حديث السياسة جمعني مع نائب سابق في برلمان كردستان من حزب السيد مسعود البرزاني معروف بصراحته وجرأته، فاستغلت الفرصة لاطرح عليه بعض الاسئلة من باب الفضول الصحافي، سألته على ماذا يستند اليه البرزاني في اصراره على الاستفتاء؟ فاجاب يستند على حزبه وحزب الاتحاد الوطني الكردستان بزعامة جلال الطالباني، وهل وفر أرضية سياسية واقتصادية وأمنية للعملية؟ فاجاب كلا ولكن الأمنية نعم، وهل وفر خزين استراتيجي من مواد البطاقة التموينية لعدة اشهر على الأقل تحسبا لتطورات الموقف؟ فرد بالنفي كلا، وهل أمر بتوفير احتياط مالي لتأمين رواتب الموظفين والعسكريين ولو بنظام “الادخار” لما بعد الاستفتاء؟ فرد كلا، وهل أمر بتخزين الأدوية والمستلزمات الطبية لنفس الفترة؟ فرد بالنفي كلا، وهل أمر بتخزين حليب الاطفال لعدد من الاشهر؟ فقال كلا، وهل أمر بتخزين الوقود الابيض لمجابهة الشتاء؟ فرد قائلا كلا كلا واضاف هذه الامور ليست من مهام الرئيس، ومن خلال هذا الرد ادركت ان السيد النائب قد ازعجته الاسئلة، فتواصلت بالود واقترحت عليه من باب المبادرة الشخصية والواجب البرلماني لماذا لا يوصل رسالة الى البرزاني يقترح عليه ضرورة قيام الحكومة بتوفير الحاجات الرئيسية الاستتراتيجية والمواد الضرورية الأساسية للشعب وفق نظام البطاقة التموينية من باب الاستعداد للاستفتاء المحاط بتهديدات من قبل دول مجاورة واستعدادا لحالات الطواريء التي قد يتعرض لها المواطنون نتيجة العملية، ومن باب اخذ الاحتياطات اللازمة لتأمين الاحتياجات الحياتية والمعيشية الضرورية في الفترة اللاحقة ولمدة لا تقل عن نصف سنة، فرد بالرفض قائلا “وما علاقتي بالامر، ثم أن هذه الامور جانبية وهامشية ليس من اختصاص جناب الرئيس”، حينها أدركت ان حواري وأسئلتي قد جاوزت الحد المسموح ولم أجد حاجة للإطالة، قأنهيت الحوار بالود والشكر، ولكن بخصوص سؤال من يقف وراء البرزاني في دعوته للاستفتاء فان رد النائب حمل بعض السذاجة، وذلك لان الحقيقة هي ان تركيا وشركات النفط واسرائيل هي الجهات الاقليمية التي تقف ورائه، ولكن هذا الاصطفاف يتعارض مع توجهات الولايات المتحدة في المنطقة، ولهذا تحبذ واشنطن تأجيل العملية الى مرحلة ما بعد الانتخابات النيابية العراقية، والمؤكد ان الدولة اذا اقيمت فستكون للمافيات المحلية والاقليمية وليست للديمقراطية والمواطنة الكردية.
وبخصوص الوضع السياسي القائم بالاقليم يتبين ان الحكومة لا تملك تماما اي خطة لمجابهة المخاطر الغذائية والصحية والاقتصادية والأمنية والتطورات السلبية التي قد تترتب على مشهد عملية الاستفتاء، والمعروف من حسن ما تمتع به الرئيس العراقي المعدوم صدام حسين هو اهتمامه الشخصي والحكومي بنظام بطاقة التموين لتوفير المواد الغذائية والسلع الرئيسية لكل العوائل العراقية ضمن برنامج مدعوم كليا من قبل الحكومة وفي كل اوقات السلم والحرب، واتخاذ البدائل والاحتياطات محمل الجد في القرارات المصيرية التي اقدم عليها خاصة من النواحي السياسية والعسكرية والاقتصادية، واهم اجراء استراتيجي كان يهتم به بدرجة عالية وكبيرة من الاهتمام والمتابعة هو الحالة الاقتصادية المتعلقة بحياة المواطنين وخاصة في حالات الطواريء عند اتخاذ القرارات الهامة، والعراقييون يتذكرون كيف ان صدام أمن موادا غذائية للشعب لاكثر من ستة شهور قبل غزو الكويت وقبل الحرب الايرانية العراقية وفي حالات الأزمات الاقليمية التي كانت تسود المنطقة، وأحداث الانتفاضة الشعبية في واحد وتسعين كشفت الكثير من مخازن الاغذية والادوية والمواد والسلع الاستراتيجية التي كانت مخزونة لتموين العراقيين، علما ان الحصة الشهرية المخصصة لكل العوائل من خلال البطاقة التموينية كانت مجانية او بأسعار زهيدة جدا لأن كلفتها الحقيقية الكلية كانت على عاتق الحكومة، والحصص الشهرية للمواد الغذائية كانت مؤمنة طوال سنوات مراحل السلام او الحرب التي مر بها العراق في فترة نظام حكم البعث البائد.
