18 ديسمبر، 2024 11:29 م

البصرة الطَّيّبة قبل 60 تُمُّوز 1958- 2018م/ 4

البصرة الطَّيّبة قبل 60 تُمُّوز 1958- 2018م/ 4

كانت أكثر عائلات البصرة تمتلك مزارع النخيل وتعيش مِن أيراد مواسمها، يطلق عليها إسم الملّاكهَ. تمور البصره تُصدَّر إلى جميع أنحاء العالم، تُغلّف بعُبوات وتحشّى بالجّوز او اللّوز وتعقم قبل تصديرها ضدّ التسوّس او الحشرات والرخيصة مِنها تصدر بعبوات كبيرة مِن سعف النَّخيل تُسمّى الخصّاف تصدَّر إلى الهند اوغيرها مِن دُول الشَّرق الأقصى.

الجّوار الجّغرافي، بداوَة جَنوب البصرة وصوب دلتا كرخه كارون شطّ العرب، ولهجة وافدة مِن بغداد والموصل ومِن ميسان ولهجة صابئتها ومسيحو البصرة ويهودها والاحتلالان تركي بريطاني، عوامل صاغت لهجة البصراوة، مزيج اللُّغة العربيَّة الفصحى قُرءان ودُعاء وكلمات عربيَّة محرفة، وكلمات إيرانيَّة مِثل (جاي خانه، بوسطه خانه) وغيرها والمُفردات التركيَّة مِثل (الكوزلغ) اي العُوينات والبوينباغ أي ربطَة العُنق وغيرها. لباس عشرينيّات القَرن العشرين الدّشداشة وفي المناسبات العباءة والكوفيَّة (جفية الرَّأس مُرقطة أبيض وأسود) دون عقال وابيض واحمر للنجادة والنعال الجلدي بدل الحذاء. التجار مِن أصل بغدادي يلبسون الملابس صفراء اللَّون. عمامة صفراء تُسمّى كشيدة (مُصطلح “ كشيدة ” تعبير عن مدّ اللّفظ)، وزبون (شِبه مِعطف)، ويمني (حذاء لونه احمر او اصفر) او حذاء عادي، وحزام قماش او جلد، ثمَّ العباءة. يلبس موظفو الدَّولة الحديثة وأعيان المدينة الملابس الأُورُبيَّة (باش بوزغ) ويعتمرون طربوش أحمر ثم سدارة صممها “ الملك فيصل الأوَّل ” تُسمّى الفيصليَّة.

علماء الدِّين السُّنَّة يعتمرون طربوش أحمر يُلَف حولهُ قماش أبيض ثم الملابس العربية رداء طويل والإسم تركي يُتمّم طلعت نشأت رفعت، ولعلماء الشّيعة طربوش احمر يُلف حولهُ قماش أخضر (سيديَّة) او العمامة السَّوداء، والبيضاء للشَّيخ عبدالزَّهرة عبدالرّضا عبدالحسين. ورجال الدين المسيحي لباسهم مُلون بالأسود والأحمر يتدلى الصَّليب على صدورهم بأسماء عبدالمسيح وعبدالأحد وتيمناً باسم الملكة فكتوريا. حاخام اليهود لباسه أسود مع عمامة سوداء اسمه عزرا حسقيل كوهين. ورجال الدِّين الصّابئة يلبسون كوفيَّة بيضاء ودشداشه وعباءة ولحاهم مُرسَلَة اسمه عبدالعظيم. نسوة البصرة بعضهن من بغداد تلف رؤسهن عصّابة سوداء ويُغطين وجوههن بالبوشيَّة السّوداء ويلبسن رداء اسود يُسمّى الصْايًه ملابسهن سوداء ثم العباءة وينتعلن البابوج الأسود. أما نساء القرى فكن يلبسن العباءة ويلففن حول الوجه قماش اسود يسمى الفوطه بدون غطاء وجه (البوشي) واذا صادفت امرأه رجل في طريقها فتغطي وجهها بالعباءة ويلبسن النعال الأسود. في الهور يلبسنَ السَّواد وتعتمر المسنات منهن عمامة سوداء وتغرز الشّابات في انفهن حلقة ذهب تُسمى الخزّامه. الثوب الهاشمي ايضا مُنتشر في الخليج يُشبه السّاري الهندي. المرأة المسيحيَّة كالموصليَّة بعباءةٍ مُلوَّنةٍ تُغطي وجهها ببرقع مُلوَّن. في ثلاثينيّات القَرن الماضي بدأ سفور البنات وطالبات المدارس يرتدين الملابس الحديثة. الزّينة الحُلي حلقة ذهب اسفل السّاق فوق الكعب تسمى الحجل، للاطفال حلقة ذهبيّة تحاط بها أجراس ذهبيَّة صغيرة تُسمّى الجَّناجل. تلبس ايضاً في الزّند حلقة من ذهب في الغالب على شكل افعى تُسمّى زنادي. عِقد الذهب تدلي مِن العُنق يُسمّى گردانة. وأحيانا تلبس القرويات في الأهوار حلقه ذهب في شحمة الأنف تُسمى (خزّامه، “ تراطني واراطنهه واخافن مِن براطمهه! ”) كأنها طوب أبو خزّامه العُثماني البغدادي.

