تعلمنا من الذين سبقونا في دورة الحياة أن ” السخونة تجي من الرجلين”، وما درينا أنها من الرأس أكثر وقعاً وتأثيراً، ولاسيما عندما يكون الرأس كبيراً، ومحاطاً بالمضادات الحيوية، من جدران كونكريتية، وأسلاك شائكة، وقصور منيعة.
كانوا واهمين كما يبدو ، وأوهمونا معهم، لكن لا أحد يتعلم بسهولة، لذا لم نعد نفاجأ من فساد المسؤولين، ولا كذبهم، كما أدركنا بمرارة أن إحتراف الجريمة ليس حكراً على العصابات التي قرأنا عنها أو شاهدناها في الأفلام أو عشنا وقائعها كـ” آل كابوني الأمريكية، والمافيا الإيطالية، و أبو طبر العراقية، حيث أثبتت الأحداث لنا في أقل تقدير أن أشرس العصابات تلك التي تتنعم بجاه السلطة، وأقذرها عندما تتشح بوشاح القانون وتلبس بزته.
الكارثة، عندما تتحول الوسائل التي تمنح للمسؤول الى أداة لتنفيذ أغراضه الجنائية، بحق خصوم أو منافسين، أو عقدة إنتقام متأصلة فيه، لايستطيع الإنفكاك منها، والأكثر كارثية عندما تتعطل أدوات المراقبة والمحاسبة عنه، سنين عديدة.
نوري البدران، إسم قد نسيه بعضكم، أو لعله هو من سعى ليكون في الظل منسياً، لكن دعوني أذكركم به، أنه وزير الداخلية، ربما الأول، منذ التغيير، حيث شغل هذا المنصب أتناء مجلس الحكم، لمدة سنة، إستقال بعدها، وقيل أقيل بأمر من الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر، لكن سياقات الكذب السياسي، وبروتوكولات العم سام أعطت غطاءً قانونياً لخروج البدران من الداخلية، لكن مع الإحتفاظ بنياشينه، وحماياته، وأكثر من ذلك بقاء شرف الإنتساب الى المنطقة الخضراء، وكان بريمر بحسب المعلن قد عبر عن أساه لإستقالته ” نأسف لقرار وزير الداخلية نوري بدران بالاستقالة، لقد قدم خدماته بمهارة في منصب صعب وفي ظروف صعبة”، وهذا الصك يمنحه حصانة التقلب بنعم السلطة ، “وإن لم ينتم”.
ليس في ما ذكرت تعريفاً مستوفياً لصاحب ” السيرة”، أو ” الترجمة”، لكن من خلال مسيرة الظل التي إنتهجها ظهرت بعض الومضات بالمصادفة، منها أنه واحد من خمسة أشخاص يشكلون ، شركة أمنية عراقية – بريطانية ، تحت عنوان توظيف العراقيين، ربما نجح هو في إخفاء ملامحه من الشركة، لكن كما يقول أخواننا المصريين ” ياخبر بفلوس بكرة ببلاش” حيث كشف موقع الشركة “lmurabit security services a ” عنه ، بصفته الرسمية كرئيس وشريك، مع نبذة من حياته، ومما جاء فيه أن السيد نوري ” يشرف على كل نواحي عمل المرابط لضمان التزام الشركة بالعمل حرفياً بحسب روح القانون العراقي، ونتبع ( أي الشركة) سياسة توظيف (العراقي أولاً )، ونضمن أن كلاً من المرابط وعملائنا يستفيدون بأكبر قدر من خبرته السياسية”.
ومن اللافت للنظر أن هذه الشركة التي تدّعي أن سياستها في التوظيف تعتمد على ( العراقي أولاً) ليس لها موقع باللغة العربية!!.
نترك سر هذا اللغز، لنأتي على قنبلة الموسم التي تفجرت أخيراً مع نهاية العام الجاري، حيث ذكرت مصادر حكومية إن السلطات الأمنية المسؤولة عن حماية المنطقة الخضراء أمرت وزير الداخلية الأسبق نوري البدران بإخلاء منزله ومنعه من دخول المنطقة المحصنة أمنياً لأسباب متعلقة باتهامه بالوقوف وراء عمليات احتيال وانتحال صفة كان ينفذها حماياته الخاصة لإبتزاز مقاولين ورجال أعمال لهم مصالح في العراق.
وأكدت مصادر مطلعة في المنطقة الخضراء في تصريحات صحفية إن إجراءات طرد وزير الداخلية في حكومة إياد علاوي، نوري البدران، جاءت في إثر ورود معلومات استخبارية أدت الى إلقاء القبض على أفراد من حماياته لقيامهم بتنفيذ أجندات خاصة بالبدران نفسه، على الرغم من إن واجبهم (كمنتسبين في وزارة الداخلية) يحتم عليهم حماية الشخصيات الأمنية والسياسية وعدم التورط بأعمال مشبوهة.
وأوضحت المصادر إن التحقيقات الأولية أشارت الى تورط عناصر حماية نوري البدران بعمليات ابتزاز يقودها السكرتير الشخصي له، والذي يدعى، دريد، مشيرة الى ان الاعترافات الموثقة لحمايات الوزير أكدت إن “دريد” كان يأمرهم بتنفيذ الواجبات الخارجة على اختصاصهم، وان أمراً قضائياً بإلقاء القبض صدر بحقه، إلا أنه فر قبل تنفيذ الأمر القضائي.
وقالت المصادر نفسها إن التحقيقات أثبتت أن “دريد” يدّعي إنه ضابط برتبة رائد في وزارة الداخلية، إلا أن الواقع يؤكد إنه منتسب بدرجة شرطي، وقد ترك العراق في الماضي متوجها الى تركيا للحصول على اللجوء قبل أن يعود بعد فشله في تنفيذ خطوته، فيما كان البدران طوال مدة غياب سكرتيره يتسلم رواتبه من وزارة الداخلية من دون إبلاغها بتركه العمل، بحسب المصادر.
وأفادت إن القوات الأمنية تبحث حاليا عن سكرتير البدران الذي فر الى جهة مجهولة، وتنتظر القاء القبض عليه لمعرفة مدى صحة الاعترافات التي أدلى بها منتسبو الحماية بخصوص تورط الوزير السابق بإصدار أوامر لسكرتيره لتنفيذ أعمال مشبوهة متعلقة بابتزاز رجال أعمال ومقاولين عراقيين واجانب.
الى هنا إنتهى الخبر، لكن القضية لم تنته، ولعلها البدابة في نهاية هذا العام لإصلاح ما أفسده المفسدون في العراق الجديد، مع التحفظ على الأسماء والذوات، ويترك الأمر لذوي الإختصاص.