18 ديسمبر، 2024 10:59 م

البرامكة: خيانة ودعوة مظلوم

البرامكة: خيانة ودعوة مظلوم

أنّ مما يؤخذ على الخليفة هارون الرشيد تنكيله بالبرامكة فيما اصطلح عليه تأريخيا بـ (نكبة البرامكة). وبرغم أن هذا الحدث كان نقلة فاصلة في تاريخ الخلافة العباسية، إلا أنه قد كثرت حوله الروايات والاخبار المتناقضة والمبالغات التي غيّبت حقيقة الحدث، وسأقف قليلاً عند حيثيات النكبة ودواعيها بشيء من الإيجاز.
البرامكة اسرة فارسية من خراسان (من مدينة بلخ في افغانستان حاليا) تدين بالمجوسية وعبادة النار وكان جد الاسرة (برمك) عالماً بالطب والتنجيم وهو سادن معبد النوبهار (وقد يكون برمك لقب للسادن وليس اسماً للجد). والسدانة رتبة دينية واجتماعية عالية، إذ يُعتبرون سادة في الفرس. ولم يعتنق برمك ألإسلام وكان ابناءه يشاركونه رعاية النار في حياته.
تقرّب البرامكة للعباسيين:
كان الإسلام قد انتشرفي خراسان التي فتحت في عهد عمر بن الخطاب، فتحول عدد من ذرية برمك الى ألإسلام وبعضهم تظاهر بالاسلام كي ينفذوا الى المجتمع الجديد ويندمجوا فيه فتركوا اسمائهم ألأعجمية وتسمّوا باسماء عربية.
في هذه الفترة كان الصراع السياسي والمتمثل في الدعوة السرية لاسقاط الخلافة الأموية محتدماً، والذي تحول لاحقا الى حراك عسكري مشترك عباسي علوي ضد الخلافة ألأموية، كان هذا الصراع قائمًا على أشده في خراسان. فانحازت العائلة البرمكية للعباسيين في مناطق خراسان، وتولوا قيادة الدعوة السرية والحراك العسكري هناك. فلما انتهت المواجهات بين العباسيين والأمويين بانتصار العباسيين واستيلائهم على السلطة. حفظ الخلفاء العباسيون للبرامكة هذا الصنيع، فقربوهم ووثقوا بهم. وولّوهم مناصب مهمة في قيادة الجيش وادارة الدولة بما فيها الوزارة (اي رئاسة الوزراء). فأحدث ذلك اختراقا كبيرا للعنصر الفارسي في دولة الخلافة العباسية الهاشمية.
هيمنة البرامكة المسبقة على الخليفة:
بدأ تغلغل ونشاط البرامكة في السيطرة على مقاليد السلطة من عهد الخليفة العباسي الأول أبو العباس السفاح حين استوزر خالد بن برمك ومنحه صلاحيات واسعة في شؤون البلاد. وخالد هذا له اربعة اولاد جعفر والفضل وموسى ومحمد. فشغلوا مناصب وزارية ووظائف مهمة في الدولة.
لم يقف اختراق هذه الأسرة عند حد الحكم والإدارة، بل امتد الى دار الخليفة ذاته (بدءًا بالخليفة الثالث المهدي بن أبي جعفر المنصور) حيث تقرب يحيى بن خالد بشكل شخصي من الخليفة واسرته واصبحوا جزءاّ من دار الخليفة، من خلال: (أولاً): إخوة الرضاعة بإرضاع ابن الخليفة المهدي (الذي سيكون فيما بعد الخليفة الخامس هارون الرشيد) بارضاعه مع الفضل بن يحيى، ليكون الرشيد اخ بالرضاعة لأبناء يحيى (الفضل وجعفر ومحمد وموسى، الذين سيكون لهم شأن وتأثير متعاظم في حيازة السلطة مستقبلاً). (وثانياً): من خلال قيام يحيى ذاته بدور ألإبوة المعنوية للناشيء هارون (الرشيد)، بالاشراف على تنشأته وتعليمه وتدريبه. وعليك أن تتأمل هنا متانة هذه الأواصر التي عقدها بني برمك مع دار الخليفة. إذ من الواضح ان توطيدهم هذه العلاقات الأسرية لم يأت من فراغ أو عفو الخاطر، وانما يأتي بتخطيط وتدبير محكم من بني برمك بغرض سياسي، في الهيمنة على القرار في بلاط الخلافة. وسيؤتي ثماره لاحقًا عند تولي الرشيد للخلافة، حيث سيحوزون على السلطة ومقدرات الدولة بالكامل.
