تاليف : أ . ن ولسون
ليس من السهل ان يتناول الناقد ادب دستويفسكي ، وقد كتب الكثير من النقاد عن دستويفسكي ورواياته ؛ بيد انهم اي النقاد لم يحيطوا بدستويفسكي احاطة تامة بحيث يحق لنا ان نقول كنقاد ومتلقين ، ان دستويفسكي اصبح تراثا او تاريخا او كاتبا وروائيا عاش عصره وكتب عنه ويجب ان نضعه على الرف ، لانه لا يقدم لعصرنا شيئا في مجال الرواية والفلسفة والنقد . وها هو الناقد رووان وليامز يخرج علينا بكتاب جديد اسمه : اللغة ، والايمان ، والرواية. وقد تناول هذا الكتاب الناقد أ . ن ولسون في مقالة اسماها ” البابا دستويفسكي “يشرح فيها وجهة نظر دستويفسكي في الدين ، وبالطبع ، يعد ولسون احد عمالقة النقد الامريكي وليس من السهولة بمكان ان ننقل عن ولسون وهو صاحب الاسلوب المعقد في تناوله للاعمال الروائية فضلا عن تميزه في الكتابة عن دستويفسكي، فكيف والحال بنا وهو يكتب عن واحد من عمالقة الادب في القرن العشرين الا وهودستويفسكي.. من جانبي ازعم لنفسي انني استطعت ان اقرب للمتلقي في هذه المقالة ، مع الاحتفاظ بروح النص وعمق الاسلوب التي عبر فيهما ولسون عن وجهة نظره عن دستويفسكي..
المترجم
إن وجهات نظر فيودور دستويفسكي غير المحمودة في الدين هي من الصعوبة بمكان ان نثبتها بكل وضوح. وعلى العكس من ذلك ؛ فانت إن جمعت النقد الذي كرس عن تولستوي، فلن تجد ادنى ريب في ايمانه الديني ، و في اي مرحلة من مراحل حياته . مع ذلك ، فاننا نجد في تاريخ نقد دستويفسكي على سبيل المثال ، و في قراءات هنري ميللر له ، فانه يعد ثوريا اجتماعيا بامتياز . في حين يراه البعض الاخر محافظا متطرفا . وفي كتابه الاخير يقتبس روان وليامز و يرد ب” البيُنة ” على وليام هاملتون الذي كان يبحث ليصف دستويفسكي بانه مبشر بموت الميثولوجيا الالهية .ويذهب جورجز فلورلفسكي الى وصف دستويفسكي بانه نموذج للارثوذوكسي الروسي . ويربط مالكولم جونز افكار دستويفسكي ب” ما بعد العلمانية ” في روسيا المعاصرة . ويتهمه بالعمل في التقليل من شان الدين . إن جميع هذه القراءات المتناقضة لا يمكن ان نعدها دقيقة ؟
وهنا ، اننا بحاجة الى توحيد مواهب ناقد ادبي وثيولوجي متمرس، ليستنبط لنا كيف ان روايات دستويفسكي تستخدم كوسائل تعبير في الكشف عن هذه التوضيحات. واننا بحاجة ايضا ، الى مؤرخ يكون متضلعا جدا، في التراث الروحي والمزاجي للكنيسة الارثوذوكسية الروسية لندرك هوية دستويفسكي وعذابات شخصياته القلقة من خلال اطار تاريخي واضح .ومن حسن الحظ ،ان بابا كنتربيري جمع كل هذه الخاصيات ، وربما اكثر.