واليوم خرجت علينا سلطة الاقليم من خلال هيئة حزبية واصدرت قرار اجراء الاستفتاء لنيل حق تقرير المصير لاقامة الدولة الكردية، ومن خلال قراءة مواقف الدول والجهات الدولية المعنية بهذا الشأن مثل العراق والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا والامم المتحدة وتركيا وايران، فان القرار لم يتم الترحيب به وجوبه بالرفض بحجة ان الوقت غير مناسب لاجراء مثل هذه الخطوة، والبعض فسر ان العملية تشكل خطورة على مصير ومستقبل العراق، وبالرغم ان الاجراء أولي وليس للجهر بالانفصال، الا ان وقعه كان بمثابة اعلان حرب على كل من ايران وتركيا فهاتان الدولتان لا تستسيغان ابدا الحق الطبيعي للكرد باقرار تقرير المصير حسب ميثاق الامم المتحدة ولوائخ االقانون الدولي، ولكن قراءات ما بين السطور تشير ان خطة الاستفتاء برزانية اردوغانية بدعم اسرائيلي لارساء سيطرة عائلية كاملة على الموارد النفطية الكردية التي تسوق عبر تركيا من قبل مافيا كردية وعراقية واقليمية بلا شفافية ودون رقابة رسمية.
والمثير والغريب حقا ان اعلان الاستفاء اتخذ بعفوية ساذجة، لأن القرار الصادر بتحديد موعد التصويت في 25\9 لم يصدر على اساس برنامج وطني استراتيجي مدروس من جميع جوانبه السياسية والأمنية والاقتصادية، ولا على أساس خطة محكمة تأخذ بنظر الاعتتبار كل البدائل والاحتياطات اللازمة لحماية وتأمين السلامة للمواطنين على المديين القريب والمتوسط وخاصة في مجال ضمان الأمن الغذائي، خاصة والاقليم يعيش في بيئة لا توفر الحكومة فيها للمواطن اي دعم ولا تموين ولا سلة غذاء ضمن برنامج نظام البطاقة التموينية المعمول بها لدى الحكومة الاتحادية، فكل سلع ومواد ومستلزمات الحياة العامة المعيشية والحياتية مرمية على كاهل افراد الشعب، والسلطة الحاكمة برئاسة البرزاني فرغت نفسها تماما من كل المسؤوليات القانونية والدستورية والانسانية والوطنية الملقاة على السلطات الحكومية واكتفت فقط بنهب الثروات والموارد والممتلكات ليلا ونهارا، وخاصة البترول وذلك بالتننسيق التام مع النظام الشوفيني الحاكم في تركيا برئاسة اردوغان المتلهف والعاشق المافوي للآبار النفطية الكردية.
والمعلوم للمتابعين السياسيين ان السيناريو المعد للاستفتاء مبهم وخجول وعقيم وساذج ومرتبك جدا، فهو لا يستند الى اية خطة مدروسة ولا برنامج وطني ولا بديل سياسي ولا احتياط مالي ولا خزين غذائي استراتيجي لضمان الأمن الغذائي لشعب الاقليم، وما جلبه الاعلان من ردود ومواقف لا تعبر عن حكمة أهل القرار الصادر ولا عقلية منطقية ولا تحتوي على طمأنة كافية لقلوب المواطنين، و جوهر الاعلان لا يحمل غير روح المغامرة للعب بمصير الشعب الكردي، ولو أبعدنا احتمالات كل المخاطر المتوقعة من العملية، فلا يمكن ان نبعد احتمال فرض الحصار الاقتصادي على الاقليم من قبل تركيا او ايران على أقل تقدير من خلال غلق الحدود، ونموذج حصار دولة قطر من قبل جيرانها الاشقاء بين ليلة وضحاها ماثل أمامنا.