وكانت البصرة مركز الشِّركات التجارية الأجنبيَّة وشِركات التأمين ولم تكن فيها مصارف عِراقية إنما بريطانيَّة مِثل البنگ العُثماني كان في موقع مصرف الرّافدين في العشّار الآن وبنگ اسمه ايسترن Eastern. أطباء هنود مع الجَّيش البريطاني استقروا بعد الحرب العالميَّة الأُولى في البصرة مِنهم طبيب الباطنيَّة ديفد عيادته في العشّار حتى وفاته سبعينيّات القَرن الماضي، وطبيب العُيون بورانسيك هندي مِن طائفة السّيخ يعتمر عمامة خسرَ في التجارة مُنتصَف القَرن الماضي هاجر إلى محميّات الخليج والجّرّح لامير الهندي. الطَّبيب الحلبي وداد الكاتب استقر في البصرة مديراً لمُستشفى البصرة والطَّبيب لويس يلده والطَّبيب جمال الفحّام سوري تاجر ايضا ومن اوائل خريجي الكُليَّة الطّبيَّة العراقية والطَّبيب محمد حسين السَّعدي مِن الكوت جراح امتلك مُستشفى وعمل في مُستشفى البصرة حتى سبعينيّات القَرن الماضي هو ووالده مُقرَّبين مِن جدّنا ووالده بضيافته، والطَّبيب الحمداني والطَّبيب جلال الخضيري والطَّبيب شمس الدِّين النقيب خريج بريطانيا والطَّبيب عتيشه وخلوف من لبنان وعبدالحميد الطّوخي مِن مصر وطبيب الأسنان الوحيد في البصرة ثلاثينيات القرن الماضي. الدكتور صبيح مصطفى درس طب الأسنان في دِمَشق. كانت التجارة متنوعه فمنهم من كان يمارس تجاره القومسيون يستلمون الحُبوب مِن جميع انحاء العراق حيث تخزن وتنظف في سقائف تسمى الأسياف اكثرها في محلَّة الخندق او ما تسمى ايضا مقام علي ثم تباع إلى تجار التصدير إلى الخارج ويأخذ تاجر القومسيون عمولته، وكان مكبس التمور او مستورد البضائع مِن اُورُبا او اليابان وغيرها من الدّول مِثل جدّنا منقوش على بضاعته (وارد: محسن غريب) او تجار السّوق المحلية. صاغة الذهب الصّابئة أشهرهم “ زهرون ” اشتهر بعمل النخله الفضّيَّ والتمر المُدلى مِنها مِن الذهب تهدى إلى الملوك و كبار الشَّخصيات. وأيضا مِن الطّائفتين اليهوديَّة والمسيحيَّة حِرَفيّون صنف مهنة.

المصوغات غاية في الدِّقة والإبداع ذهبيَّة أو فضّيَّة تُطلى بمادّة مينه.. هؤلاء الحرفيون فيهم نجّارون مهرَةٌ ساهموا في تشييد قصور البصرة وعمل الأثاث المنزلي وبعضه مشابه للأثاث الهندي.

البنه (الأُسطة) الكثير مِنهم مِن بغداد بنوا قصور البصرة. لم تشهد البصرة في تلك الحقبة نهضه فنيَّة في الغناء والرَّسم. كانت فرق شعبيَّة رجاليَّة غنائها خليجي وفرق شعبيَّة نسويَّة مِن أصل إفريقي يسمون بالدَّگاگة. زارت البصرة فرقه الممثل المصري يوسف وهبي وبضمنها الممثلة أمينه رُزق وأدَّت مسرحيات مُختلفة لمُدَّة اُسبوع في مسرح أُقيم في إحدى السّاحات كمسرحيَّة على كرسي الاعتراف، وزارت الفنانة المصرية فاطمة رُشدي البصرة مرتين عرضت على مسرح سينما الحمراء مسرحية قيس وليلى وادَّت الفنانة فاطمة رُشدي دور قيس. وزارت البصرة المطربة المصرية نادرة وغنت في إحدى الملاهي. كان في البصرة دارا سينما الأُولى تسمى الحمراء لصاحبيها عبود وحبيب الملّاك قرب ساحه أُم البروم في العشّار والأُخرى سينما الوطني لصاحبها عبدالمجيد سلّومي في شارع الوطني في العشّار وكان في أربعينيّات القرن الماضي سينما صيفي تُسمّى ايضاً سينما الوطني الصّيفي آخر شارع الوطني في العشّار واُخرى لعبدالكريم الخضيري اسمها شط العرب يشتري ايضاً الافلام المصريَّة كفيلم عنتر وعبلة وفلم القلب له واحد لصباح. كانت الأفلام السّينميّة صامتة مِثل أفلام شارلي شابلن وميكي ماوس تلتها الأفلام الناطقة غير مُلوَّنة وفي بداية أربعينيّات القرن الماضي بدأ عرض الأفلام المُلوَّنة وتُسمّى تكني كولور ومن أشهرها الفيلم الأجنبي حرامي بغداد. وكان ملهىً شَرقي على ساحه اُمّ البروم اسمه ملهى الفارابي وخلال الحرب العالميَّة الثانية كان ملهىً غربي في العشّار مقابل مبنى المُتصرفية تعمل به راقصات أجنبيّات يُسمون كيت كات. المذياع (Radio) في ذلك الزمن، كانت الاجهزة كهربائيَّة كبيرة الحجم وتستعمل ثلاث موجات قصيرة ومُتوسطة وطويلة والأصوات المستلمة كثيرة الضّوضاء (وشوشة). في ثلاثينيّات القرن الماضي كانت إذاعة قصر الزُّهور يُديرها الملك غازي وكانت إذاعة بغداد. وفي فترة الحرب تتبع اخبارها مِن إذاعات لندن والشَّرق الاوسط مِن مدينة يافا وبرلين ومُذيعها يونس بحري وكان الاستماع إليها ممنوع خلال الحرب والمُخالف يُعتقل في الفاو والعمارة في زمَن الحرب.

