23 ديسمبر، 2024 4:56 ص

البصرة الفيحاء … تاريخ لامع … و رجال أفذاذ

البصرة الفيحاء … تاريخ لامع … و رجال أفذاذ

ليس من السهل أن تكتب عن مدينة مثل البصرة , فمهما كتبت عنها فلن تفيها حقها , و مهما أسهبت في وصفها فلن تصل إلى حقيقتها , و مهما توغلت في أسرارها ستجد نفسك عاجزاً عن الإلمام بها , و مهما حاولت الولوج إلى أعماقها ستجد نفسك لا تزال واقفاً عند ساحلها , يحلو الحديث عن هذه المدينة التاريخية الجميلة , مدينة يتنفسها الحب كما تتنفسه هي , فأنت لا تستطيع مقاومة إغراء الكتابة عنها , متعة ما بعدها متعة أن تكتب عن البصرة ,, هذه المدينة السندبادية المسكونة بعبق التاريخ , لا تترك لك فرصة لالتقاط أنفاسك , لانها تلاحقك دائماً بخيراتها و ثمارها وعطاياها , نعم , البصرة أعطت ولا تزال تعطي … كل شيء… للعراق .

و أنك لتحار من أين تبدأ و بماذا تنتهي عند الكتابة عن مدينة رابعة العدوية , مدينة البرحي و الحناء , ومن لم يذق البرحي لم يعرف للتمر طعماً , البصرة تغفو و تصحو على هدير مياه شط العرب , هذه المياه النازلة من شمال العراق إلى جنوبه , حاملة معها أنفاس سكان معظم مدن و قصبات العراق, لتلقي السلام و التحية , ربما تحية وفاء و شكر للبصرة , قبل أن تنساب إلى الخليج العربي . نهر شط العرب يولد عند قضاء القرنة ( 80 كم شمال البصرة ) و الولادة تحصل عند التقاء النهرين الخالدين دجلة و الفرات , ولو ذهبت إلى دار استراحة القرنة المطلة على النهرين , و وقفت في شرفة هذه الدار , ستشاهد منظراً صاغته الطبيعة و لا أروع , ان نظرت إلى اليمين سترى الفرات قادماً بلهفة , و ان نظرت إلى اليسار سترى دجلة قادماً بشوق , و كيف لا يكون هناك شوق و لهفة بعد أن قطعا اكثر من 1000 كم لإتمام هذا اللقاء , و تصطدم و تختلط المياه بالمياه و بعنف , فلقاء الأحباب بعد فراق يكون حميماً و أحياناً عنيفاً , و يتحد النهران ليكونا نهراً واحداً , و كل هذا تراه على بعد أمتار منك , و بعينك المجردة و بالصوت و الصورة , و يبدأ النهر الجديد أو المولود الجديد ” شط العرب ” بالجريان نحو البصرة , و بما انه قد ورث صفة الكرم و الجود من إمه و أبيه دجلة و الفرات , لذلك تراه عندما يصل إلى البصرة ( يكون بعرض نصف كيلومتر تقريبا ) يتمهل قليلاً ليظهر شيئاً من هذا الكرم , فالنهر لا يريد أن يمر مرور الكرام على البصرة دون أن يجود عليها بما يحمله من خير , فدخلت مياه النهر إلى البصرة من خلال عدد من الأنهر شقت ارض المدينة من عدة أماكن , كي يرتوي الزرع و الضرع من هذه المياه المباركة , وتم بناء الجسور على هذه الأنهر كي يتمكن الناس من الحركة داخل المدينة عبر هذه الجسور , مما أضاف إلى المدينة حيوية و جمالاً , و المدن التي تخترقها الأنهار ( و ليس نهر واحد فقط ) تنبض بالحياة أكثر من غيرها , و ربما هذا واحداً من أسرار البصرة , هل هناك أجمل من عبور جسر مشياً و الوقوف للنظر إلى المياه تنساب من تحته .

