البرلمان العراقي: تشريعات قائمة على وثيقة لم يصوّت عليها الشعب

البرلمان العراقي: تشريعات قائمة على وثيقة لم يصوّت عليها الشعب

بصفتي أكاديمياً مهتماً بالشأن العام ومتابعاً للشأن السياسي العراقي لعقود، فإن ما ورد في هذا المقال يستند إلى قراءة موضوعية للممارسات السياسية والدستورية بعد عام 2005، وتُعد محاولة لرصد الانحرافات الإجرائية والتشريعية التي أُقحمت في صلب وثيقة الدستور العراقي بعد تصويت الشعب عليها. لا يدّعي المقال تقديم فتوى دستورية ملزمة، لكنه يعتمد في تحليله على المقارنة بين النسخة التي صوت عليها الشعب في الاستفتاء العام، والنسخ المتداولة لاحقاً من قبل مؤسسات الدولة. ولذلك، فهو يمثل نداءً مفتوحاً للنقاش الوطني حول احترام إرادة الشعب ومشروعية الوثائق الدستورية.
تُعد الدساتير في الدول الديمقراطية وثائق تعاقدية سامية تقترب في مكانتها من القداسة، لما تمثله من تعبير مباشر عن الإرادة الشعبية عبر الاستفتاء العام الذي تُعرض فيه جميع موادها على المواطنين. وبهذا، تكتسب الدساتير شرعيتها وقوة إلزامها من مصدرها الأول: الشعب. وبناءً عليه، فإن أي تعديل أو إضافة أو حذف—لو كان مجرد حرف—لا يجوز إجراؤه إلا بإعادة تفويض شعبي صريح، وإلا عُدّ ذلك خرقًا صارخًا يرتقي إلى مصاف الجريمة الدستورية.
لكن في الحالة العراقية بعد عام 2003، نجد مشهدًا مغايرًا تمامًا. فالطبقة السياسية التي تسلّمت مقاليد السلطة أظهرت مرارًا عدم اكتراثها برأي الشعب أو الالتزام بالمواثيق الدستورية التي أقرها أو القوانين التي شرعتها بنفسها، لا سيما إذا تعارضت مع مصالحها الحزبية أو الشخصية الضيقة. وفي ضوء هذا السلوك المزمن، لم يعد مستغربًا أن تنحدر ممارسات هذه الطبقة إلى مستوى يتجاوز الفساد المعلن، ويصل إلى التلاعب المتعمد بالنص الدستوري نفسه—الذي أُقرّ بالتصويت الشعبي—بما يشكل جريمة مزدوجة: تزويرًا لإرادة الشعب، وانتهاكًا لأسس الدولة الدستورية.
وللوقوف على حجم التجاوز الذي طال الدستور العراقي، لا بد من العودة قليلًا إلى الوراء لتسليط الضوء على ما جرى بعد استفتاء الشعب على مسودة الدستور. فقد أثبتت الوقائع أن النسخة التي تم التصويت عليها شعبيًا، والتي أُعلنت دستورًا نافذًا، قد خضعت لاحقًا لعمليات “إعادة صياغة غير معلنة” تم خلالها إدراج مواد جديدة، وتعديل نصوص قائمة، وإلحاق فقرات ببعض المواد، دون العودة إلى الشعب أو إخباره.
إن ما حدث يمثل انتهاكًا خطيرًا للقواعد الدستورية، ويُفقد الوثيقة الدستورية شرعيتها التمثيلية باعتبارها عقدًا بين الدولة والمواطن. والأسوأ من ذلك أن مؤسسات الدولة، وفي مقدمتها السلطتان التشريعية والتنفيذية، بدأت تتعامل مع النصّ المعدّل على أنه النصّ المعتمد، رغم أنه لا يطابق النصّ الذي وافق عليه العراقيون عبر الاستفتاء العام. وبذلك بات في العراق دستور معلن أمام الشعب، وآخر يُدار به البلد خلف الأبواب المغلقة، وهو ما يُعد سابقة مؤلمة في حياة الأمم.
نعود بالذاكرة إلى عام 2005، وهو العام الذي شهد توزيع مسودة دستور جمهورية العراق على الشعب العراقي تمهيدًا لعرضها في استفتاء عام. وقد تم إيصال هذه المسودة إلى كل أسرة عراقية عبر وسائل متعددة، كان أبرزها شبكة البطاقة التموينية، لتكون الوثيقة المرجعية التي يُفترض أن يقرر المواطن العراقي مصيرها، قبولًا أو رفضًا.