لقد كان الخلفاء يعدون ابناءهم منذ الصغر على القيادة وتحمل المسؤولية، لذا كنت ترى أن الخلفاء يوجهون ابناءهم للمشاركة في المهام العسكرية على الحدود، إذ كانوا يزجونهم في جبهات القتال ليقوى عودهم ويكتسبوا الخبرة في فن القيادة وادارة الامور والتعامل مع الصعاب، كي يكونوا مؤهلين للخلافة وأدارة شؤون البلاد. (وليس كما هو حاصل الآن من محاولة تجنب ابناء المسؤولين من الخدمة العسكرية وواجب الدفاع عن الوطن). والخليفة المهدي كان حريصًا على تدريب ولده هارون الرشيد، فتم تدريبه باشراف (يحيى البرمكي) على الفروسية وركوب الخيل والرمي والطعن فأتقن كل ذلك وبزّ اقرانه من الأمراء.
هيمنة البرامكة على بلاط الخلافة:
حين اصبح هارون الرشيد هو الخليفة كان البرامكة قد بلغوا ذروة مجدهم في عهده، فقد مدّوا أذرعتهم وهيمنوا بالكامل على مفاصل الدولة وعلى الخليفة ذاته، وتلاشت هيبة الخلافة، واصبحوا هم الحكام الفعليين، وبأيديهم مقاليد ألامور المطلقة في خزينة الدولة وجباية ألأموال، والضرائب، والمنع والعطاء، وألأمر والنهي، والتعيين والعزل… وعزلوا الخليفة عن الرعية، وأصبحوا لا يوصلوا اليه من الاخبار الا ما يوافق مقاصدهم. بل وبلغ بهم الصلف والطغيان، انهم كانوا ينتقدون ويحاسبون الخليفة على تصرفاته، امّا هم فلا رقيب ولا حسيب.
أحدثوا صراعا فارسياً عربياً على السلطة والنفوذ داخل بلاط الخلافة. وسعوا لإسقاط الخلافة العباسية ممثلة بالرشيد وتقليدها مرحليا لإبنه المأمون وليس لولي العهد الأمين، وذلك لسببين: الاول: ان المأمون أمّه فارسية في حين ان ولي العهد الامين امّه هاشمية، وهم بعنصريتهم يميلون لمن يمت للفارسية بصلة. والثاني: ان المأمون تربى في حضن ورعاية جعفر بن يحيى ، وبذا يكونوا قد ضمنوا ولاء المأمون لهم.
لم يكونوا يشكلون الدولة العميقة في دولة الخلافة، بل كانوا هم الدولة الناجزة الظاهره للعيان. انها دولة بني برمك ذات التوجه الفارسي المجوسي المستهين بالعرب.
