في كل آب يحتفل الديمقراطيون الكوردستانيون بذكرى عزيزة عليهم، ألا وهي ميلاد حزبهم المناضل (البارتي) الذي تأسس قبل ثلاثة أرباع قرن على يد الخالد مصطفى البارزاني، في مرحلة تداخلت فيها الأمور، وإلتبست الخيارات على العاملين في الشأن السياسي. ولأنه رفض سياسة الإذعان للواقع البائس، وقام بتمحيص الأمور بوعي وبصيرة، وفكر بسعة خيال بعيد عن الإنصياع والمغامرة، وصمم على إمكانية تحويل السياسة من فن الممكنات إلى تجميع خيوط التطلعات والأحلام المتناثرة لمواجهة المستحيل، ولأنه لم يصب بآفة التهور والمغامرة، فقد صنفه الكثيرون ضمن أحزاب الواقعية السياسية الخلاقة، وقالوا عنه أنه حزب لايشبه غيره.
تأسس ودخل في نطاق الخيار الاستراتيجي الخصب، عندما رفض التهور السياسي العراقي وضعف بصيرة البعض من قادة ثورة تموز 1958 ورعونتهم من خلال الإنحراف عن قيم ثورة تموز، وسفك دماء الأبرياء الكورد الآمنين، وأقدم على خطوة الثورة الكوردستانية الجريئة، ولجأ أبانها الى التحصن في جبال كوردستان دفاعاً عن الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكوردستان.
بعد أعوام ثورة أيلول التحررية (1961- 1975)، وثورة كولان التقدمية (1976- 1991)، قاد إنتفاضة الكوردستانيين في آذار1991، وهندس بعدها لمرحلة المصالحة الوطنية والقومية وتهيئة الظروف لإجراء إنتخابات برلمان كوردستان وتشكيل حكومة الاقليم، وما بعد إسقاط البعث في 2003، مارس الواقعية السياسية برؤية وخيال إستراتيجيين، وقرأ حسابات موازين القوة وثقل المصالح الدولية في المنطقة، وأوصد الأبواب أمام الاندفاعات القومية الصاخبة والسرديات الواهية، لذلك إكتسب كل الشرعيات تقريباً، وما زال يملك الكثير لكي يتكئ عليها ويفاخر بها. خاصة وأن من يختلفون أو يتفقون معه، ومن يؤيدونه أو يعارضونه، ومن يكرهونه أو يحبونه، يعترفون بشجاعته وبحفظه للعهد والكلمة، وبمواقفه الصادقة، وبأنه الحزب السياسي الأكثر حضوراً وفعالية وقوة وحزماً، وبأن سفينة كوردستان لا تسير نحو الأمان الا بمثل هذا الصنف من الأحزاب.
وفي عراق مابعد 2003، منح نفسه فرصة أن يفهم ماجرى من أحداث وتبدلات سياسية وما ساد من فوضى وفساد وخراب، برؤية موضوعية عاقلة، ورصد تصرفات ومواقف الطبقة السياسية والادارية الحاكمة في البلد. وحاول إعادة النظر ملياً وبرويّة وإعتدال في خريطة علاقاته وإنعكاساتها على النتائج التي نعيشها الآن. وإستوعب مطالب الكوردستانيين والعراقيين عموماً، ومن باب تفهمه للواقع السياسي طرح العديد من المبادرات والاقتراحات السياسية العملية.
لهذا الحزب الذي يستعد في هذه الأيام للمشاركة في الإنتخابات البرلمانية العراقية المقبلة، والفوز بأكبر عدد من المقاعد، رئيس إسمه (مسعود بارزاني)، الذي يعتبر أهم وأبرز فاعل سياسي في المشهد العام بلا منازع. رئيس يجلس في مكتبه ببيرمام، ويحجّ اليه جميع الرؤساء والوزراء والسفراء، ويقصده جميع ضيوف العراق وكوردستان، وأغلب البرلمانيين والسياسيين ورجال الدولة بمختلف الوانهم وطوائفهم وتياراتهم ومناهجهم، يُزار ويُذهب اليه وتُطلب منه المشورة والنصيحة.
هذا الحزب يختلف عن بقية الاحزاب في كوردستان والعراق والمنطقة، في خطاه وماضيه وحاضره ومستقبله، وفي إحتضانه لكل الإتجاهات القومية والدينية المعتدلة بين صفوفه، وفي ثقته بنفسه وجماهيره الواسعة المتماسكة التي ترفض الانحناء.
من ينظر الى جداول الأصوات التي حصل عليها خلال جميع الإنتخابات السابقة، يلاحظ إرتفاع منسوب أصواته في كل عملية إنتخابية عن التي سبقتها. ولهذه الزيادة في الأصوات معاني ودلالات خاصة صدمت الكثير من المراقبين، وبالذات بعد أحداث إكتوبر 2017، عندما إتسع حجمه ودوره وحضوره الفعال على الساحة السياسية الكوردستانية والعراقية وتحول الى الحزب الأول من حيث عدد المقاعد في البرلمان العراقي وبرلمان الاقليم، والمحبوب جماهيرياً.