فثمة كثير من الرؤى في هذا المجال لدى دستويفسكي .اللغة والايمان والرواية التي تلقي الضوء على مواضيع رواياته والتي يمكن ان تتاتى من هذ التحليل حسب . مثل دراسة وليام لرواية “الابله “اوالسمات البارزة للوحة هولبين “المسيح في القبر”( 1521 ) مثالان توضيحيان كي نفهم بطل الرواية الرئيسي . و” شهادة ” هولبين تعرض ( رغم ان هذا ليس واضحا في الرواية ) مشهدا جانبيا من جثة – ليس جسدا ميتا مسجى حسب ،في لحظة الماضي ( اذ ثمة رسوم ارثوذوكسية لجسد المسيح مسجى ) ولكن جسدا مسجى على شكل صورة جانبية ، هو إنكار مضاعف للتقاليد الايقونية iconography، وباحساس موضوعي ، واضح ،تعد هذه الايقونة صورة ” شيطانية ” اذ ثمة قراء قليلون لا يؤمنون بالكنيسة الارثوذوكسية و يدركون الحقيقة ، يقدمهم لنا هنا وليامز .و في تراث الايقونات ،نجد شخصيات وحيدة تظهرعادة على شكل وجوه ،هم الشياطين او يهوذا الاسخريوطي ، وهذه اضافة مختصرة ذات صلة بموضوع تراكمات وليامز في قراءاته لرواية شخصية ” الابله ” بعيدا عن رؤية مشكين الذي يشبه صورة المسيح .ووليامز ينبهنا الى ضعف مشكين ” المميت “بوصفه شخصا بريئا وعاطفيا ، وكذلك ينبهنا الى انه قوة غير متعمدة في الخراب ، فهو يضرب الهدف بهذا القرار المتناقض بدقة متناهية. فمشكين الرجل الطيب لا يمكنه تفادي الاذى . وفي ختام كتابه يطلق وليامز زعما لافتا للنظر،هو ان الاندماج المتنافر في كثير من اعمال دستويفسكي يخلق شيئا قابلا للمقارنة في تراث لوحة الايقونة .
ان هذا الاندماج او الانصهار استسلام لمزاعم حقيقةمستقلة واستسلام لمجازفات فعلية ،وشكوك وعدم توكيدات هذه الحقيقة بالكلمة والفعل ، يخلق حياة روحية (وبشكل خاص الحياة الروحية المسيحية ) وهي احد المؤشرات لا كل المؤشرات ، ونقد للذات غير المتفحصة ، وما هو متميزجدا في فن السرد الدستويفسكي ، هو انه لا يعطينا مسرودات في هذا الاندماج الصعب حسب ، لكنه يجسده بطريقة سردية و ممارسة مهمة في كتابته ومتطلبات طموحه . وتعد كتابة العمل الروائي لديه نوعا من الايقونة .
حينما نقرأ نقاش وليامز، ننغمر ليس في متعة قراءة روايات دستويفسكي حسب ، بل ، ننغمر ايضا ، في قراءاته الواسعة للادب الكنسي ، و تراث الكنيسة الشرقية . تمنحنا هذه القراءات مفاتيح لفهم الغموض والتناقضات التي تبدو مروعة جدا و”معاصرة ” في صفحات دستويفسكي والتي دائما ما تكون موادا تراثية في ثيمة الثيولوجيا. والكتاب بذلك يضم اعادة قراءة دستويفسكي في محاولة منه لمواجهة ليس غيوم عاصفة القرن التاسع عشر، وكما دعاها راسكين المعضلة الثيولوجية للايمان ، بل هي ظاهرتنا المعاصرة ايضا في احياء الداروينية التي تعتقد بنفسها انها تجيب او تكرر تدمير مزاعم العقلانية .
وعلى هذا ، يبدأ الكتاب ، ويوحي بشك المتلقي ، كما لو ان دستويوفسكي نفسه ، يريد ان يطبع كتابه في عام 2008 – ليكون معنا ويراقب الحياة المعاصرة . ويبدأ ليس مع الادب الروسي العظيم ، الذي هو مادة رواياته ، ولكن ، مع الاندفاع الراهن للكتب المعادية للايمان الديني ، والتي تتعامل معه ، في الغالب بوصفه الانحراف الوحيد في مجال العقلانية الانسانية .وانه عبارة عن مجموعة من القناعات غير المبررة عن مسائل هاجعة و – في اضعف الايمان – خاطئة ، وجدلها لا يقف على ارض صلبة . وبالنقيض من هؤلاء الكتاب والذين يكون عملهم. كما يقال،( رغم ان المؤلف لم يقل ذلك ) متوقعا في كتابات المرحوم دستويفسكي .ويوضحة وليامز بطريقة لا لبس فيها.الطريقة الفعلية التي يعمل فيها الدين في الحياة الانسانية الفردية .وهذه مسالة اساسية في عمل دستوفسكي بوصفه روائيا. وكتاب وليامز هو عمل نقدي .بيد انه يبدا ، على هذا الاساس كما لو انه دفاع مسيحي ثيولوجي .