من مظاهر الهيمنة:
1- كان يحيى بن خالد البرمكي متقلدًا الوزارة (رئاسة الوزراء) مدة سبعة عشر عاماً، ويتمتع بصلاحيات مطلقة، وكان في الواقع هو الحاكم الفعلي، وليس الخليفة العباسي هارون الرشيد. وما وجود الخليفة على رأس الدولة الّا وجوداً رمزياً. وقد تقاسم يحيى وابناءه حكم دولة الخلافة العباسية من مشرقها الى مغربها. واستأثروا بالمناصب الوزارية والمهمة لأبناءهم وانسبائهم وصنائعهم الموالين لهم، واستقدموا من ابناء جلدتهم من فارس الشعوبيين والزنادقة وادخلوهم في مراكز مهمة في مؤسسات الدولة ومفاصلها المالية والادارية. مما يشي ظاهريا بسعيهم في تحويلها الى دولة مجوسية فارسية. هذا الصنيع، وما سبقه وما تلاه، يجسد الصراع ألأزلي الفارسي العربي على النفوذ في المنطقة.
2- جعفر بن يحيى البرمكي وضعت تحت امرته مقاليد الحكم للقسم الغربي للدولة من الانبار باتجاه الغرب مرورا بالشام ومصر وشمال افريقيا.
3- الفضل بن يحيى البرمكي وضعت تحت امرته مقاليد الحكم للقسم الشرقي للدولة من النهروان باتجاه الشرق مرورا بخراسان وخوارزم الى اقصى بلاد الترك في وسط آسيا.
4- موسى بن يحي كان أحد قادة الجيش وكان منشغلاً بتثبيت أركان الدولة العباسية التي هي واقعا تحت حكم البرامكة. وقد يؤجج صراعا وفتنة داخلية في خراسان ضد الخلافة لأغراض سياسية.
5- وأمّا محمد بن يحيى فيبدو انه الوحيد في الأسرة البرمكية مستور الحال، حيث لا تذكر أخبار التاريخ عنه مثالب وشكوك عقدية، ولا يعرف تأريخياً عن حياته شيء كثير، بخلاف باقي الاسرة ومن يرتبطون بها.
لقد غدت دولة بني برمك في زمن الرشيد دولة ذات طابع فارسي مجوسي، استعلت على المجتمع العربي وطغت على دولة الخلافة العباسية.
الاسراف من خزينة الدولة:
كان بيت مال المسلمين والموارد كلها تحت تصرفهم. فأثروا ثراءًا فاحشًا لا نظير له. وبنوا القصورالفارهة المزخرفة بالذهب والفضة في كل مدينة وقرية. وامتلكوا الأطيان في كل البلاد. فحيثما سرت تجد املاكاً تابعة لهم، واسرفوا في البذخ على انفسهم وعلى شيعتهم وانصارهم. واتخذوا المواكب والمراكب والأبهة بما يفوق موكب وابهة الخليفة. ومن الطبيعي ان يتوجه الناس المحتاجة الى ابواب ومجالس البرامكة لإستعطافهم على المنح والعطايا. واهمل الخليفة وغُيّب عن الرعية، وكأنه لا وجود له، إذ لا يملك من أمر بيت المال شيئًا، حتى ولو طلب لحاجة.
لقد رافق بذخ وسرف البرامكة، آلة اعلامية واسعة من شعر ومقالة وشهرة، حتى ضرب بهم المثل في العطاء (وما زال العراقيون يستخدمون لفظة برمكي أو يتبرمك نسبة الى بني برمك ويراد بها الشخص الكثير الإنفاق على نفسه أو على غيره، ولكن غالبا ما تستخدم على سبيل التهكم. لأن من يتبرمك ينبغي ان يتبرمك من ماله الخاص لا من أموال غيره. والبرامكة تبرمكوا بأموال الدولة). (لفظة برمكي ليست من مفردات لغة العرب في معاجم اللغة).
وجدير بالذكر هنا ثلاث ملاحظات: ألأولى: ان البرامكة كانو يتبرمكوا من بيت مال المسلمين. والثانية: أنهم كانوا يخصّون بعطاياهم فئات معينة من شيعتهم والموالين لهم وما يحقق مشاريعهم المشبوهة، اما عموم الشعب فليس له نصيب من تلك العطايا. ألثالثة: انهم بددوا ثروات الامة (المال العام) وانهكوا ميزانية الدولة.