وهكذا نجد ان البرزاني لم يوفر الارصية السياسية والاقتصادية والمالية والدبلوماسية والاجتماعية المناسبة لعملية الاستفتاء لضمان عوامل نجاحها وقبولها من قبل العراق والامم المتحدة والولايات المتحدة ومن قبل المجتمع الدولي، ولهذا جوبهت الدعوة من بداية اطلاقها بالرفض والمعوقات، وكذك فان السلطة او الحكومة الكردية التابعة للحزب الحاكم لم توفر أي خزين استراتيجي من المواد الغذائية وفق نظام البطاقة التموينية للمواطنين، ولم توفر اي خزين من الحليب والاحتياجات الغذائية والصحية الخاصة بالاطفال، ولم توفر خزين احتياط من الأدوية والمستلزمات الطبية، ولم توفر ايضا خزين من الوقود الابيض لمجابة موسم الشتاء، ولم توفر اي خزين استراتيجي من محاصيل الحبوب وما تتحدث به بعض المصادر الحكومية عن توفر خزين هو بالاصل عائد للحكومة الاتحادية، ولم توفر اي احتياط مالي لادارة ومجابهة الظروف الملحقة بالاستفتاء.
ولهذا نقول وبغض النظر عن جدية او عدم جدية مسألة الاستفتاء، لكن عدم طرح القضية من قبل السلطة بشكل قانوني ومن قبل البرلمان وعلى هيئة مسودة مشروع سياسي على الشعب وعلى الاحزاب لتعريف ماهيتها واهدافها وغاياتها ووسائل تحقيقها ودواعيها القانونية والدستورية ومقوماتها وحساباتها الكردستانية والعراقية والاقليمية، وفرت وصف الدعوة باللاشرعية وحملت الكثير من السلبيات وكشفت عن العديد من المعوقات السياسية والقانونية والاقتصادية التي تعترض العملية، وغياب الأرضية الشرعية شكلت علامة استفهام كبرى امام القرار الحزبي الفاشل المتخذ لاجراء الاستفتاء، وفي كل الاحوال نجد ان العملية تشم منها رائحة لعبة سياسية مراوسة للفساد الرهيب والنهب العملاق للنفط والثروات والاستيلاء البربري على الموارد والممتلكات العامة، وهي بمثابة مراوحة لاعادة تنظيم البيت البرزاني واعادة ترتيب للنهب الحاصل من قبل المافيات والقوى المحلية والاقليمية وفق منظور مصالح جديدة، وذلك بدليل اعلان الحكومة باعادة الحسابات المالية والحصصية لاهل السلطة مع شركتين للنفط عاملتين في الاقليم.
وفي الختام، نقول ان واقع الاقليم وما يجري فيه يدفع بالمواطن الى الحيرة والقلق وعدم الاطمئنان من ما يجري ومن ما يساق له من قبل السلطة، ولهذا نجد الانسان الكردي حائرا بكل المسائل ولا يجد الجواب الكافي الذي تطمأن به القلوب، ولا يجد البلسم الشافي لشفاء الجروح المتولدة من مسار سلطة الفساد والنهب ولاوطنية الاحزاب الحاكمة التي تتحكم بالحكم وفق سلطات جائرة، واصرار السلطة على نهب رواتب الموظفين من خلال برنامج الادخار الاستبدادي مثل ساطع على جورها ودليل على ابادة جماعية لحقوق المواطنة العامة واغتصاب للاستحقاقات المالية القانونية والدستورية، وسحق للكرامة الوطنية، وخزي للسلطة الحاكمة وعار للاحزاب اللئيمة التي تسايرها، ولابد من القول: نعوذ بالله من هذه السلطة المقيتة الغاشمة ومن الحزب الحاكم والاحزاب اللئيمة التي صنعت ظروفا لا تجلب غير العسر والسواد والتأزم والحياة المرة المواطنين، وملاعيب الطغمة الحاكمة لا ينبلج منها الا الغدر والاستبداد بحق الشعب المنهوك من الفساد والنهب والطغيان، وهيهات وهيهات من قدر لابد ان يستجيب ومن قيد لابد ان ينكسر، وان غدا لناظره قريب.
(*) كاتب وصحفي
………………..
ملاحظة: الرجاء من المعلقين الاعزاء عدم التعليق اذا كان محنواه لا يساير ولا يغني موضوع المقال، وتعليق واحد مفهوم افضل الف مرة من تعليقات لا تغني ولا تنفع وتبعث على الكراهية والاشمئزاز للكتاب والقراء الاعزاء معا، والكاتب الحقيقي ليس بحاجة الى تعليقات هوائية ومفبركة لتسجيل ارقاما تصاعدية دون منطق موضوعي واعلامي ومهني كما يذهب اليها البعض القليل، و”ايلاف” كبيرة بمنبرها ورسالتها الصحافية الحرة ومهنيتها، ولا حاجة لاستغلال نوافذ حريتها بطرق لا تتسم بالمصداقية، مع الود والتقدير.