فاذا كان ذلك ، يسبب مشاكل منهجية ، كما يعبر عنها وليامز، فانها بالتاكيد تعد مشاكل ، الا ان دستويفسكي كان يستسيغ هذا الرأي .وخارج اعراف الكنيسة الكاثولوكية الرومانية، كانت تمثلها كتَابات فرانك مورياك ،François Mauriac او ايفلين ووف Evelelyn Waughوكلاهما يجد في دستويوفسكي بكل رعبه “من الاله الروماني الشرير ” المتمرد الاخلاقي والسلوكي .وينزع افضل الروائيين الغربيين الى محاربة الثيولوجيا بكل وضوح .وربما اعمالهم تحتوي على عناصر دينية ولكنها ليست وسائل تعبيرية كروايات دستويفسكي العظيمة من اجل تقديم جدل ميتافيزيقي عقيم .وليس من البساطة بمكان ان نقرأ الاخوة كرامازوف دون ان نطرح تساؤلات عن الاله . هل الاله موجود ؟ فان كان موجودا حقا،فلماذا يعاني الطفل البريء من العذابات ؟ وهل ثمة بديل عن الغواية ، بالاضافة الى الاغراء بالتجديف ضد الخالق الاعلى للدين الذي يعرض الغموض والسلطة . فحينما نقلب صفحات رواية ” الاخوة كرامازوف ” تلك الرواية الصرح عن الجريمة ،نتساءل عن من قتل الاخوة ،عندما يتحول الاب الى رابطة لا خلاص منها في المسائل الثيولوجية ؟ فهل ان الرواية والتي تعد اعظم عمل روائي مسيحي قد ظهر حتى الان ! اوهي اكبر اتهام وادانة للعقيدة الدينية ؟ ليس ثمة تحليل واقعي للايمان الديني يمكن ان نستقرئه؟ اليس كذلك ؟ وهل هو كتاب يمٌكن القاريء من الصراع مع هذه التساؤلات . ويحرره من القيود والاغلال ، اما بالطاعة للنظام الديني المتزمت او عن طريق المساواة بعبادة العلم الذي انتصب في القرن التاسع عشر كحالة تعويضبة ..
والمعلقون على كتاب الدكتور وليامز بوصفه قيادي كنائسي ، يلاحظون احيانا مقدرته الواضحة والمتزامنة في الامساك بعقيدتين متماهيتين كلية ، ولايحتاج هذا الجدل لاهتمامنا هنا ، مالم نجده اهتماما لا يقاوم في العبور الى التامل في وجهات نظر دستويوفسكي عن الانثى– دعه يتمتع لوحده – وسيكون الكهنة جميعهم قادرين على التخيل بوضوح ،ان كان ثمة فائدة ام لا، في التفكير المزدوج عندما يؤدون دور البابا المعذب في التوفيق بين الفكر المريض خارج مواقف الليبراليين الامريكيين والمحافظين الافارقة ، والمقدرة على الامساك بوجهات نظرالمعارضة للقضايا الدينية . وهذا تماما ما تظهره شخصيات دستويفسكي مرة بعد اخرى . ومعرفة وليامز من بداية مدينيته الى اعظم فيلسوف ناقد روسي هو ميخائيل باختين الذي يشكل كتابه ” مشاكل شاعرية دستويفسكي ” قراءة ضرورية منذ ان طبع اول مرة في سنة 1929 والذي له تاثير كبير على النظرية الادبية .
وتطور باختين بما اطلق عليه ب” الحوارية ” dialogismربما تعكس مواقفه غير المعلنة الضرورية إزاء الارثوذوكسية ، وثمة من يضطهده بشدة لانه يشك ، في قراءاته لدستويفسكي .ويراه مخربا دينيا . وبقدر ما اعرف ، فان موقف باختين الديني يبقى غامضا الى هذا التاريخ من عشرينات القرن العشرين لروسيا ، وهذا ليس زمنا سهلا يحمل بين طياته نقاءهذه القضايا . وهذه الحقيقة التاريخية القاسية ربما توضح بعض خفايا تاملات باختين في الدين والادب .ورغم ذلك ، ان باختين هو الذي علمنا – وعزز وليامز رسالته باجزاء صغيرة لا تعد قراءة دقيقة ومفيدة للنصوص – ان دستويفسكي هو روائي متعدد الاصوات ، وبهذا فان مثل هذه القراءة للروايات لا تعكس عقلا ازدواجيا ، او مشككا بالصراع الوجودي .انها ذاتها براهين على هذه المواقع التي يجب ان تكتشف ان كان المرء يتجرأ على طرح مثل هذه التساؤلات العظيمة عن الثيولوجيا الفلسفية .فاذا كانت تعاليم التجسيد الالهية حقيقة على سبيل المثال ،فان العلم لا يقدر على حلها ، وان المحللين المسيحيين لم يتبعوا تعاليم اللوجوس ” المبدأ العقلاني – المترجم ” كما فعل الافلاطونيون ، بيد ان التجسيد المسيحي الحي هو تجسد صليبي على طريق اثم الانسانية .