صراع النفوذ الفارسي العربي في المنطقة:
لقد أجاد بنو برمك استغلال الاعلام في زمانهم. حيث عمدوا لتقريب أمهر الكتاب والشعراء والأدباء، وخاصةً ذوي الاصول الاعجمية واغدقوا عليهم العطاء، ليقوموا بلفت أنظار العامّة الى اعمال البرامكة والإشادة بها، وتمجيدها، والفخر بأصل البرامكة الفارسي، وتلميع صورتهم امام المجتمع العربي المسلم. كل ذلك من أجل أن يتقبل المجتمع طروحاتهم وما يسعون لنشره من عقائد ونظم وتقاليد فارسية وثقافة مجوسية، وبالتالي تكون النتيجة هدم عقيدة واخلاق هذه ألأمة. (فيكونوا قد نجحوا في مد نفوذهم في المنطقة)، واستعباد الناس وفي الإنتقام من الأمة التي أسقطت العرش الفارسي..
بدأت البوصلة داخل الدولة تنحرف وتسير بإتجاه تعزيز واحتضان الثقافة الأعجمية وادخال النظم الفارسية القديمة والعقائد الغريبة والتقاليد والنفوذ الفارسي الذي تغلغل في مفاصل الدولة، إذ انتعش تيار ثقافي اعجمي باتجاه اعادة المجوسية للحياة، ونشطت الحركات والدعوات الشعوبية والزندقة والإباحية والالحاد، ووجد كل ذلك له مرتعاً ودعمًا وحماية وصداقة من ابناء برمك. فولّدت هذه السياسة المريبة المخاوف وألهواجس عند العرب من طغيان القومية الفارسية. ولذا حاول بعض وجهاء العرب المسلمين التصدي للهجمة الفارسية، وحث الخليفة على وضع حد لها.
ألإعلام في خدمة العنصرية الفارسية:
لم يتورع البرامكة عن اظهار نعرتهم العنصرية الفارسية وتعصبهم لبني جنسهم في مجالسهم ومنتدياتهم. ولم يكتفوا بتأجيج الصراع العربي الفارسي داخل البلاط. بل وعمدوا على استقدام وتقريب المجوس والشعوبيين الفرس ممن جاهروا بمعاداة التراث العربي وسخروا منه، وزجوهم في وظائف الدولة المهمة بدل المسلمين، وقرّبوا السائرين في ركابهم من المرتزقة والمتزلفة والمارقين، ليكونوا أبواقاً لهم لينشروا الثقافة الفارسية والإشادة بها، واشاعة الانحلال والزندقة والالحاد في المجتمع. ببث دعوات، ومؤلفات، واشعار، وترجمات كتب أعجمية ترجموها الى العربية، تثير الشكوك العقدية والفرقة بين اطياف المجتمع. فكان من هؤلاء: علاَّن الورّاق الشعوبي، وسهل بن هارون، وحميد بن مهران، وسعيد بن وهب، وانس بن ابي شيخ، وبشار بن بُرد، وأبو نؤاس، ومطيع ابن إياس، وحماد عجْرد، وخلف الاحمر، وبني سهل، وغيرهم كثير من اصحاب الفن والشعر والقلم. (وهذا مربط من مرابط الطعن والشك في ولاء بني برمك للاسلام، لقد أسقطوا الأقنعة، على رأي من يقول بأنهم لم يعتنقوا الاسلام حقيقة، وانما بقوا على المجوسية ديانتهم الأصلية، وكانت بغيتهم السياسية: تحويل الخلافة من اسلامية الى ذات طابع فارسي مجوسي). وعلى اي حال، اقول: قد يكونوا صادقين في ايمانهم بالاسلام ( الله أعلم بذلك) ولكن يبقى ما بَدَرَ منهم من سلوكيات وتصرفات غير سويّة، هي التي جرّت عليهم نكبة جنوا بها على انفسهم.