وقد حملت هذه النسخة التي وُزعت على الجمهور عنوانًا بارزًا تصدر الغلاف بعبارة: “دستورنا بين أيدينا”، تلتها عبارة أخرى كُتبت بخط أحمر واضح: “مسودة دستور جمهورية العراق”، وعلى يسار الغلاف ظهرت عبارة ثالثة بخط أخضر: “دستورنا خيمتنا”، في محاولة رمزية لتأكيد شمولية هذا العقد الوطني واعتباره المظلة التي يفترض أن تحتضن جميع مكونات الشعب العراقي دون استثناء.
بصفتي مواطنًا قرأتُ هذه المسودة التي تم توزيعها للاستفتاء الشعبي، فقد وجدتها تبدأ في صفحتها الأولى والثانية بديباجة تمهيدية، تتصدرها عبارة بين قوسين بعد البسملة: (ولقد كرّمنا بني آدم). بعد ذلك تبدأ مواد الدستور من الصفحة الثالثة وحتى الصفحة الثانية والخمسين، متضمنة (139) مادة دستورية، وهو العدد الكلي للمواد في المسودة التي طُرحت للاستفتاء، أؤكد مجددًا: 139 مادة فقط.
وفي نهاية النسخة، أُلحق بها قسم إضافي بعنوان “الملحق”، حيث تبدأ الصفحة الأولى منه بكلمة موقّعة باسم الشيخ الدكتور همام باقر حمودي، وتحت اسمه كتب: “إعداد: رئيس لجنة مسودة الدستور”. أما الصفحات من الثانية إلى الثانية والعشرين من هذا الملحق، فقد تضمنت شرحًا مفصلًا لبنود المسودة، في محاولة لتقريب المفاهيم الدستورية إلى المتلقي العادي. كما كُتب على الغلاف الخلفي مرة أخرى بالخط الأخضر: “دستورنا خيمتنا”، مع التأريخ: آب/أغسطس 2005.
وقد عُرضت هذه المسودة للاستفتاء الشعبي في 15 تشرين الأول/أكتوبر 2005، وتمت الموافقة عليها بنسبة 78% من المصوّتين، مما أضفى عليها الشرعية الدستورية لتُصبح القانون الأعلى النافذ في جمهورية العراق. ومنذ ذلك الحين، دخل الدستور حيّز التنفيذ مطلع عام 2006، وتكاد لا تخلو دار عراقية من نسخة منه، ما يُعزز مكانته كوثيقة مرجعية عليا، لا يجوز تعديل أي من موادها – لا بالحذف ولا بالإضافة – دون العودة إلى الشعب نفسه باعتباره مصدر السلطات.
لكن ماذا حصل بعد ذلك؟
لقد تم إجراء تغييرات جوهرية على نصوص الدستور العراقي المعتمد عام 2005، شملت تحريفات في بعض مواده، وإدخال إضافات لم تكن مطروحة أساسًا على الشعب خلال الاستفتاء. وهذا يتطلب التوقف أمامه مليًّا، نظرًا لكونه يُعد خرقًا صريحًا لمبدأ العقد الدستوري الذي لا يُعدل إلا بإرادة الناخبين.
ولتبيان الفروقات، قمنا بزيارة موقع مجلس النواب العراقي الرسمي للاطلاع على النسخة المعتمدة حاليًا من الدستور، والتي تُستخدم كأساس تشريعي في البلاد. وقد تبيّن أن هذه النسخة مغايرة تمامًا للدستور الذي صوّت عليه العراقيون في 15 تشرين الأول 2005. إذ نجد في موقع البرلمان نسخة معنونة كما يلي:
في أعلى الصفحة: “مجلس النواب”،
تحتها: “الدائرة الإعلامية”،
ثم بالخط العريض: “دستور جمهورية العراق”،
وفي أسفل الصفحة: “الطبعة السابعة – بغداد 2013”.
الكارثة الكبرى التي تظهر فور تصفح هذه النسخة، هي أن عدد المواد الدستورية فيها بلغ 144 مادة، في حين أن المسودة الأصلية التي تم التصويت عليها كانت تحتوي فقط على 139 مادة، مما يعني أن هناك خمس مواد جديدة أُضيفت دون تفويض شعبي، وهي إضافات تثير الكثير من التساؤلات حول شرعيتها ومصدرها.
