لقد أجاد البعث مهمة إمساك المؤسسات بقبضة حديدية لا خدمة للأهداف البراقة التي رفعها شعاراً وإنما للسلطة كغاية في قلوب قيادات البعث المتقدمة … فهو لم يتقدم خطوة واحدة في خدمة الوحدة الوطنية … وأحلَ الكبت والإرهاب بديلاً للحرية … وأما الاشتراكية فكانت تطبيقاتها شبحيه إلتقاطية شكلية فلم يعد في الأصل لها من تخطيط ستراتيجي في وجدان البعث وتطبيقاته … المشكلة إن الطيف الواسع الذي رفع يافطة البعث اعتقاداً أو مصلحةً كان ذو ثقافة محدودة قاصرة … فلم يكن لدى البعثيين من ثقافة عقيدية … لها تصورها الخاص للكون والحياة من حيث البداية والغاية والنهاية … وإنما حالة تكرارية لتفسير أقوال عفلق المطلسمة التي أثقلت كاهل مجلد منهاج البعث … وانشغال بأقوال القائد الضرورة التي هي عبارة عن يوميات محارب بلا آفاق فكرية مستقبلية …
بعد ارتخاء قبضة القائد الحديدية انفضَّ الطيف الواسع بلا حصيلة ولا تعلق بفكر اسمه البعث وقد حدث بينهما طلاق بائن … وأما من لم يزل معتقداً بالبعث … فلا فكر يشدّه … بقدر ما هو حنينٌ إلى فردوس مفقود .. يجتهد في العودة إليه … ولو من خلال التعاون مع الشيطان أو الارتماء في أحضان هرم الرجعية الخليجية أو من خلال التحالف و الاختفاء خلف يافطة الكزكزانية والقاعدة والداعشية …
ولو كان البعث عقيدةً حقاً لنافح الآخرين بحججه العقائدية ولَناظر بطروحاته الفكرية ولقدّم حلوله البديلة لمشاكل الواقع…
لقد بات من الضروري جداً بيان ما خُفي من حقائق البعث كي يُحشر في الزاوية التي يستحقها … منها إن البعث نتاج الحرب الباردة ما بين المعسكرين الغربي والشرقي آواخر أربعينيات القرن الماضي … ذلك بأن الولايات المتحدة الأمريكية ظفرت بالحصول على القنبلة الذرية … بمساعدة العلماء اليهود عام 1944 فتسنى لها ضرب اليابان عام 1945 فحُسمت الحرب لصالح الحلفاء …
كانت المفاجأة بإعلان الإتحاد السوفيتي بامتلاك السلاح الذري عام 1947 وفيما أعلن نيكيتا خروشوف السوفيتي عن إنه سيثّور شعوب الشرق الأوسط ضد الغرب بالفكر الشيوعي … اقترحت بريطانيا تثوير الشرق الأوسط النفطي ضده على طريقتها الخاصة … فكان لها أن تستغل إضراب عمال شركة السويس المصرية باتهام الشيوعية بالوقوف وراءه فاقترحت دعم الإسلاميين هناك وكان تأسيس حزب الإخوان المسلمين في مصر … فيما وصل مدير المخابرات البريطانية برفقة كبير القساوسة الارثوذوكسي البريطانيين للقاء المسيحي ميشيل عفلق وأقتراح تأسيس حزب عربي قومي علماني يرفع شعار الاشتراكية كضد نوعي للاشتراكيين الماركسيين … يشهد بذلك العداء المفرط الذي يكنه البعث للشيوعيين ومسيرة الدم التي تحكم علاقة الطرفين على طول الخط …
ولعل الأخبار المؤكدة التي اسر بها الملك حسين حينما حكم البعث العراق بالتحالف مع عبد السلام محمد عارف عام 1963وكان تأسيس الحرس القومي كقوةٍ ضاربة تحمي البعثيين من أحتمال تآمر شريكهم عبد السلام عارف الذي كسب ضباط الجيش إلى جانبه وبعد إسقاط الحكم الوطني في العراق وإعدام الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم كان من أولويات الحرس القومي البعثي إجتثات الشيوعيين من الجذور … وحيث أن ال CIA المخابرات المركزية الأميركية كانت هي من تزود قيادة البعث بقوائم تحتوي على أسماء الشيوعيين و عناوينهم حتى بلغ عدد المقوتلين منهم ما يزيد على 500 عضواً .. على مدى تسعة أشهر فقط .. فيما زاد عدد من غصت بهم السجون على ال 10000 عشرة آلاف عضواً ذلك بشهادة حليف الولايات المتحدة الأمريكية الملك حسين ملك الأردن … وسرعان ما إنقضَّ حليف البعثيين عبد السلام محمد عارف على الحكم وأودعهم السجون لكنه لم يجرؤ على إعدام بعثي واحد … وهذا شيء غير مألوف في واقع الأحزاب العراقيية المتصارعة على الحكم والتي تعتمد في العادة إلغاء الآخر.على إن علي صالح السعدي أمين سر قيادة البعث في العراق هو من أفصح في جلسة سكرعن حقيقة كانت في الخفاء والكتمان حيث قال :-
“إننا جئنا لحكم العراق من بيروت بقطار انكلو-اميركي” …
وبواسطة هذا القطار عاد البعث إلى حكم العراق ثانيةً بعد نكسة حزيران إمتصاصاً لنقمة الشارع العربي الثائر على أنظمته الرسمية بفعل مرارة الهزيمة … عاد البعث في 17 تموز عام 1968 كثمرة نشاط بشير الطالب ممثل الشركات النفطية الغربية في بيروت وبإغراء وكيل الإستخبارات في نظام عبد الرحمن عارف عبد الرزاق النايف … والذي وصفه قريبه الرئيس المخلوع عبد الرحمن عارف بإنه عميل الشركات النفطية … فكان الإنقلاب استلام وتسليم … كما يتسلم أمين مخزن الذمة من أمين مخزن قبله بسبب احالته إلى التقاعد … !
