ما أكثر الذين يبيعون أنفسهم في أسواق الكراسي والسلطات , وهذه ظاهرة سلوكية مرافقة للبشرية منذ إنشاء الدول ومراكز القِوى , ولا يكاد عصر من العصور يخلو من الذين يجعلون أنفسهم بضائع يبيعونها في مجالس الكراسي , ويتحولون إلى أبواق تترنم بالمديح , وإطلاق التوصيفات الخيالية على أولياء نعمتهم , ويجتهدون في تبرير مآثمهم وتسويغ خطاياهم , ويرفعون من شأنهم إلى آفاق القدسية والألوهية , وهؤلاء فقهاء وعلماء وكتاب وشعراء , وغيرهم من الذين يتاجرون بأنفسهم , ويتبضعون من السلاطين والحكام.
وفي واقعنا المعاصر صارت أعدادهم بالمئات , وقد توفرت لهم منافذ التعبير عن أصواتهم البغيضة , التي تعادي الحقيقة وتتملق لقوائم الكراسي , وتتعبّد في محاريبها , فتأتيك بأقوال وإفتراءات يندى لها جبين الكلمة , ويتمرغ رأس العبارة بالخنى.
إنهم يكتبون ويخطبون ويُشعِرون , وأصواتهم تلعلع في وسائل إعلام الكراسي , ويتم تسويقهم وإظهارهم على أنهم قادة الفكر والثقافة والذين يستحقون القراءة والمتابعة , وتنهال عليهم المكرمات والشهادات التقديرية والأوسمة , ويُحسبون من ذوي الشأن الثقافي والفكري والمعرفي , وما هم إلا أبواق رخيصة لتمرير مظالم الكراسي على الوطن والمواطنين , وبسببهم يتمادى الحكام بغيهم , ويتنامى جورهم , ويتفاعلون بعدوانية وعنجهية مع الشعب , وبائعي أنفسهم يهللون ويبوّقون ويطبلون لأفعالهم القبيحة الشنعاء.
هذه الظاهرة السلوكية المتكررة , تؤثر في مسيرة الحياة في أي وطن , وتحوّل الشعب إلى حالات متصارعة , فيها الظالم والمظلوم , والجشع الثراء والمهموم بالفقر والحاجات المريرة , وبين مقهور وميسور , تمضي عجلة الأيام على سكة الوجيع.
وتبقى الأقلام الحرة , وأصحاب الرسالات النبيلة السامية في معزل عن المجتمع , ويتعرضون لأصناف المصدات والمعوقات والتشويهات , فالحقيقة لا يجوز تسويقها , فآلة الحكم أكاذيب , وعلى الناس أن تصدق الأباطيل , وتحسب الحق باطلا.
وتلك إرادة الإستحواذ والإستبداد والطغيان , وإن قال أصحابه غير ما يفعلون.
فالفعل أصدق أنباءً من الكذب!!