والسؤال المشروع الآن: ما هي هذه المواد الخمس التي أُقحمت لاحقًا؟
تفاصيل التغييرات البنيوية في ترتيب مواد الدستور
عند مطابقة النسخة التي تم الاستفتاء عليها في 15 تشرين الأول 2005، والتي احتوت على 139 مادة دستورية، مع النسخة المعتمدة والمنشورة في “الطبعة السابعة – بغداد 2013” على الموقع الرسمي لمجلس النواب، يتبين وجود إعادة هيكلة جوهرية في تسلسل المواد الدستورية، شملت إدراج مواد جديدة وتقسيم مواد قائمة، بما أحدث انزياحًا عدديًا واسعًا، يمكن توضيحه على النحو التالي:
إضافة المادتين (35) و(36):
أدى إدراجهما إلى تغيير تسلسل المواد من المادة (35) وحتى المادة (57) في النسخة الأصلية، لتُصبح مرقّمة من المادة (37) إلى المادة (59) في النسخة المحرّفة.
تجزئة المادة (57) الأصلية إلى مادتين منفصلتين:
حيث أصبحت الفقرتان الجديدتان تحملان الرقمين (59) و(60) في النسخة الجديدة.
وهذا التعديل غيّر تسلسل المواد من (57 إلى 109) لتُصبح مرقّمة من 59 إلى 112.
إدراج المادة (113):
مما أدّى إلى تعديل تسلسل المواد من 110 إلى 137 لتُصبح 114 إلى 141.
إضافة المادة (142):
وتسببت هذه الإضافة بتحويل ترقيم المواد 138 و139 لتُصبحا 143 و144 في النسخة المعتمدة حاليًا.
هذه التعديلات لم تُعرض على الشعب العراقي للاستفتاء كما تقتضي المبادئ الدستورية، مما يُعد خرقًا صريحًا للعقد الاجتماعي الذي بُنيت عليه شرعية النظام السياسي بعد 2005.
خطورة إدراج المادة (142) في الدستور دون استفتاء شعبي
رغم أننا لن نخوض في عرض نصوص المواد التي أُدرجت بعد الاستفتاء الشعبي على الدستور – مثل المواد (35)، (36)، (113)، أو عملية تجزئة المادة (57) إلى مادتين – والتي يمكن مراجعتها من خلال النسخة المنشورة في الموقع الرسمي لمجلس النواب (الطبعة السابعة – 2013)، فإننا نجد من الضروري الوقوف بجدية عند نص المادة (142) المضافة، وبالأخص البند “رابعًا” منها، نظرًا لما تحمله من تحايل قانوني بالغ الخطورة على إرادة الناخب العراقي.
نص المادة (142) كالآتي:
أولًا: يشكل مجلس النواب في بداية عمله لجنة من أعضائه، تكون ممثلة للمكونات الرئيسية في المجتمع العراقي، مهمتها تقديم تقرير إلى مجلس النواب خلال مدة لا تتجاوز أربعة أشهر، يتضمن توصية بالتعديلات الضرورية التي يمكن إجراؤها على الدستور، وتحل اللجنة بعد البت في مقترحاتها.
ثانيًا: تعرض التعديلات المقترحة من قبل اللجنة دفعة واحدة على مجلس النواب للتصويت عليها. وتعد مقرة بموافقة الأغلبية المطلقة لعدد أعضاء المجلس.
ثالثًا: تطرح المواد المعدلة من قبل مجلس النواب – وفقًا لما ورد في البند (ثانيًا) – على الشعب للاستفتاء خلال مدة لا تزيد على شهرين من تاريخ إقرار التعديل في مجلس النواب.
رابعًا: يكون الاستفتاء على المواد المعدلة ناجحًا بموافقة أغلبية المصوّتين، إذا لم يرفضه ثلثا المصوّتين في ثلاث محافظات أو أكثر.
خامسًا: يستثنى ما ورد في هذه المادة من أحكام المادة (126) المتعلقة بتعديل الدستور، إلى حين الانتهاء من البت في التعديلات المنصوص عليها في هذه المادة.
تحليل أولي للمخاطر الدستورية في هذا النص
البند “رابعًا” يمثّل خرقًا مباشرًا لمبدأ المساواة بين أصوات المواطنين، حيث يمنح أقلية محددة في ثلاث محافظات فقط حق “النقض الجماعي” على خيار الأغلبية، ويُفرغ مبدأ “سيادة الإرادة الشعبية” من مضمونه.
المادة تُنشئ آلية بديلة لتعديل الدستور لا أصل لها في النص الذي وافق عليه الشعب، وتُقنّن واقعًا سياسيًا جديدًا دون الرجوع إلى الناخبين.
أخطر ما في النص هو أنه يتجاوز المادة (126) التي تضبط آليات التعديل في الدستور وتحدد مساراتها المشروعة، بما يعني تعطيل نص سيادي في مقابل مادة أُدرجت خارج الإرادة الشعبية.
