الحديث عن مدينة البصرة -550 كم جنوب بغداد- المدينة التي أهملت وضيع أهلها منذ العام 2003، وحتى اليوم، هو تماماً كالحديث عن بقية مدن العراق التي شهدت ربكة سياسية وأمنية وخدمية واضحة، لكن ربما البصرة لها حالة مختلفة، وربما أصابها من الإهمال والخراب أكثر مما وقع على غيرها من مدن الجنوب العراقية الأخرى.
البصرة كانت مدينة للتعايش السلمي والاجتماعي في العراق قبل مرحلة الاحتلال الأمريكي، وكانت البصرة ثغر العراق الباسم، وكانت البوابة التي تنثر الخير للبلاد على الرغم من كل كوارث الحصار وقوى الشر التي أرادت أن تضرب البلاد لكن بقيت البصرة هي المتنفس الاقتصادي الذي يجمع أهل العراق على مائدة واحدة.
أهالي البصرة كانوا ضحية لعمليات تهجير طائفية نفذتها عصابات محسوبة على العراقيين لكنها – في الغالب- نفذت جرائمها لصالح أجندات أجنبية.
وبدأت جرائم التهجير القسري في العراق بعد احتلاله عام 2003 ” انطلاقاً من مناطق الجنوب، حيث شهدت البصرة القديمة وأبو الخصيب والزبير والمعقل عمليات تهجير منظمة ضد العرب السنة، وامتدت إلى مناطق أخرى في البلاد”.
وجرائم التهجير خطط لها عبر عمليات اغتيالات منظمة لوجهاء البصرة، ثم بعد ذلك بدأت عمليات التهجير، وأرادوها حرباً أهلية سنية – شيعية لكن غالبية عقلاء البصرة آثروا ترك مدينتهم لحين انتهاء الأزمة، والعودة لها ثانية، وهذا ما لم يتحقق بشكل كامل حتى اللحظة!
المئات من العوائل البصرية – وربما الآلاف- هجرت من منازلها، ولا توجد إحصائيات دقيقة عن أعدادهم، وهم يتواجدون اليوم في بغداد، وفي مدن شمال وشرق العاصمة، وهنالك الآلاف منهم في دول المهجر!
الجرائم التي نفذت في البصرة من اغتيالات واعتقالات وتهجير لم تكن عبثية، أو عشوائية، وإنما كانت لغايات تغيير ديموغرافي ولأهداف سياسية واضحة، ويمكن القول إنها نجحت بدرجة ما في تحقيق أهدافها.
وقد برزت عمليات التهجير القسري بشكل كبير جداً في البصرة وغيرها” بعد حادثة تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء في 22 فبراير/شباط 2006، بعضها يهدف إلى تصفية بعض المحافظات من أي تنوع ديمغرافي، دينيًا كان أم مذهبيًا أم اثنيًا، كما هي الحال في البصرة وذي قار. وبعضها الآخر يهدف إلى إعادة التوزيع الديمغرافي داخل المحافظة نفسها لإنتاج مناطق صافية طائفيًا، كما هي الحال في ديالى ونينوى وبابل”.
وبالمجمل فإن الحديث عن أعداد العوائل المهجرة من البصرة غير ممكن بسبب غياب الإحصائيات الرسمية، التي يمكن أن تحدد نسبتهم داخل العراق وخارجه، ولكن بالمحصلة نحن أمام كارثة إنسانية أدت إلى موجات نزوح منظمة من المدينة إلى الموصل قبل أن تحترق وتكون غير آمنة، والى ديالى وبغداد والأنبار وغيرها من مدن البلاد، وأبناء هذه المدن جميعهم كانوا الأم الحاضنة لأهالي البصرة، لكن – وبعد أن استقرت بعض الأمور نسبياً في المدينة- حاول بعض أبناء البصرة في كل ما يملكون من جهد وعلاقات أن يرتبوا عودتهم للمدينة، وفعلاً تمت إعادة العديد من العوائل هناك، لكن نسبة ليست قليلة لم تتمكن من العودة حتى الساعة!
ومن حيث أعداد المهجرين يمكن القول إن العام 2006 ” كان هو العام الأعلى في عمليات نزوح العراقيين داخل وخارج البلاد، حيث وصل عدد المهجرين قسرياً في هذا العام نحو 2 مليون و310 ألف نازح، وتؤكد تقارير حقوقية إلى أن هذه الأرقام للنازحين المسجلين رسميا، بخلاف الذين تم تهجيرهم إلى أماكن أخرى أو فروا إلى خارج البلاد دون أن تم تسجيلهم”.