نكبة البرامكة:
لم تكن تغيب عن الرشيد افعال البرامكة واستغلالهم للمناصب، واستحواذهم على المال والسلطة بل وحتى إساءتهم اليه شخصيا،. وكان يصبر عليهم ويغض الطرف لعلهم يرعوون، أو يقفوا عند حد. فقد كان وفيّا لهم، لما قدموه من خدمات في تثبيت اركان الدولة وفي تأييد توليه للخلافة. لقد كان حريصا على عدم القطيعة معهم. ولم يكن من السهل الإنقلاب عليهم، لسببين: اولاً: للصلة الأسرية والروابط الاخوية والعاطفية التي تجعله يتجمّل حتى يتيقن من استحالة المضي بهذا الشكل. وثانياً: لأنهم اصحاب النفوذ الفعليين ولهم اتباع وانصار في كل مفاصل الدولة. وليس من السهولة مجابهتهم أو تنحية بعضهم (ولو تدريجياً) عن السلطة. فهذا سيشكل جبهة معارضة قوية منهم، لا طاقة له بها. حيث غدت الدولة واقعاً دولة البرامكة لا دولة الرشيد.
لم يكن الرشيد فاسداً أو ظالماً، وإنما كان حكيماً عادلاً لا يرضى بالظلم. لم يكن الرشيد خَبّاً (مخادعاً)، كان أجلّ من ان يُخدع وأورع من أن يَخدع. وكان في ذات الوقت عبقريا بعيد النظر واسع الدهاء. (بدليل ماوصلت اليه بغداد في زمنه من عصرها الذهبي المؤطر بالرخاء والرقي الحضاري). ولذا كان الحق معه في ان لا يستمر طويلاً بصمته على مايجري في البلد اكثر مما صمت. وعليه ألآن إعادة ألأمور الى مجاريها. وأن يتحين الفرصة المناسبة، وأدلة الإدانة الكاملة التي تستلزم إتخاذ خطوته الجريئة التي لا مناص منها، ولا بديل عنها، وإتخاذ قرار يضع حدّاً لكل ذلك. ولتكن غضبة الحليم، إذا طفح به الكيل.
نكبة الفاسدين، البرامكة الجُدد:
كان لا بد له من السريّة والكتمان الشديد، على ماسيقدم علية، وبسبب هذه السرية في تخطيط وتنفيذ (البطش بالبرامكة)، نستطيع القول أنه ليس بمقدور أحد من المؤرخين حتى اليوم ان يعرف ماهو السبب المباشر الذي حدا بالخليفة هارون الرشيد للقيام بعملية تصفية البرامكة المفاجئة، وانهاء نفوذهم في ليلة وضحاها. قد يكون السبب كل الاخطاء التي وقعوا فيها. وقد يكون خطأ أو اخطاء بعينها . لقد جنوا على انفسهم. وأيّا مّا يكون السبب، فإن تصرفه بهذا الشكل دليل على حكمة ورجاحة عقل الخليفة وشجاعة القائد في التدبير والمباغتة في المواقف المصيرية التي تمس أمن البلد. دون ان يحدث فراغًا أمنيًا أو إداريًا أو ردة فعل عكسية في أركان الدولة. (وهو ماخلفه الامريكان في الفراغ السياسي والامني والاداري في العراق بعد الإحتلال، بعملية حل الجيش والاجهزة الامنية والادارية بذريعة الظلم والفساد). فعمّ الظلم والفساد. (ما أحوج بغداد اليوم الى الرشيد في حدث درامي جديد لنكبة الفاسدين، البرامكة الجدد!. الذين أثروا من المال العام على حساب الشعب العراقي)
الأسباب المباشرة للنكبة: الراجح أنه قد طفح الكيل بهارون الرشيد من طغيان البرامكة، بأمرين:
