليقظة والحذر الشديدين من مغريات اللحظة الآنية في الانتخابات وعليه كما عرف عنه بنبذه للظلم والاستهتار بحقوقه أن يتوجه لأنتخاب كيان او حزب او قائمة تضمن له أصلاح النفس والدين والسياسية وتضمن لنا العراق في تنوعه الديني والعرقي والسياسي, عراق منفتح على الجميع في الداخل والخارج !!!.