لفتة إنسانيَّة مِن ذاك الزَّمان في بُستان مِنطقة الفرسي في البصرة، مِنطقة بِكر يمُرُّ في بُستانِها جدول “ محلَّة السّيمر ” أحد فروع نهر العشّار، حيثُ شُقَّ «شارع الجزّائر» واسمُه تيمُّنا بثورة المِليون ونصف المِليون شهيد جزائِري، عبَّدَ الشّارعَ مُهندس هندي يعتمر عمامة سوداء سأله باللُّغةِ العربيَّةِ عن الوقت فتىً في طريقه إلى مدرستِه ذات صباح، فأجابه بالعربيَّة: “ السّاعة طَمانية !” (أي الثامِنة). جمعيّة المُعلّمين كانت تبني دور المُعلمين في حيّ مُجاور، ومِنهم شقيق «فيصل السّامر» صاحب كتاب “ ثورة الزّنج ”، والمُعلِّم «يعقوب يُوسُف» مِن أبي الخصيب، شقيق الشّاعِر المُعلِّم سعدي الَّذي وفدَ إلى الجَّزائر الشَّقيقة باسم “ الأخضر بن يُوسُف !”، لتعليم أبناء شُهداء الثَّورة، لُغة بلادهم الرَّسميَّة، العربيَّة. جدّ الفتى كانَ يصطحب فتاه إلى بُستان الفرسي الَّذي يملكه، سوَّره وبنى فيه دارته وفي البُستان كلب ربّاه ابن المالك وسَمّاه “ شير”، والمالك كلَّفَ سائق سيّارته الشّوفرليت الَّتي اشتراها مِن “ شِركة بيت لاوي اليهوديّ ” في السّيمر، كلَّفه بتبعيد الكلب إلى أبي الخصيب تحوّطاً مِن نجاسته. بعد نحو شهر عاد الكلب، فاُستدعيَ مِن البلديَّة رامٍ للكلاب السّائبة أطلق على رأسه رصاصة مِن بُندقيَّة صيد. اُغتيلت برائة الحيوان الآسرة أكثر مِن براءة الأطفال الَّذين يخسرونَ البراءة بعامليّ: الزَّمَن وتلويث حزب البعث لطيبة البيئة لاحقا. وهذي أوَّلُ ثيمة للَّمسة الإنسانيَّة تقعرَت في سويداء الرُّوح.

في ذاك الزَّمان كان جنرالان: عبدالكريم قاسم، يُقاتل في جنين وكفر قاسم، عادَ وبعد عقد مِنَ الزَّمان أسَّسَ جُمهوريَّة العِراق وأسَّسَ في عاصمته بغداد جيش التحرير الفلسطيني.

الجَّنرال الآخر ديغول Charles de Gaulle قاسَمَ ابن الشَّعب البَرّ عبدالكريم قاسم، رمز الوطنيَّة ورمز 14 تُمُّوز الفرنسي- العِراقي، الجَّنرالان دعما معاً تحرير الجَّزائر وآخر مُقابلة لعبدالكريم قاسم مع صحافيّ فرنسي.

ديغول رمز دفء الاُسرة الأبُ الجَّد، عام 1928م أنجبَ كريمته المُعاقة Anne، رفضَ إيداعها دار المُعاقين، لأنها هِبة عليه قبولها، راحَ يُلاعبها كي لا تشعر باختلافِها عن إخوتها، وهي تضحك وتلعب بسدارتِه (ذات سدارة عبدالكريم قاسم الفيصليَّة) مِنَ الصّنف العسكري، رمز الشَّرف العسكري، حتى وفاة Anne شابَّة عام 1949م، فراحَ ديغول يجمع المال مِن راتبه المحدود وريع كتبه لتأسيس دار المُعاقين باسم Anne de Gaulle. وهذي الثَّيمة الثّانية مِن مُقتبل العُمر قبل مسخ أصالة المُجتمع العِراقي وطيبة البصرة.