الأمر الأول: تشكيل الفضل بن يحيى البرمكي (حاكم الجناح الشرقي لدولة الاسلام)، لجيش تعداده 50 الف مقاتل من ألأعاجم في منطقة خراسان بدون مشورة الخليفة. جيش لا ينتمي لجيش الخلافة، بل يدين بالولاء للوالي الفضل البرمكي فقط، وليس للخليفة. (وهذا العمل هو أشبة بالمليشيات المسلحة التي تنشئها كيانات سياسية اوحزبية في وقتنا الحاضر ويكون ولائها لمن ينشئها، – فتعتبر خارجة على القانون-. ومن الطبيعي ان يكون الشك والريب قرين لأهداف انشائها). فنوايا إنشاء هذا الجيش لم تكن حسنة. بدليل ان الرشيد حين استدعى الفضل البرمكي الى العاصمة بغداد، (باعتباره وال تابع للخليفة) حضر ومعه عشرون الف من مقاتلي النخبة من هذا الحيش. في استعراض لقوة الوالي. ولقد ادرك الرشيد بهذا التحرك العسكري، انه هو المستهدف، وان هنالك انقلاب عليه على وشك الوقوع، وبالتالي فأنّ الخلافة العباسية في بغداد هي المستهدفة (إسقاط النظام) ، أو على أقل تقدير انفصال الجزء الشرقي من الدولة العباسية لإعادة تشكيل الدولة الفارسية المجوسية عليها. (على رأي من يرجح الشك في إسلامهم).
ألأمر الثاني: ظهور الخيانة العظمى من البرامكة (خيانة الوطن)، في تفريطهم بأمن الدولة. من خلال تواطئهم مع خصوم السلطات العباسية. (ما اشبه اليوم بالامس في تفريط أولي ألأمر بأمن المدن – المنكوبة- وتسليمها لداعش). وثبوت خيانة البرامكة لأمانة الخليفة حين أمرهم في التحفظ على (الثائرعلى الخلافة) يحيى بن عبد الله بن الحسن الطالبي الذي خرج في بلاد الديلم . وتوضيف قضايا آل البيت لمصالحهم. ويأتي تفصيل هذه الأمور وغيرها في البحث القادم –ان شاء الله- تحت إطار (تآمر وقتل البرامكة لآل البيت).
مفهوم النكبة:
تاريخياً هنالك من حاول التضخيم والتهويل لحادثة نكبة البرامكة. ورسم حولها هالة خيالية من المبالغة والدراما في القتل وسفك الدماء على الطريقة الهوليودية. وان (مسرور) سياف هارون الرشيد يقف بالمرصاد ليقطع رقاب الآلاف من البرامكة واعوانهم. وهذا كله تهويل ومبالغة، انما يتماشى مثل هذا التهويل ويتساوق مع اسلوب قصص الف ليلة وليلة. فكل ذلك لا يثبت وبعيد عن العقل والمنطق.
مفهوم النكبة في معاجم اللغة تعني بالدرجة الأساس: (الازاحة والابعاد والعزل)، كما تعني تاليا (المصيبة). وجملة ما فعله الرشيد للبرامكة ينضوي تحت مفهوم إزاحتهم وابعادهم عن التصرف في شؤون الدولة. وليس سفك الدماء والإيغال في القتل كما يشيعه الشعوبيون والحاقدون من القوميين الفرس. لقد اراد الرشيد التخلص من نفوذهم وليس من ذواتهم. التخلص من استبدادهم وتحكمهم، ولكن ليس بالقتل. بدليل انه لم يقتل من رؤوس البرامكة سوى جعفر بن يحيى، وانما قتله لإرتكابه الخيانة العظمى [خيانة الوطن] (سيأتي الحديث عن ذلك تفصيلاً في بحث لاحق). فلو كانت النكبة بمعنى القتل، لكانت قيادات البرامكة ممثلة في الأب يحيى واولاده الفضل وموسى ومحمد هم أول القتلى، لكونهم رؤوس الأسرة البرمكية المستهدفة في النكبة. (والوقع يشهد أنه ان اُريد إخماد تمرد أوأضعاف تنظيم أوكتلة انما تستهدف القيادة أولاً، من أجل أن ينفرط عقد ألأتباع بغياب القيادة). ولكن كان أمر الرشيد، السجن لهم هو البديل والذي هو حكم أقرب للعفو:
1- يحيى بن خالد (ألأب) حبس في منزله وتوفي سنة 190هـ وله من العمر 70 سنة وصلى عليه ابنه الفضل ودفن على شاطىء الفرات
2- أما الفضل بن يحيى، فقد سجن كذلك في منزل أخر وتوفي سنة 193هـ قبل وفاة الرشيد بخمسة أشهر، وهو ابن خمس وأربعين سنة، وصلى عليه اخوانه في القصر الذي كانوا فيه قبل إخراجه، ثم أُخرج فصلى الناس على جنازته. وهذا يعطيك فكرة عن نوعية السجن الذي يتواجد ويتقابل فيه البرامكة.