ودستويفسكي لا يقدم لنا مجموعة من المحاججات غبر الحاسمة عن وجود ” الاله ” لصالحه او ضده . بيد ان الصورة الروائية عن الايمان والحاجة اليه ستشبه الحالة في العالم الاجتماعي والسياسي في عصره . وهو افتراض بين اوضحه باختين – وكذلك هو احد التشبيهات لاغلب المناقشات الفلسفية الممتعة عن دستويفسكي في عصره للاجيال الحالية .
وهذا موقف جذاب يجب ان نتبعه ، ومن المؤكد انه يجنبنا السقوط في فخ ساذج ، في الاعتقاد ان الروايات الاخيرة ،هي ببساطة وجهات نظر سلافية ومسيحية . ولكن ثمة صعوبة تتخللها، وتبرز هذه الصعوبة عن طريق الصوت الغريب لدستويفسكي ذاته .ليس في الكتب حسب ، ولكن في الصحافة ايضا – فاذا كان ثمة حاجة الى كتاب وليامز الثر – فسيكون بالتاكيد ممتعا ، لعدد واسع من القراء ومحفزا لهم على اعادة قراءة روايات دستويفسكي . وهذا لا يعني هنا ، ان ثمة هنات في صحافة دستويفسكي ( اذ ثمة عدد كبير من الاشارات الناضجة في “يوميات الكاتب “) ولكن لا نواجه المشكلة التي تقدمها الصحافة لقراءات متعددة الاصوات في الروايات .لان الروايات في الاصل هي متعددة الاصوات ، ومن المستحيل الامساك بها مالم تقرا بصبر وتأن وتركيز على تفاصيل كرر وليامز عرضها . بيد ان دستويفسكي نفسه اوضح في ( الشياطين ) على سبيل المثال ، ما يعتقد من تاثير له على ليبراليي اربعينيات القرن التاسع عشر .وتراكم السخرية منهم في رأس العجوز فيرخوفينسكي او كرامازوف ( تورغنيف ) . وبدقة من النوع الذي نتوقعه من صحافي مثل دستويفسكي ؛ وهذا الصحافي في الحقيقة ، من المستحيل ان يتوارى كونه روائيا،انما العكس ؛ سيبقى الروائي يتلبسه وهو في ذروته، فضلا عن حضوره الدائم . كما لو انه يدرك الجانب الجمالي ناهيك عن الجانب الفلسفي في الرواية . وهنا، تكمن الصعوبة .إذ يخلق دستويفسكي ساردين محليين وبخاصة في روايتي ” الشياطين ” و ” والاخوة كرامازوف ” واللتين تشيران الى احداث غريبة ، كما لو انهما قادمتان الينا من مضان اسرار في المدينة . وحتى في حالة استخدام هؤلاء الساردين ، فانه لا يضللنا في حضور الاخر . اعني ؛ دستويفسكي الصحافي المسرف العنيف والهجاء المتغطرس الوطني المنمق والمتنبي والذي ينحدر من اللاسامية ، الذي كتب كثيرا في الصحافة. و يشعر المرء انه ما زال قادرا على الاستمرار في كتابة الروايات العظيمة – ولم يكن دستويفسكي كاتبا لا يستخدم الاستعارات الملتونية ( نسبة الى الشاعر ملتون – المترجم ). فانه يكتب الروايات في الجانب الايمن والصحافة في الجانب الايسر. فالصحافي الصاخب هو هناك في عمق نصوص الروايات .