أهل البصرة و مبدعيها قدموا الكثير من المنجزات الرياضية و الأدبية و الفنية سواء لمدينتهم أو للعراق , و إسمحوا لي أن أقدم بعض ما تسعف به الذاكره من أسماء … لان لا احد بقادر على ذكر او تذكر مبدعي البصره دون نسيان البعض منهم … و أعتذر شديد الاعتذار إن خانتني الذاكرة بذكر من يستحقون الذكر … و اليكم بعض الاسماء اللامعه : الرباع الاولمبي عبد الواحد عزيز ( أبو علي ) الحاصل على الوسام البرونزي في أولمبياد روما عام 1960 وهو الوسام الاولمبي الوحيد الذي يمتلكه العراق و لحد الآن … كرمته الدوله لاحقاً ( زمن النظام السابق ) باصدار طابع بريدي يحمل صورته و إسمه … حمزة قاسم ( زوجته الفنانة القديرة سليمة خضير ) حارس مرمى منتخب البصره و لاحقاً منتخب العراق , مباريات كرة القدم بين منتخب البصرة و الفرق الأخرى سواء من بغداد أو خارج العراق كانت بعضها تقام على ملعب الثانوية المركزية وسط العشار , و كانت الفنانة سليمة خضير تأتي الى الملعب و تجلس في الطابق الثاني المطل على الملعب لمشاهدة زوجها حمزة قاسم … اللاعبين … هادي أحمد … علاء أحمد … رحيم كريم … صبيح عبد علي … عادل خضير … هاتو … فالح وصفي … محمد منثر … لاعب نادي الشرطة جاسب شند , أولاد شند كانوا جميعاً لاعبين من الطراز الأول … الأخوين جميل حنون و جليل حنون … و الأخوين الآخرين محمد نهر وعلي نهر … المدافع الأسمر العملاق منصور مرجان … الرباع محمود رشيد … الملاكمان علي عبد الامير و الأسمر زبرج سبتي الحاصلان على بطولة العراق بالإضافة بعض البطولات العربية و الآسيويه … نادي الميناء الذي خطف كأس الدوري العراقي بكرة القدم من أندية بغداد العريقة لأول مرة في تاريخ الدوري العراقي احد أعوام السبعينات … عامر جدوع بطل العراق بالزانة … الحكم الدولي سامي ناجي … لاعب كرة السلة الأسمر عدنان أحد الخمسة في منتخب العراق لكرة السلة … مبدعان آخران لا أتذكر اسميهما .. واحد بطل العراق في سباق ال 5000 متر .. و الآخر بطل العراق في كرة المنضدة .. و ثالث أحرز بطولة العراق بالبليارد اسمه محمد فتاح بربر … و قائمة المبدعين طويلة و ليس يسيراً حصرها … هذا في مجال الرياضة .

وفي مجال الأدب و الفن .. الشاعر بدر شاكر السياب … القاص محمد خضير … كاتب الدراما الغني عن التعريف .. صباح عطوان … الشاعر الشعبي عباس جيجان … الشاعر كاظم الحجاج … مدرس الانكليزيه الشاعر داود الغنام و عشاقه التايبين على حنجرة ياس خضر … فؤاد سالم و شوقية و ملحمة يا عشكنا .. فرحة الطير اليرد لعشوشه عصاري … من ألحان الفنان حميد البصري ( زوج شوقية ) و شوقية هذه تجيد الغناء منذ صغرها … منحها الله صوتاً يشفي القلوب العليلة .. لن ترتوي منه مهما طال سماعك … الملحن كوكب حمزة و طيوره الطايره من أمام سعدون جابر … و نجمته التي يناغيها حسين نعمة … أمل خضير ( شقيقة الفنانة سليمة خضير ) و صوتها العذب المتوسل .. سلم بعيونك الحلوات … سعد اليابس ضارب الطبلة الشهير الذي طاف سبعين بلداً , مذهلاً مستمعيه بايقاعات لم يسمعها أحد من قبل … و من الممثلين .. واحد يرغمك على الضحك عندما تراه على الشاشة حتى قبل ان ينطق حرفاً واحداً … إنه الممثل الرائع عبد الستار البصري … الذي يشبه الممثل الانكليزي نورمان وزدم في كاريزما الفكاهة … فن الأوبريت ظهر في العراق على أيادي فناني البصرة … أوبريت ” بيادر خير ” كان الباكورة … ثم تلته أوبريتات اخرى كلها من البصرة … وكان يقف خلف الانجاز مجموعة من المبدعين يتقدمهم المخرج و الممثل قصي البصري .

