كما كان متوقعا، فشل وفد ائتلاف ادارة الدولة برئاسة رئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي وعضوية المرشح لرئاسة الحكومة محمد شياع السوداني ورئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض مع رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني حول اختيار رئيس للجمهورية وتشكيل الحكومة المقبلة.
وكما ترون، كانت المسألة مقفلة على ثلاثة، نوري المالكي ومسعود البرزاني ومقتدى الصدر، منذ زمن جطويل، وما زالت مقفلة على الثلاثة حتى يوم أمس، على طريقة لعبة الصبية العراقيين:(بيني وبينك ضيعناها).
فحينا يزعل هذا ويرضى ذاك، وحينا آخر يرضى هذا ويزعل ذاك، والوطن كرة بين أقدام هذه الحثالة البائسة المنافقة المختلسة القابلة بالعمالة للأجنبي.
أما الشعب وهمومه وحقوقه وأحلامه فكلام عن السلاطين. لا أحد من كل هذه الشلل الجائعة للسلطة والمال يفكر بغير نفسه وأسرته وحزبه وجهاز المخابرات الأجنبي الذي نصبه وجعله من أصحاب الفخامة والسيادة وهو لا يستحق أن يرعى حتى عنزتين.
واليوم، فقط، أصبح واضحا أن برلمانهم لن يتمكن من انتخاب رئيس جمهورية وتعيين رئيس وزراء، ما دام كاك مسعود مضربا عن الكلام، وما نوري المالكي يأمر ويطاع، وما دام مقتدى يشحذ سكاكينه في الخفاء.
واليوم، أكثر من أي وقت مضى، أصبح من حقنا أن نعترف بضياع أصوات التشرينيين الغاضبة التي ملأت شوارع الوطن وساحاته الواسعة، منذ 2019 وحتى آخر ظهورهم في مطلع الشهر الحالي.
والخوف الخوف على شبابهم من خنازير السلطة، وثعالب أحزابها، وذئاب مليشياتها.
فهي حين تبتسم لهم وتعدهم بطيب الخاطر إنما تتهيأ لتكون عليهم أشد من براميل بشار أسد على شعبه السوري لو أصبحوا خطرا حقيقيا يهدد مواقعهم ومنافعهم، بل ربما أكثر دموية وهمجية. وذلك لأنني أعرف خامة الحكام الحاليين أجمعين، وأعرف حجم ما فيهم من خبث ونفاق وغش وغدر وأنانية وقسوة وحيوانية، وأعرف أن أحدهم لن يتورع عن حرق مدينة بأكملها من أجل أن يشعال سيكارة.
تذكرت لقاءً تاريخيا مع واحد من وزراء الوطن الذين توهم المتظاهرون بأن حكومة الفاسدين يمكن أن تطهر نفسها من الفاسدين.
جمعتنا به وليمة غداء سياسي في عمان، بحضور بضعة من رجال الصحافة والتجارة العراقيين المقيمين في الأردن.
وفي ذلك اللقاء سالت نفسي، ترى ماذا سيفعل بهم هذا الوزير الذي رفعوا صورته باعتباره واحدا من المطلوب عقابُهم حين يتأكد من أن هتافاتهم ضده قد تحولت، أو ربما تتحول، إلى فعل، توشك أن تمس جدارا من جدران قصره في المنطقة الخضراء، أو مصرفه في بغداد، أو مزارعه الواسعة في الحلة وكربلاء؟
“إن المعارضة كلها، بكل أنواعها وأشكالها، لن تهز شعرة من رأس أصغر وزير أو غفير في حكومتنا”.
هذه العبارة ليست لي، بل هي بعض ما صَعَقنا به ذلك الوزير المتدين ذو المحبس الشذري الثمين، والـطبعة اللامعة على جبينه من أثر السجود، واللحية الخفيفة الأنيقة البيضاء المنسقة جيدا، والمضمخة برائحة العود.
بادرني، تعليقا على بعض مقالات نقدية كنتُ نشرتها في بعض الصحف العراقية والعربية، فقال بتسامح مفتعل، “إننا نرحب بالنقد، ولكن شرط أن يبقى في حدود المعقول”.
واختلفتُ معه في تحديد هذا (المعقول)، فما يراه هو غيرَ معقول أراه أنا، ويراه معي أغلب المعارضين الآخرين، معقولا وأحسن معقول.
ثم وصف كتاباتنا بأنها (سفسطات) فارغة يثرثر بها عاطلون عن العمل مساكين لا تقتل رئيسا، ولا تخطف وزيرا، ولا تنسف برلمانا، ولا تمس حجرا من بوابات قصوركم المحصنة.
قلت: إنها زفرات ننفثها من حلاوة الروح، وصيحات نطلقها من حرقة القلب على وطن لم نذق طعمه الحلو لا حين كنتم معارضين، ولا حين أصبحتم حاكمين، لا وأنتم جائعون، ولا أنتم أثرياء ومتخمون.
ثم أضفت: مادامت كتاباتنا لا تضر ولا تنفع فقل لزملائك الوزراء والرؤساء والمدراء والسفراء، سكان الجنة الخضراء، ألا يَضيقوا ذرعا بكلامنا الفارغ الذي لا يهش ولا ينش، وأن يكفوا عن ملاحقة بعضنا، قضائيا أو بالكواتم، أو بالصحافة البذيئة التي تلفق القصص والحكايات الكاذبة حولنا. فلكم، ولأولادكم ولأعمامكم وعماتكم، وأبناء أعمامكم وعماتكم، وأخوالكم وخالاتكم، وأبناء أخوالكم وخالاتكم جميع المناصب والمراتب والمكاسب والشركات والصفقات والحمايات والمصفحات، ولنا، فقط، هذا الكلام الفاضي، خصوصا وأنك، يا سيادة الوزير، أعلنت في أول هذه الجلسة أنك لا تقرأ شيئا مما نكتب، ولا تسمح لمعاونيك بنقله إليه، لأن وقتك لا يتسع لهذه الترهات والخزعبلات.
ثم خضنا جدلا معقدا طويلا مع السيد الوزير حول مفهوم الحرية والسلطة والمعارضة، وحول حدود كل منها في أنظمة الحكم الديمقراطية. فأصر هو على أن شعبنا مازال لا يصلح للديمقراطية، ولا يصلح للديكتاتورية أيضا.
ضحك السيد الوزير وقال ساخرا، “على العموم. نحن لا نحتاج إلى معارضة، فنحن بدونها نعرف السراط المستقيم”.
ثم استدرك قائلا “ومهما كبرت المعارضة واشتد عودها فلن تحقق شيئا ذا قيمة. وأمامكم صدام حسين. ماذا فعلت معارضتنا كلهُّا بنظامه طيلة خمسٍ وثلاثين سنة؟ لا شيء. ولولا بوش وصواريخه لعاش أحفادنا تحت سلطة أحد أحفاد السيدة حلى أو أخيها قصي عشرات السنين القادمة”.
ومضى السيد الوزير في تثقيفنا، بجدية بالغة، كاشفا لنا عن ثقافته ولطفه وذوقه العالي، فألقى في وجوه الجالسين عبارة كأنها بصقة كبيرة، قال: “منذ بدء الخليقة كانت الحكومات تسير والمعارضون ينبحون”. ولم يستحِ منا، ولم يستدرك، ولم يعتذر.
أليس من حقي، إذن، أن أخاف على خيرة شبابنا الوطنيين الشجعان من وزراء من هذه الخامة وعلى هذه الشاكلة؟ إنهم قصابون بثياب وزراء .