البطالة تشكل هدراً متعسفا ومفرطا للموارد البشرية.. وهي في حقيقتها أنموذج سيئ من نماذج الهدر المتعسف والمفرط للموارد البشرية الفاعلة.. وهي الظاهرة السلبية الأكثر إيلاما للفرد والمجتمع وللدولة على السواء.. وهو ما يضعها في مكان الصدارة من جميع البرامج والخطط الوطنية.. التي تهدف الى النهوض بالمجتمع.. وتأهيل الاقتصاد الوطني.. وخلق المقدمات الضرورية لتنمية مستدامة والتصدي لمعضلاتنا المزمنة بجدية وبحزم.. ولعل العمل على مواجهة هذه الظاهرة والحد منها وخفض معدلاتها بشكل واضح يتطلب وقتا غير قصير وخططا عملية وعلمية.
خيارات صعبة
وهذا يفرض خيارات صعبة ومحدودة للغاية.. ورصد ما يترتب على موضوعة البطالة من نتائج تنعكس سلبا على السلوك والشخصية في المستويين الفردي والاجتماعي.
في المجال الشخصي:
إن فقدان العمل أو تعذر الحصول عليه.. لأسباب خارجة عن إرادة الفرد.. يعني فقدان الفرد لمصدر دخله.. الذي يعد ضروريا لتأمين شروط الحياة الكريمة له ولمن يعيلهم.. وبالتالي يضعه أمام خيارات صعبة:
ـ فقد يلجأ تحت ضغط الى الاعتماد على الغير لتغطية تكاليف حاجاته المعيشية ..ما قد يقع تحت تأثير مشاعر الدونية والانتقاص من الذات.. إضافة الى ما يصاحبها من مشاعر الإحباط والإحساس بالفشل.. وهي مشاعر وأحاسيس سلبية تؤدي بالفرد الى حالة دائمة من التوتر والشعور بالضيق والعجز عن التكيف مع متغيرات الحياة الاجتماعية.. وحالات يتعذر التنبؤ بها من اضطرابات السلوك والشخصية.
ـ كما إن الفرد العاطل غالبا ما يفقد الشعور بالرضا عن الذات وعن الجماعة.. وهو يفقد إحساسه بقيمة (الحياة المنتجة).. مستسلما لمظاهر انفعالية مؤذية كالحسد.. والغيرة.. وكراهية الذات.. والآخرين.. واليأس وإساءة الظن بالهيئة الاجتماعية بشكل عام.
ـ الى جانب ما هو متوقع في مثل هذه الحالات من نوبات الاكتئاب التي تمسك بتلابيب الفرد العاطل.. لتشل ما بقي من نشاطه وفاعليته.
ـ إن خطورة هذه المشاعر والأحاسيس التي تستحوذ على الفرد العاطل.. وان كانت بدرجات مختلفة تكمن في كونها من وجهة نظر علم النفس وعلم الاجتماع مقدمات خطيرة من شأنها أن تمهد لتفكك المنظومة القيمية لديه.. ليكون على المستوى النفسي/ ألقيمي مستعد للانخراط بأنواع (السلوك المضاد للمجتمع).. والتورط في أشكال من الانحرافات السلوكية.. وإشكال مختلفة من الجريمة قد تبدأ بالسرقة.. والسلب.. وتجارة المخدرات,, لتصل الى القتل.. وأعمال الإرهاب.
في المجال الأسري:
ـيظهر في هذا المجال في الحالات التي يكون فيها العاطل مسؤولاً عن إعالة آخرين.. مما يترتب على بطالة مثل هؤلاء الأفراد نتائج سلبية تتجاوز حدوده الشخصية.. الى ما قد يلحق الأسرة من أضرار بالغة الخطورة.. لعل من أبرزها: وقوع العائلة في دائرة (الفقر).. بكل ما قد يترتب على ذلك من نتائج ومردودات سلبية معروفة من بينها (التفكك الأسري).. وما يقضي إليه من: التشرد أو التسول.. واللجوء الى أساليب الكسب غير المشروع.. أو السقوط في وهاد السلوك الإجرامي والبغاء.
