لم يستقر نظام الحكم في العراق على نمط محدد، فهو بدأ ملكيا منذ تاسيس الدولة العراقية في 1921، ومن ثم جمهوريا بعد ثورة 1958 ولاحقا مزيجا بين الملكي والجمهوري، فمنذ 1963 حيث انقلب عبد السلام عارف على زميله عبد الكريم قاسم، توالى الأخوان عارف على الحكم حتى تمكن منهما حزب البعث في انقلاب 1968.
وبسقوط عائلة عارف دخل العراق حقبة سوداء، لم يكن فيها وصف الدولة يصدق عليه تماما، فالبعثيون أداروا طاحونة الموت ضد مناوئيهم دون توقف حتى سقوطهم في 2003 بتدخل دولي، وكان نظام الحكم في ظل حزب البعث وراثيا حقيقة جمهوريا شكلا.
بدأ البعث حكمه بأحمد حسن البكر، وقد حكم العراق منذ 1968 الى 1979 وأطيح به في انقلاب من قبل نائبه صدام حسين الذي حكم البلاد منذ 1979 وحتى سقوطه في 2003.
في سنوات حكم البكر احتكر البعث السلطة لأعضائه فقط ولم يسمح لجهات سياسية أخرى بمنافسته عليها، فكانت”نظرية توريث الحزب” هي السائدة. أما في ظل حكم صدام حسين فكان العمل داخل أروقة النظام على توريث عائلته وتحديدا أحد ولديه، عدي وقصي.
وبهذا انتقل الحزب من الإيمان بنظرية أحقيته في وراثة حكم العراق إلى أحقية أسرة صدام بالوراثة. ولكن بعد سقوط البعث في 2003 جاء الدستور العراقي الذي أقر في 2005 بنمط جديد من الحكم نصت عليه المادة الأولى بالقول إن” جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة كاملة ، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي ـ برلماني ـ ديمقراطي وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق”.
وفي المادة” 116″ تم النص على أن” يتكون النظام الاتحادي في جمهورية العراق من عاصمة وأقاليم ومحافظات لا مركزية وإدارات محلية”. وتم النص على آلية تحول المحافظات إلى اقاليم بحسب رغبة سكانها أو ممثليها في حكومتها المحلية، ولم يقصر الدستور حق التحول إلى إقليم على محافظة بعينها.
البصريون يطالبون بالإقليم
على مدى الشهرين الماضيين ارتفعت نبرة المطالبات في البصرة لتشكيل إقليم تختص به المحافظة، وانبرى ناشطون على اختيار علم لإقليمهم المنشود وحظيت هذه الحركة بتأييد بدا متصاعدا بسبب ما يقوله البصريون من التهميش والحيف الذي لحق بهم جراء تفرد الحكومات في بغداد بالقرار والثروة.
ومع أن الجماهير البصرية المطالبة بالإقليم تتحرك دون غطاء سياسي من ممثليها في الحكومة المحلية والبرلمان، إلا أن الصوت العالي الذي تصدح به حناجر المطالبين بالإقليم قد أحرج الاحزاب السياسية الشيعية التي ادّعت دائما تمثيل البصريين والمواطنين الشيعة في المحافظات الأخرى.
وكنوع من التصدي للمطالب البصرية بتشكيل إقليم البصرة لجأ أنصار الأحزاب السياسية وبعض قادتها الى محاولة إقحام المرجعيات الدينية والادعاء بإنها ترفض اقامة الاقاليم في هذا الوقت.
لكن هذا الإدعاء بدا أشد حرجا بالنسبة لهذه الاحزاب والمرجعيات الدينية أيضا لأن الدستور كان واضحا وصريحا في وصف نوع الحكم في العراق بأنه”ديمقراطي اتحادي” وما زال العراقيون يتذكرون جيدا دعوات الاحزاب والمرجعيات الدينية لهم بتأييد الدستور والتصويت عليه.
فمن غير المنطقي إذن أن تعود المرجعيات الدينية إلى معارضة ما كانت أقرته سابقا ورفض ما قبلته، فهذا الموقف سينال كثيرا من مقام المرجعية ويُضعف من هيبتها التاريخية في نفوس مقلديها.