وثمة روائيون انجليز عملوا ردحا من الزمن في شبابهم في الصحافة بشكل او باخر ، وفي كل الاحوال ، ان كان يتبادر في ذهنك اريان يفانس الذي عمل في ويستمنستر ريفيو، Westminster Review او غرام غرين الذي عمل محررا ثانويا في التايمز The Times،او حتى مارتن اميس ،او الان هونغورست في الملحق الادبي لتايمز TLS. فان هذه الحرفة تظهر لنا كاسلوب لصقل كتاباتهم قبل ان تكون لهم اجنحة كي يحلقوا بها كمبدعين . فحياة دستويفسكي 1821-1881غير منفتحة بطريقة مختلفة .فهويستخدم في حياته الادبية دوريات الادب الروسي . ولكنه يناى بنفسه عن الزخرفة المذلة والعمل المبتذل . وقد كتب في مجلة سنت بطرسبيرغ غازيت ، St Petersburg Gazette في شبابه بعد طبع روايته ( المساكين ) 1846،والروايات بعد كل ذلك ، قد هوجمت بمثل هذه التاملات للحالة الراهنة في العالم . كما في التقاليد الانجليزية ومن الطبيعي ، ان نجد كثيرا من هذه المقالات الصحافية او في دوريات ادبية اخر . ففي رواية ( ذكريات في بيوت الموتى ) التي تتضمن سنواته الاربع في سيبريا من 1849 فما فوق . هي صحافة من الدرجة الاولى ، وسكيجات رحلاته المدهشة و(ملاحظات الشتاء عن انطباعات الصيف )186،) تبعث على الاحتقار بامتياز وصورة دقيقة عن اوربا المعاصرة وفي جولاته في اوربا بصحبة زوجته الثانية الشابة انَا كتب رواية (الابله .) وبعد اكماله رواية ( الشياطين ) عاد دستويفسكي من جولاته الاوربية ليشغل رئاسة تحرير صحيفة المواطن . والمادة التي كتبها بنفسه لهذه الطبعة اتخذت، والتي تجاوزت 1000صفحة واستقامت كتابا تحت عنوان ( مذكرات كاتب )ولا بد ان رواياته العظيمة قد قرئت في الحقبة الاخيرة .
والاحتجاجات المتكررة ضد الفساد في اوربا ، والدفاع عن الحرب والسياسة العسكرية الاجنبية ضد المانيا وتركيا وفوق كل ذلك ، رتابة الايمان الديني الذي حمله الروس عبر التاريخ هي مواضيع سلافية مالوفة لاي انسان اطلع على ادب سبعينيات القرن التاسع عشر . وهكذا ، فان من يجادل انني اجهل معرفة الناس ، فانني سأرد عليه انني اسبر أغوارهم ، وبسببهم انفتحت روحي تستقبل المسيح في داخلي الذي بقي يظهر في بيت والديَ، الى ان فقدته ، وتحولت بعد ذلك الى ” ليبرالي اوربي ” وثمة لا نهاية لمثل هذه المرحلة في هذه الصحافة . حينما وجدنا انفسنا نذكُربشخصيات مسرحية في روايات دستويفسكي. وليس ثمة من يستطيع ان يصنف دستويفسكي صحفيا ،كما صنفوه روائيا . ووصل ذروته عندما كان عضوا في مدرسة ” موت الاله ” وليس هناك ، من يشك بايمانه بالحد الادنى لمرحلة ما بعد العلمانية ، ومهما يكون ذلك ، وبموازاة ذلك ، فان القاريءالذي تعوزه الحساسية هوالذي يخفق في قراءات روايات دستويفسكي بوصفها عملا سرديا . لانها تحمل افكارا منفرة ؛ تمنح دستويفسكي حرية يتنفس من خلالها الصعداء . وفي الحقيقة ، يناقش وليامز في احد اجمل فصوله ، والذي يعد واحدا من الاهداف المركزية لدراسة دستويفسكي ، بوصفه كاتبا ومفكرا دينيا . ودستويفسكي وليامز هو من الواضح ، بناء بلاغي عن الحرية . واكتشاف لغة تمكننا من الهروب من التقريرية . وواضحة ككتاب البابا . وعلى كل حال ليس وليامز ، ولا غيره في نهاية الامر ،قادر ان يحل الاحجية التي هي احد الاسباب التي دعت دستويفسكي في ان يبقى كاتبا مهما طال به الزمن .