كيف أُقحمت المادة (142) لشرعنة الهيمنة السياسية وفرض واقع فئوي
إن إدراج المادة (142) خارج الاستفتاء الشعبي الذي أُجري في 15 تشرين الأول 2005، لم يكن إجراءً بريئًا أو عفويًا، بل يبدو أنه صُمّم خصيصًا لشرعنة فرض موازين قوى طائفية وقومية على حساب بنية الدولة الوطنية. هذه المادة – بصيغتها الحالية – تفتح الباب أمام:
تكريس المحاصصة السياسية عبر لجنة “ممثلة للمكونات” بدلًا من تمثيل الشعب بوصفه صاحب السيادة.
فرض “الفيتو الجغرافي” الممنوح لثلاث محافظات، وهو أمر غير مألوف في الأنظمة الدستورية الديمقراطية ويهدد وحدة القرار الوطني.
تفكيك الدستور عبر آلية هجينة تستثني أحكام المادة (126)، والتي تنص على أن أي تعديل دستوري يجب أن يمر بإجراءات صارمة تضمن تمثيلًا حقيقيًا لمجموع الناخبين وليس لتحالفات سياسية مؤقتة.
تمرير مواد خلافية تتعلق بالفدرالية، النفط والغاز، صلاحيات الأقاليم، أو المادة 140 وغيرها من البنود الحساسة، تحت ذريعة التعديل الدستوري، مع ضمان قبولها بسبب قيد “عدم الرفض من ثلاث محافظات”، ما يجعل التعديل سلاحًا سياسيًا بيد أطراف محددة.

بذلك، فإن المادة (142) لا تعد فقط انقلابًا ناعمًا على جوهر العقد الدستوري بين الدولة والمواطن، بل تُعطي الغطاء القانوني لأي مشروع تفكيكي مستقبلي يمس وحدة العراق أو سيادته التشريعية.
ألسؤال الآخر: ما هي المواد التي تم التلاعب بنصوصها؟
إضافة إلى المواد التي أُقحمت في النص الدستوري، فقد تم أيضًا تعديل نصوص بعض المواد الأصلية التي صوّت عليها الشعب العراقي في استفتاء 2005. ومن أبرز هذه المواد التي طرأ عليها تغيير مباشر في النصوص: المادة (1)، المادة (3)، المادة (4-ثالثًا)، المادة (8)، المادة (9-ج)، المادة (18-أولاً وثانيًا)، بالإضافة إلى المادة (131) التي تمت إضافة نقطتين خامسة وسادسة إليها.
وسوف نكتفي هنا بتوضيح التلاعب الذي طرأ على نص المادة (1) فقط، مع التأكيد على إمكانية العودة إلى النسخة الأصلية التي تم الاستفتاء عليها، والمقارنة بينها وبين النسخة المنشورة على موقع مجلس النواب (الطبعة السابعة – 2013).
▪ النص الأصلي للمادة (1) في المسودة المعتمدة التي صوّت عليها الشعب:
“جمهورية العراق دولة مستقلة ذات سيادة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي اتحادي.”
▪ النص الذي ظهر في النسخة المعدلة والمتداولة حالياً:
“جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي اتحادي، وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق.”
الفرق بين النصين واضح، حيث أُضيفت عبارات جديدة مثل: “اتحادية واحدة”، “كاملة”، “وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق”، وهي عبارات لم تكن واردة في النص الأصلي.
ويترتب على هذا التعديل تغيير جوهري في دلالة النص الدستوري، خصوصًا فيما يتعلق بمفهوم الاتحادية ووحدة الدولة، ما يثير تساؤلات قانونية عميقة حول مدى شرعية استخدام هذا النص المعدل كأساس لتشريع القوانين أو تنظيم السلطات.
بعد كل هذا التلاعب الدستوري، من إضافة مواد، وتغيير في نصوص أصلية، وإقحام نقاط على مواد أخرى، يمكننا القول – وبكل وضوح – إن الجمهورية العراقية قد حُكمت، منذ عام 2006 ولغاية الآن، وفق ما يمكن تسميته بـ “الدستور التوافقي.

وهذا الدستور، في حقيقته، ليس إلا أحد مخرجات مؤتمر لندن سيئ الصيت الذي انعقد في أواخر سنة 2002 بدعوة من الإدارة الأميركية، والذي مهد لاحقاً لاحتلال العراق وإعادة تشكيل نظامه السياسي على أسس توافقية مشوهة.