عندما نتحدث عن مدينة إبن الهيثم فلا بد أن نتحدث عن النخلة , فالبصرة و النخلة صنوان لا يفترقان ,

و هي مدينة النخيل بلا منافس … حيث تنتشر فيها أشجار النخيل على ضفاف شط العرب و بالملايين .. مما جعلها تحتل المرتبة الأولى بانتاج التمر … و من اجل تكريم النخلة لما تقدمه من خير للبلد .. قررت المدينة إقامة مسابقة ملكة جمال النخيل .. و شارك في المسابقة عدد من فتيات البصرة و من مجتمعها المخملي .. و هي المرة الاولى التي تقام فيها مسابقه من هذا النوع … و تم تتويج الجميله لبنى عبد الواحد باللقب .

تتميز البصرة بجوها الدافيء نسبياً في فصل الشتاء مقارنة بالمحافظات الاخرى , لذلك يقصدها الكثير من المتزوجين حديثاً لقضاء شهر العسل فيها في الشتاء , و قد خص الفنان البغدادي الخالد رضا علي البصرة باغنية جميلة أحد مقاطعها يقول … الليلة حنتهم .. و بالبصرة زفتهم , أهل البصرة لا يعرف الضجر أو الملل طريقاً إلى نفوسهم , و إن شعرت بالضيق أو الضجر يوماً ما أو ساعة ما فالحل موجود هناك ثمان دور عرض سينمائي … بعضها مغلق و بعضها صيفي ..هذا خلاف دور العرض الخاصة بالنوادي … و يوجد أيضاً عدد كبير من النوادي الاجتماعية بعضها تابع للدولة و بعضها خاصة … اما ان كنت صاحب كيف فما عليك سوى الذهاب إلى حفلات فرق الخشابة حيث الفن الشعبي البصري الاصيل … و إن شئت التأمل و الخيال … إذهب الى شط العرب .. سواء إلى الكورنيش القديم أو إلى كورنيش البراضعية .. و ترجل من سيارتك و تمشى على الرصيف العريض المحاذي للنهر و قف أمامه و إرسل عينيك إلى المياه الهادرة و ستجد أن همومك قد أصبحت وراء ظهرك .. أو قف بجانب صياد سمك جالس على حافة النهر ممسكاً بخيط سنارته يترقب المقسوم .. أو قم انت بالصيد بنفسك لتعيش متعة صيد سمكة ترقص بين يديك رقصتها الأخيرة .

ما سبق ذكره من كلام عن البصرة و منجزاتها و ملامحها الجميله كان معظمه تقريباً بين العام 1960 و 1980 سنة بداية الحرب مع ايران , حيث بدأ العد التنازلي لتراجع و توقف حالة الفوران الاجتماعي التي كانت تعيشها البصرة , و المدينة دفعت ثمن هذه الحرب مضاعفاً , حيث كان شبابها يقاتلون في الجبهة و يقدمون التضحيات و أهاليهم داخل المدينة يقدمون تضحيات مماثلة بسبب المدفعية الايرانية التي كانت تقصف المدينة ليل نهار حيث الحدود الايرانية لا تبعد سوى 20 كم عن المدينة , مما أرغم معظم سكانها على مغادرتها , و الكثيرون منهم لم يعودوا بعد أن استقرت أوضاعهم في أماكن اخرى داخل و خارج العراق .

البصرة مدينة طيبة و خجولة .. و ذلك ليس عيباً .. بل العيب أن يُستغل ذلك لإغراض التهميش و الاقصاء من قبل المركز … أُدرك تماماً أن الكتابة عن البصرة و تاريخها هي مهمة المؤرخين و الباحثين و العبد لله ليس واحداً منهم بالتأكيد … و الذي دفع للكتابة عن البصرة و أحوالها هو ما آلت اليه الأمور فيها اليوم من تدهور و فلتان و جرائم و مخدرات , هو وضع و حال لا يليق بها و لا بتاريخها الجميل … أين ماء شط العرب الذي كنا نشربه بِايدينا المجرده ولا من مرض ولا هم يحزنون … أين مجتمعها المسالم الوديع مضرب المثل في الطيبه و التسامح … أين قوس قزح البصره أحفاد السيد المسيح … و أين امراء صياغة الذهب و الفضه الصابئه المندائيين … و أين … و أين … و أين ……………………. البصره ( خزينة العراق ) ثقلها ثقل دوله … واهلها صبروا طويلاً طويلاً … عسى أن ينصفها المركز .. لكن دون جدوى … فكان لابد أن يثور أهلها بعد أن لم يبقى في القوس منزع كما يقول المثل … سلاماً … و سلامات يا بصرة الجود و الابداع .