هل كان دستويفسكي يعتقد ان الانسان سيتوقف عن الايمان بخلوده او بالاله . وبالتالي ، فان كل شيء سيكون مباحا ؟ او ان كان ايفان كارامازوف قد صفى اخاه غير الشقيق سميردياكوف بذريعة واهية ، لقتله والده ؟ هل دستويفسكي هوذاته ام هوالشيطان ؟ او ايفان كارامازوف بصورة الشيطان الذي يقول ، انه سيتخلى الى حد ما ، عن كل شيء ، ويتحول الى شموع نذر مشتعلة لزوجة التاجر ؟ انه من المؤكد ، ان دستويفسكي، كتب الى نتاليا فونفيزنيا ، بعد فترة قصيرة من اطلاق سراحه من السجن 1854 : ان كان ثمة احد يبرهن لي ان المسيح هو ليس حقيقة ، وان كانت قضيته تمثل الحقيقة، ففي هذه الحالة استطيع ان اختار ان اكون مع المسيح اكثر من اختياري الحقيقة ، كيف يستطيع الانسان ان يعلل الانفجار الدراماتيكي الذاتي لدى الصحافي دستويفسكي بالمقارنة مع الاخرين .. احيانا الجميع ، باستثناء قرارات مماثلة ، صنعتها شخصيات في الرواية ، هي على شفا حفرة من الانهيار؟ وافضل مثال يشرحه لنا وليامز هوشخصية ماريا تيموفيفنا ليبيادكينا الشقيقة الصغرى المقعدة والساخرة للكابتن السكير في رواية الشياطين . وهي احدى اهم الشخصيات الديكنزية ( نسبة الى الروائي شارل ديكنز – المترجم ) في الاعمال الكاملة لدستويفسكي . ” ان شق اللوزتين بطريقة عرضية هو بالتاكيد احدى اهم الحوادث التي لا تطاق في الرواية ” ومن خلال مشهد يبدا في شبه مسرحية عندما انفجرت ماريا تيموفيفنا ليبيادكينا في غرفة استقبال ارملة الجنرال المحترم بعد العودة من الكنيسة ، والقت كلمة شهيرة عن استسقاء الارض بالدموع التي جلبت الخير. حذر وليامز من ان: تلك العبارات كانت تتضمن عجالة في تعبير دستويفسكي الروحي.” واوضح وليامز ” ان بدعة ماريا هي ليست هرطقة لان الاله والطبيعة كلاهما شيء واحد” قالت ماريا وضربت مثلا عن مريم العذراء “انها امل السلالة الانسانية، والام المقدسة ، وهي بمعنى ما ، حضور نبوي “و يعلق وليامز : ولكننا يجب ان نحذر من قراءة كلماتها ان اضطراباتها الثيولوجية هي كثيرة على العموم “، واضاف ،” و اولئك الاخرون اداروا ظهورهم عن الواقع البشري، بما في ذلك الثوريون الذين تسببوا في كل الكوارث الشيطانية في الرواية ”
ان محاولاته هذه ، هي خلق احساس في هذه الرسالة للقاريء . ربما يريد وليامز ان يظهرمحاولة ليشرح من خلالها مضمون الروايات . اولا ، يبدو في الغالب كما لو انه كاهن محترف يسم المسكينة ماريا فريسة لثيولوجيتها النهائية . وثانيا ، كما لو ان وعيا بدا يقترب هو وعي غير ملائم . بيد ان وليامز قد يغير ترسه : تاتي قراءة النقد الادبي- للقطعة في وقت ان ماريا كانت في زمن فنطازي وضعت فيه طفلا غطسته في بركة ماء، مما جعل وليامز يحاجج ربما منطقيا في حدس قتل شاتوف. الذي نسجت ماريا حوله الحكاية . وان جسده في اخر الامر يكون عبارة عن نفاية ترمى في بركة . وهي ايضا صدى حكاية في الانجيل انجيل تمنح الكتاب عنوانه . – سقوط غادرين الخنزير في البحر . بيد انها صححت ثيولوجيتها كما لو انها عفريت يقود عنان خنزير الى البحر، بعد ذلك تحول وليامز الى الاتجاه الاخر.،عندما طلب شاتوف من الساحرة ستافروغين الشريرة التوبة وان تسقي الارض بدموعه . انها علامة لاعادة تصحيح حقيقة ستافروغين الهاربة من الارتباط . بما هو خارج تفكيره او ضد رغبته ….. وكانت ماريا مصيبة لتوسع التوافق مع الاله والطبيعة كل على حدة .. اللعنة ؟!