وبالعودة قليلا إلى الوراء، فإن الخلفيات السياسية والفلسفية التي دعت ممثلي الاحزاب السياسية الذين كتبوا الدستور الى تبني نظام الحكم الفدرالي والنص عليه في الدستور، يعود الى كون هذه الاحزاب التي عارضت حكم حزب البعث واتهمته بالتفرد بالسلطة كانت حريصة على عدم تكرار تجربة النظام الشمولي وتوزيع السلطة والثروة بين المحافظات والاقاليم العراقية لمنع الانقلابات العسكرية والطغيان السياسي.
لكن المفارقة ان هذه الاحزاب تخلت عن فلسفتها هذه تحت نشوة السلطة والمال وصارت تتبع تدريجيا اساليب شمولية في ادارة الدولة العراقية وتتعمد تهميش المحافظات وتبتلع صوتها وتستحوذ على ممثليها في الحكومات المحلية والبرلمان دون ان تتيح لهم التمثيل الحقيقي لناخبيهم.
وإلا فمن غير المقبول سياسيا أن يقف السياسي وقد جاء بأصوات الناخبين في محافظته، ضد تطلعات ناخبيه ويتبع حزبه وقائد كتلته السياسية في تحد واضح لمشاعر جمهوره، وأن لايطالب بحقوق المحافظة التي يمثلها وهي تعيش أسوأ حالاتها خدميا ومعيشيا واقتصاديا وسياسيا.
فالبصريون المطالبون بالإقليم لم يكونوا مترفين بمطالبهم هذه إنما جاءت هذه المطالب بسبب ما يعانون من تهميش لم يسبق أن عاشوه حتى في ظل أشد الأنظمة بطشا، ففي ظل الاتفاق الاخير الذي ابرم بين اربيل وبغداد حصلت اربيل على 150 الف برميل نفط يوميا من كل 400 الف برميل.
ومن حق البصرة ان تطالب على الأقل بتطبيق هذا الاتفاق عليها ايضا فتحصل على ما يقرب من 900 الف برميل يوميا لصالحها لتحسين أوضاع ابنائها المعيشية والخدمية والصحية، ولا يمت الى العدالة في شيء أن تعاني من استحواذ شركات النفط على معظم الاراضي الزراعية ومن تلوث بيئي بسبب عمليات استخراج النفط دون أن يكون لها نصيب من هذه الثروة الهائلة التي تزخر بها أرضها.
والبصرة تعاني ايضا من نسبة بطالة تصل الى 35% فيما يعمل الهنود والبنغاليون والعرب والعراقيون من محافظات اخرى في الحقول النفطية في المحافظة، والبصرة لم تُمثل في الحكومة الاتحادية إلا بوزارة هامشية بينما مُثلت إحدى المحافظات غير المنتجة بنحو سبعة وزراء.
كما ان البصرة قد استثنيت من التمثيل السلك الدبلوماسي، فلم يكن اي من ابنائها سفيرا او ملحقا ثقافيا او عسكريا او موظفا عاديا في سفارات العراق في الخارج، بل حتى مدراء الدوائر في محافظة البصرة معظمهم من محافظات اخرى جاءت بهم الاحزاب السياسية.
وهذا ظلم كبير سيقود السكان في البصرة إلى الغضب وقد يؤدي ذلك الى تنامي حالة الرفض، وقد رأينا كيف تحولت الاحتجاجات في المحافظات السنية الى حرب شاملة بعد أن بدأت باحتجاجات سلمية.
لذا يتعين على الاحزاب السياسية أن تنظر بعين الجدية الى احتجاجات البصريين ضد التهميش والإقصاء والاستحواذ على الثروة، فالحرائق الكبيرة بدأت بشرارة صغيرة، والبصريون المطالبون بالإقليم مصرّون هذه المرة على الظفر بهذا المطلب، وبدأوا بنظم أمرهم وتشكيل رابطات في كل المناطق التابعة للبصرة.
ويبدو أن هذا الحراك الشعبي يملك فرصة كبيرة في النجاح خصوصا وأنه يحظى بدعم من العشائر البصرية بشكل متزايد كما ينظم اليه باستمرار اشخاص كانوا محايدين.