3- أما موسى بن يحيى، فقد بقي في الحبس حتى تولى الأمين الخلافة، سنة 193هـ فأطلق سراحه، فالتحق موسى بالخليفة الجديد الامين يقاتل في صفوفه، ولم يفارقه حتى قتل الامين.
4- واما محمد بن يحيى، فقد اختلفت الروايات في سجنه، فهنالك روايات تقول ان الرشيد استثناه من السجن لنصحه الصادق للرشيد، واخرى تقول انه سجن كذلك. وعلى اي حال فقد عاش حرّاً طليقًا طويلاً. والتحق بالمأمون الذي تولى الخلافة بعد أخيه الامين سنة 198هـ، وظل أحد قادته حتى وفاته.
ومن هنا ندرك ان الرشيد لم يكن مولعا بسفك الدماء كما يُشاع، في حدث هو الأبرز في تاريخه. وان مسرور السياف بريء مما ينسب اليه. وأوامر الرشيد في قضية النكبة كانت تهدف الى ابعاد وعزل البرامكة الفاسدين، وكذا الذين يمتون لهم بصلة ممن كان لهم ثأثير سلبي في ادارة الدولة، تأثير لا يتماشى مع خط الخلافة. ومع ذلك لم يطل محبسهم سوى قرابة 5 سنوات ليعاود من تبقى من الاسرة، الحياة بشكل طبيعي دون إعلام يُسلط عليهم ألأضواء، ولا صلاحيات مطلقة كما كانت لهم بالأمس.
اما مصادرة الاموال والضياع والقصور فهي أموال وأملاك الدولة، وإنما الشكاية فيها والحسم للقضاء. ولقد عُرِف عن الرشيد رده للمظالم، وطلبه للحق، وخشيته الشديدة من الله، حاجّاً ومجاهدًا.
واختم هذا البحث برواية وردت في كتب التأريخ مفادها: ان أحد ابناء يحيى البرمكي سأل اباه بعد ان اصابهم ما أصابهم: يا أبت! بعد ألأمر والنهي والنعمة صرنا الى هذا الحال. فقال : يابني! لعلها دعوة مظلوم سرت بليل ونحن عنها غافلون. (وحقًا وصدقًا ما قال . فان من يستولي على المال العام وعلى املاك الآخرين عليه ان لا ينتظر دعوة مظلوم واحد، بل ستلحقه دعوة مظاليم في جنح الليل، دعوة لن يغفل الله عنها. وقال : وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين).
ان من تثير نكبة البرامكة شجونه واحزانه لا يبعد ان يكون على صلة عاطفية بفارس القديمة، وأمثال هؤلاء هم من ثبت انهم شوهوا صورة الخليفة العظيم هارون الرشيد ووصفوه – ظلمًا وعدوانًا- بالمجون وشرب الخمر والظلم والجواري وكل مايشين.