وفي موضوع مثل هذا ، يشعر المرء ان المعلق يحاول ان يقدم دستويفسكي اكثر تماسكا ، وباحساس فنان كبير اكثر مما كان في الواقع ، ويشعرالمرء كما لو انه مثقف غربي مهذب . يقدم صديقه الروسي العظيم لنا ،في المقابل ، يصرخ دستويفسكي كما لوانه على وشك حالة من الصرع. او انه بحاجة الى نقود من على مناضد القمار، او يصرخ بشتيمة ضد اللاسامية. ونتصور ان وليامز يؤدي تعليقاته كتتمة فقرة ذكية في ” Dean and Chapter” و في لحظات نادرة اطلق وليامز نغماتها في اغلب صفحات الرواية . فاننا نشعر في داخلنا ثمة شيئ خارق في الروايات ، و في العقل الذي انتجها . وثمة شحنة كهربائية تتخلل فصول وليامز في تعامل دستويفسكي مع الشيطان . وفي توضيحه للتجديف وعن عمق تجسيد الشخصية الروسية وبصورة ادق كان دستويفسكي يحاول الوقوف بوجه حتمية القرن التاسع عشر ليحرر شخصياته وقراءه من موت االانظمة . وقد اتخذ مخاطرة التفكيك .ولذلك السبب ، فان محاولة استخلاص الاحساس منه هي مهمة تبعث على الشهية .
وفي نهاية كتابه ، يقتطف وليامز قصة رائعة، يخبرنا فيها دستويفسكي في كتابه ، مذكرات كاتب ، 1873 ” المواطن رقم 4 ” بطلها فلاح شاب يغامر بجرأة . ليستلم حصته من العشاء الرباني ، ولكنه لا يتناوله ، وبدلا من ان يحقق مغامرته ، ياخذ رغيف الخبز المقدس، يضعه على عصا ، ويطلق عليه النار. وبينما هو يفعل ذلك ، يرىجسدا مصلوبا يخرج من مكان كسرة الخبز ، فيغمى عليه. يستخدم وليامز هذه القصة ليقدم لنا تحليلا رشيقا ، عن طريقة الافعال التجديفية المقارنة في الروايات( يضع فيديكا جرذا في ايقونة زجاجية ،على سبيل المثال في رواية الشيطان ) ويحذرنا من السلوك الذي يمكن ان تكون الحقيقة الدينية فيه متخيلة . مثل نسيج قصص زوسيما ، وماركيل ، واليوشا ، وميتيا . وهي مقالاته الناضجة في تخييل المقدس – وليس ببساطة في ولا يتناول ببساطة شخصية واحدة ” منجزة ” بالرغم من الاهمية المحورية لزوسيما ، ولكن، على وجه الدقة ، يتناول التفاعل والانعكاس الناضجين في حياةهذه الشخصيات . ” وكان الموضوع رائعا . ولكن ، صدمة قصة اطلاق الفلاح النارعلى لقمة العشاء الرباني ، كما يصر دستويفسكي عليها، هي استثنائية روسية . فان الفلاح الذي يحمل بندقية ، وبتحديه ، وبندمه المروع ، هو رجل يؤمن بالحقيقة النهائية للمسيح ،في القربان المقدس ، الذي ارتكب فعل اطلاق النار .
ربما ، ان واحدة من اعمق غموضات عصورنا ، هي ليست علمانيات الداروينية ، التي تولى الدكتور وليامزمهمتها في مقدمات كتبه، وبرزت في تحديات التقاليد الدينية في عهد ما بعد الحركة التنويرية في انجلترا لتهزأ من سذاجة العقل الامريكي في الاسلوب التبشيري . ان الايمان الارثوذوكسي الروسي، الذي كان فيه دستويفسكي مصيبا في ان يرى شيئا ما مختلفا ،في النوع ،عن دين الشعوب الاخرى. . فقد جايل قرنا تقريبا ، عصر العلمانية الماركسية ، والحرب الاهلية ، والكوارث ،والمجاعة ، ومحاولة القسوة لاجتثاث الروح الروسية ، عن طريق الاضطهاد وبرامج نظريات التربية المادية ،سواء كانت الثقافية الغربية تؤمن بها ام لا . ولم يكن الاتحاد السوفيتي في عجالة من امر انفجاره او معاودة الظهور برؤية كاملة . ويبدو ان كنيسة زوسيما والبابا تكهون قد تعززت بواسطة تعذيباتها – تماما ، كما هو الحال ، في روايات دستويفسكي التي تعج بالقتلة ، والسكارى ، والانتحارات ، والتجديفات ، وفي الحقيقة سارعت في ترسيخ ايمان من الصعوبة بمكان ازالته ..
—————