المؤامرات التي حيكت على البصرة متنوعة ودقيقة، ورغم كل محاولات التضليل الإعلامي والسياسي، وجدنا أن أهالي البصرة نظموا هذا العام مظاهرات رجولية، وهذه المظاهرات ليست جديدة، وهي مظاهرات متجددة مع كل فصل صيف ملتهب في العراق، وربما يمكن القول إنه ومنذ صيف عام 2010، وحتى الساعة تتجدد المظاهرات الموسمية لأهالي البصرة وبقية مدن الجنوب مطالبين بتحسين أوضاع الطاقة الكهربائية بسبب الارتفاع المخيف في درجة حرارة، التي تتجاوز الـ(60) درجة مئوية في فصل الصيف.
حكومة بغداد – وبعض المتابعين غير الدقيقين– ظنوا أن هذه المظاهرات ستنتهي بانتهاء موسم الصيف، لكن – ومع التحسن النسبي في درجات الحرارة في معظم نواحي العراق- مازالت مظاهرات مدن الجنوب، وبالذات في البصرة مستمرة بشكل غير متوقع.
اليوم نحن أمام مظاهرات وصلت إلى مرحلة حرق المقار الحزبية والرسمية للدولة، وهذا تطور يؤكد أن المواطن العراقي البصري قد فهم تماماً أن اللعبة هي لعبة خداع سياسي، وليست قضية عجز حكومة عن توفير خدمات المواطن.
المواطن البصري اليوم غاضب بشكل لم يكن في حسابات الحكومة؛ ولهذا رأينا المواجهة، أو التعاطي الهمجي الحكومي مع هذه المظاهرات، ورأينا أن الحمايات الرسمية لدوائر الدولة قد استخدموا السلاح الحي ضد المتظاهرين، وكذلك فعلت الحمايات الخاصة بمقار الميليشيات، التي بدأت بالرمي العشوائي الحي على المتظاهرين!
مظاهرات البصرة كانت فاتورتها باهظة الثمن إذ فقدت البصرة أكثر من 30 شاباً، ومئات الجرحى، نتيجة هذا الرمي غير المنطقي من قبل القوات المتواجدة في المدينة، التي يفترض أن تتعامل بروح أخوية مع المتظاهرين السلميين في مدينتهم.
الانعطافة الخطيرة في توجه المتظاهرين نحو حرق المقار الحزبية جاءت بعد وعود حكومية رسمية بأن الحكومة ستسعى خلال أيام إلى تحسين أوضاع أهالي البصرة لكن الذي جرى أن المدينة مازالت تعاني الإهمال، بل إن بعض مقاطع الفيديو أظهرت أن المياه التي ادعت الحكومة أنها وفرتها لأهالي البصرة تحتوي على الغاز، وهذا الأمر لأول مرة يحدث في تاريخ العراق أننا نرى مياه ممزوجة بالغاز!
وهذا يؤكد أن الحكومة لا تهتم بصحة المواطن العراقي، وكل ما يعنيها هو كيفية استمرار اللعبة السياسية حتى لو كان ذلك على حساب حياة وصحة ومستقبل العراقيين، الذين لا يعلمون إلى أين تتجه الأمور في بلاد يحكمها زعماء يدعون أنهم جاؤوا من اجل تقديم الأفضل للبلاد إلا أن تجارب السنوات الماضية – وبالذات بالنسبة للجمهور الذي تنتمي إليه الحكومة- أثبتت بما لا يقبل الشك أن هذه الحكومات هي حكومات فاشلة بامتياز، ولا يمكن الصمت أو السكوت على هذا الفشل الذي لم يعد له أي مبرر قانوني، أو مادي، أو منطقي!
التطور الخطير الآخر تمثل في إحراق المتظاهرين لقنصلية البصرة، وهذا تطور لم يكن متوقعاً، وفيه رسالة واضحة لإيران ومن يقف معها أن شيعة العراق فهموا اللعبة، وأن إيران تلهث وراء كصالحها فقط، ولا يعنيها أيّ شيء آخر!
قضية العراق تتلخص بأن حكومات بغداد لا تريد أن تعترف أنها حكومات فاشلة، وبالتالي الأوضاع في العراق بحاجة إلى ثورة شعبية شاملة تمحو هؤلاء من الساحة العراقية، وتطلق العنان لبداية مرحلة جديدة في بلاد لم تر، ولم تنعم بالقوانين منذ أكثر من ثلاثين عاماً.
أخيراً هل ستجهض حكومة بغداد مظاهرات الغضب البصري، أم أن أهالي البصرة سيكون لهم كلمة الفصل والحسم مع الحكومة لإنقاذ العراق وبناء دولة المواطنة؟