إن هذا “الدستور التوافقي” لا يمت بأي صلة قانونية أو سياسية أو اجتماعية للدستور الأصلي الذي صوّت عليه الشعب العراقي في استفتاء عام، حيث أن تسلسل المواد اختلف كلياً، ومضامين جوهرية حُرفت أو أُضيفت بما يخدم جهة سياسية معروفة لدى العراقيين، وبالتالي فإن جميع القوانين والتشريعات التي بُنيت على أساس هذا النص المعدل تُعد باطلة إذا ما قورنت بمواد الدستور الأصلي. إنها كارثة دستورية وقانونية حقيقية.
والمؤسف أن هذا التزوير لم يتم الاعتراض عليه رغم وضوحه، خصوصاً من قبل من يفترض بهم أن يكونوا الضامن الدستوري للدولة.
أين كان السادة رؤساء الجمهورية المتعاقبون، وآخرهم السيد عبد اللطيف رشيد؟ ألم تكن المادة 64 من الدستور الأصلي تنيط برئيس الجمهورية مسؤولية ضمان الالتزام بالدستور؟
وأين كان رؤساء مجلس النواب والكتل السياسية التي أقرت تشريعات على مواد مزورة؟
وأين كانت السلطة التنفيذية حين قدمت مشاريع قوانين تستند إلى دستور لم يصوّت عليه الشعب بصيغته الحالية؟
ولعل السؤال الأهم الآن: لماذا صمت الجميع؟
نضع هذه القراءة أمام أنظار السيد المدعي العام العراقي، باعتبار أن العبث في نص الدستور هو اعتداء صريح على الحق العام، وعلى إرادة الشعب، وعلى مشروعية الدولة ذاتها. نطالب بفتح تحقيق شفاف وعاجل، فالأمر لا يتعلق بخلاف سياسي عابر، بل بتحريف الإرادة الشعبية الموثقة في وثيقة دستورية يُفترض أنها محصّنة ضد التلاعب.
السؤال الذي لا يمكن تجاهله؟
إن ما حصل يتجاوز كل الأعراف الدستورية ويطرح أمامنا سلسلة من الأسئلة الجوهرية التي لا بد من الإجابة عنها…
ويبقى السؤال الأخطر معلقًا أمام ضمير الأمة وأمام القضاء وأمام التاريخ:
من الذي تجرأ على التلاعب بنصوص الدستور، وأدخل عليه مواد جديدة لم يصوّت عليها الشعب العراقي؟
ومن الذي منح نفسه الحق في إعادة ترقيم المواد وتعديل النصوص دون العودة إلى صاحب الشرعية الدستورية الوحيد، وهو الشعب العراقي؟
ولماذا لم تحترم لجنة إعداد مسودة الدستور – المذيلة بتوقيع رئيسها – الوثيقة التي وزعتها على العراقيين تحت شعار “دستورنا خيمتنا”؟
ألم يكن هذا التوقيع التزامًا قانونيًا وأخلاقيًا أمام الشعب؟ فلماذا جرى القفز عليه؟ وبأية شرعية؟
إننا أمام فضيحة من العيار الثقيل، لا تقل خطورة عن أي انقلاب على إرادة الشعب، ولا بد من وقفة وطنية جادة تكشف من يقف وراء هذا الانحراف الدستوري الجسيم.

الخاتمة:
لقد كشف هذا المقال مفارقة دستورية خطيرة تمثّلت في وجود دستورين مختلفين يُحتكمان إليهما في جمهورية العراق منذ عام 2006: أحدهما صوت عليه الشعب، والآخر توافقي تم التلاعب به في الظل دون الرجوع إلى الأمة. هذا التلاعب لا يُعد مخالفة إدارية فحسب، بل هو انقلاب حقيقي على الإرادة الشعبية وانتهاك سافر لمبدأ سيادة الشعب الذي يشكل جوهر النظام الديمقراطي. وإذا كانت جميع السلطات في الدولة قد استندت في تشريعاتها وسياساتها على هذه النسخة المحرفة، فإن آثار ذلك لا تتوقف عند الخلل التشريعي، بل تمتد إلى شرعية إدارة الدولة برمّتها. وعليه، فإن استعادة المسار الدستوري الصحيح يبدأ أولاً بالاعتراف بهذه المفارقة، وفتح تحقيق شفاف تُسأل فيه الجهات المسؤولة، وتُصحح فيه هذه الانحرافات، ليس فقط من باب احترام القانون، بل من باب الوفاء للعقد الذي أبرمه الشعب عندما صوّت على دستور كتب عليه: “دستورنا بين أيدينا”.

أحدث المقالات

أحدث المقالات