ـ وتؤشر جميع الحالات السابقة من تصدع (نظام العائلة) والتفكك الأسري.. الى تحول العائلة عن أدوارها الاجتماعية.. والإنسانية البناءة.. كمؤسسة للتنشئة والتربية السليمة.. الى واحدة من مصادر الانحراف والجريمة.. التي تهدد الهيئة الاجتماعية ككل والسلم الأهلي بخاصة.. وهي تضخ الى المجتمع المزيد من المتسكعين والمنحرفين والعاطلين عن العمل.
في المجال الاقتصادي:
يعد المجتمع وبناؤه الاقتصادي.. السلة التي تتلقى كل مفرزات البطالة.. سواء منها ما كان على المستوى الشخصي أم على المستوى الأسري.. وما يرشح عن هذين المجالين من نتائج خيرا كان أم شراً.. فان مآلها الى الهيئة الاجتماعية وبناءها الاقتصادي.. الذي هو العمود الفقري لها.. وان مقذوفات المجالين السابقين.. مما يترتب على البطالة.. من نتائج تعنيهما.. إنما ينتهي أخيراً الى السلة الاجتماعية.. وان هذه النتائج في معظمها تشكل تهديداً جدياً ومباشرا على (النمو الاقتصادي) و(السلم المجتمعي).
فضلا عما ينتج من تدن في معدلات الدخل.. وما يؤدي من تدهور في القدرات الشرائية.. وبالتالي ينعكس كل ذلك على تباطؤ النمو الاقتصادي وتراجعه فيما بعد وتلكؤ التنمية، وهو ما يعني فقدان المزيد من الوظائف وفرص العمل، بما يؤدي الى ضخ أفواج جديدة من العاطلين.. واتساع دائرة الأزمة وتفاقم نتائجها.
في المجال الاجتماعي:
من نتائج البطالة على المستوى الاجتماعي.. الهجرة الى خارج الوطن.. وهي نتائج كانت للبطالة اليد الطولى فيها.. فالسعي وراء لقمة العيش والبحث عن فرص العمل (النظيف) تدفع بالعاطلين الى التفتيش عن العمل خارج حدود الوطن.
ولا يخفى ما للهجرة من نتائج سلبية على المستوى الاجتماعي.. بما فيه المستوى العائلي.. أو على المستوى النفسي الشخصي.. إذ يجد الفرد نفسه بعيدا عن محيطه الأسري والاجتماعي.. وهو يفقد الكثير من مصادر (الدعم) والشعور بالأمان.. كما انه يحتاج فترة غير قصيرة لإعادة تأهيل نفسه.. وتمثل خصائص محيطه الجديد والتكيف لها.. كما إن إخفاقه في هذه المهمة.. وهو محتمل، يعني المزيد من المعاناة.. وقد تكون كافية لاضطرابات متنوعة في الشخصية والسلوك.. بما يقربه من مصادر الانحراف والعنف والجريمة.
ولعل الوجه الأخر للهجرة نزوح الأعداد الكبيرة من القادرين على العمل والمؤهلين له وأصحاب الكفاءات.. كل ذلك تفريط جائر بقوة عمل مؤهلة يكون المجتمع قد خسرها وهو يمنحها بالمجال لدول المهجر.
ولعل من بين اشد مفرزات البطالة ونتائجها وطأة على المجتمع العراق هي: تلك التي ترتبط بالجوانب الأمنية.. فهي تعد من بين أسوء مصادر السلوك المضاد للمجتمع.. فتحت وطأة الحاجة وضغوط الفراغ.. وما يترتب جراءها من مشاعر (الاغتراب) والضياع يكون العاطلون أكثر ميلاً واشد استعداداَ للسقوط في شراك الأعمال غير المشروعة.. وصيداً سهلاً لشبكات العنف والإرهاب والجريمة بكل أبعادها واتجاهاتها.