عاد البعث ليؤدي دوره المرسوم منذ أيام الحرب الباردة فأستكمل المشوار بإجتثاث من بقي من الشيوعيين بواسطة إغرائهم في الدخول إلى ما يسمى بالجبهة الوطنية التقدمية عام 1973 … ليسهل كشف كل خلاياهم … فكانت الضربة القاضية على يد جلاد البعث ناظم كزار مدير الأمن العام آنذاك …
لقد أُبكمت السن المنادين بحقوق الإنسان … وأُخرست افواه المنظمات الدولية عن تلك الجرائم … لا لشيء إلا أن البعث قد أحسن ما أوكل إليه من دور …
وبعد تلاشي دور الشيوعيين … جاء جاء دور الحركيين الشيعة الذين اخترنت الذاكرة البريطانية بمرارة العلاقة السلبية معهم بما يضمرون من حقدٍ عليها وعلى الغرب المستعمر عموماً … فقد قالت مسز غرترود بيل السفيرة الشرقية في السفارة البريطانية وهي لا تخفِ مرارتها بعد مقاومة الشيعة للإنكليز في ثورة العشرين الكبرى “إني لأبتهج حين أرى هؤلاء الشيعة (الأغراب) في حرج شديد لإنهم أشد الناس مراساً في هذه البلاد”.
فكيف تهنأ بريطانيا وسيدتها أميركا في أن ترى الشيعة قد عادوا إلى تنظيم شبابهم من خلال حركات سياسية ثورية تحيي شعلة الثورة في النفوس بعد أن دخل الجسد العربي في سبات التخدير والترويض والتهجين فما كان من البعث إلا أن يستأنف الدور فضرب الوجود الشيعي المرجعي والحركي دونما رحمة …
ولكن الله في عون المظلومين … حيث هجم كلب الله اميركا على عدو الله صدام … وانهار بناء الظلم على رؤوس بناته …
وعاد ذلك العرش المخيف كارتونياً هزيلاً أمام بطش القدر ..
وأنتهت وثائقية البعث كفلمٍ ليس كبقية الأفلام … فالمهزوم فيه هو بطل الفلم … وليس ذلك سوى عقوبة القدر …
على إن آخر مسمار دُق في نعش البعث هو كينونته الحاضن للإرهاب … وإذا كان البعث يقتل إبان حكمه بالمفرد … فقد أمسى وهو يستقتل لإستعادة السلطة يقتل بالجملة وإن كانت وسيلة ذلك جهنمية وغير إنسانية …سيارات مفخخة أو احزمة ناسفة أو كواتم. وليس خافٍ على أحدٍ أبداً أن كلُ التشكيلات الإرهابية من جيش محمد إلى جيش الصحابة إلى فيلق عمر إلى جحفل ابي بكر إلى الكَزكزانية إلى … إلى … إلى داعش الإسلامية .. تُدار من قبل قيادات البعث الطائفية منها وقادتها الميدانيون ضباط الحرس الجمهوري وفدائيو صدام … وإذا كان الراعي للحزب الواحد القائد .. قدر العرب … صاحب الثالوث المقدس … هو تركيا اوردغان والسعودية الوهابية وقطر الإخوانية … فقد أنصفتنا شمس الحقيقة … بفضح حقيقة البعث .