التاريخ سجل الزمن ومرآة الشعوب، وموئل حكمتها، ورمز عظمتها وانحطاطها، كلما كان عظيما” كلما دل على عظمة الامم وجرأتها في صهر الزمن وصناعة الحضاره والقفر نحو المستقبل وحيازة الارتقاء. والامم العريقه رغم توالد الحضارات وانحطاطها، بقيت الأمم العظيمه سيدة الميدان. فالعوامل المحركه للنهوض والانحطاط لم تتغير كثيرا رغم كل تعقد الحياة ونبوغ ماأنجزته الحضاره الانسانيه.
ان عوامل التاريخ التي انتجت حضارة المسلمين ماكانت لتكون ومضه سريعه ماتت بموت من قدحها. فمنذ فجر الظهور الأول للمسليمن بلا انبياء بالغوا في الإخفاق والسقوط لدرجو غريبه. فلازالت عقد التاريخ الاسلامي تنتج الهزال الحضاري والعجز الثقافي بشكل استثنائي.
ظهر الكثير من رجال التاريخ ممن حاول اعادة قراءته وانتاج معرفه تُفعِل حركة الحياة في الامه مثل اين خلدون وا بي بكر ابن العربي، وطه حسين واحمد امين وغيرهم الكثيرين. ولكن لم تبلغ قرائاتهم ومحاولاتهم درجة ان تتبناها الدول المعنيه او المؤسسات الثقافيه. بل بقيت الحال وكاننا نكمل حالة السبات اللذي نام به ابائنا قرونا”… يرجع البعض هذا الخلل الى الافتقار للمنهج.فاوربا عندما أغدق جون لوك وفرانسيس بيكون ووايتهد، وروسو، بثرواتهم المعرفيه الهائله كان الهدف الاول في بروزهم هو أنتاج وتسويق المعرفه وفق منهج محدد بغض النظر عن قيمة هذا المنهج بالنسبة لنا، ولكنه جعلهم يتحاورون ويبحثون ويؤلفون لغايات محدده وليس ترفا ارستقراطيا” كما كان يفعله ابن عباد وابن خلدون.
عندما اتصل الرواد العرب الاوائل عرفوا اهمية المناهج في قراءة التاريخ والحياة ولكنهم لم يوفقوا في تفعيل حركه تجديد ونهضه منهجيه، ولم يتمكنو من صناعة منهاج مقبول في دراسة التاريخ وكتابته.
ان العقيده الروحيه الهائله في الاسلام لو خضعت الان لمناهج البحث العلمي والاستقصاء في تنقيتها من الاسطوره والميتافيزيقا الغرائبيه لامكن انتاج توربين نووي يصنع حضارةُ لايمكن ان يُذل بعدها العرب والمسلمين.
أن تطبيق المنهج التاريخي مثلا” لن يكون فقط تأصيل للثقافه القرانيه في التاريخ بل تحصين المتوارث امام الالحاد والانكار الذي ملئ الساحه الثقافيه. لان منهج العمل في اي نشاط انساني هو تجميع وتنسيق الطاقات الفاعله وصبها في هدف واحد يجعلها أكثر فاعليه قادره على التجدد والمناوره. ان غياب المؤسسات الاسلاميه التي تأخذ على عاتقها مهمة التأليف والنقد التاريخي , وغياب الرؤيه التاريخيه للباحثين العرب حوّل نتاجهم الى عامل يعمق شروخ الامه ويوسع فجوة الخلاف, بدل أن يستنزف الجهل والخزعبلات. فما كتبه الكثير من المؤلفين في تاريخ الإسلام لم يكن بحثا” نزيها لاعلاء الحقيقه وتجدي الامه بل ان منهم أصّل للخلاف والشقاق كمحمد عماره في الخلافه واصول الحكم اذا لم يكن نزيها او موضوعيا” في تحميل مسؤولية هزيمة الإسلام امام خشونة الصحراء. حتى ان ابن خلدون رغم المسحه المنهجيه التاريخيه في كتابته الا انه لم يكن امينا” في نقده للمذاهب وحياة العرب.
ان ظهور موجات الماديه التاريخيه ودعوات الانفصال عن التاريخ لم تثمر في خلق طبقه اصيله تكون بديلا” عن حالة الضياع الشامل، بل استشعرت العار من التاريخ وتفرعنت بامتيازاتها وقربها من السلطه واحتقرت المجتمع. ان غياب الاسلوب التركيبي في قراءة الاحداث التاريخيه فتح الباب لقراءات أنتقائيه والتي انتجت حركات بمنتهى الدمويه ابقت التجميع العفوي لاحداث التاريخ القديم وكأنها حقائق مقدسه. واخذت تخاطب الامم الاخرى بقناع صنعه الاولين بلا مسؤوليه تاريخيه.
هناك عوائق هائله تمنع قراءة التاريخ بشكل منهجي واولها هو الاحتواء العقائدي لاي قراءه بحيث يتحول النسق التاريخي الى تقديم ايديولوجي للفئة التي تقوم بالمشروع. لان اعادة القراءه تحتاج الى تمويل هائل غير متاح للافراد والمؤسسات الصغيره. لذلك ولغياب المسؤوليه الاخلاقيه حاولت الدول تجيير هذه المشاريع لتمرير نسق عقائدي او سياسي غير مسؤول. ونتيجة لذلك فشلت دعوات ميشيل عفلق وصدام حسين والاسد وحتى القراءات الجاده مثل جورج طربيشي وعابد الجابري لم تفارق نتاجاتهم النخبه أو الرفوف.
ان نقص الاختصاصات الاكاديميه وفقدان النيه الصادقه في بناء مشروع حضاري يبدأ باعادة القراءه للتاريخ اثبطت عزيمة الباحثين حتى بعد زوال العامل الجغرافي اللذي كان من أكبر العوامل التي منعت إنضاج تجربه رائده في البحث التاريخي. اما قاصمة الظهر في مشروع مثل هذا فهو عدم الاتفاق الى الان رغم كل هذا الوقت على طبيعة هذه القراءه، هل اعادة كتابة التاريخ تشمل كل التاريخ الاسلامي، بحيث يتم رفض كل الرؤيه التي قدمها القدماء حول الاحداث، ام فقط تطبيق اسلوب انتقائي للاحداث. او ربما فقط تفسير وتحليل منتجات التاريخ. أما اذا تحولت القراءه الى فصول فنتازيه تمجد ابطال وهميين تخدع الامه بماضٍ غير موجود كأبطال الكواسر , فأنا على يقين بأن إبن الوهاج لن يعود ولن تعود العنقاء ولا حتى الباشق في زمن لايقبل البطوله الا عندما تأتي من هوليود.
ان اعادة اكتشاف قدرات الامم وصياغتها بمنهاج ايجابي محايد سيفعل قابليتها على الخلق والابتكار، ويقوي قدرتها على التحدي ومواجهة الصعاب والامم التي تعيش في الماضي بعقولها, واجسادها في الحاضر, لن تجد في المستقبل لاجسدا حيا” ولاعقلا” يشعرها بعظمة الحياة..