18 ديسمبر، 2024 6:12 م

الانقلابات الدواعي والمبررات لاسقاط الانظمة والحكومات

الانقلابات الدواعي والمبررات لاسقاط الانظمة والحكومات

خلال سنوات الحرب الباردة كانت لعبة إسقاط الأنظمة جد شائعة خاصة في الدول الضعيف في كل من أمريكا الجنوبية، إفريقيا، أوروبا الشرقية.

هذه الممارسات لم تكن حكرا على قطبي الصراع أنذاك الإتحاد السوفياتي و الولايات المتحدة الأمريكية، فقد كانت هناك أيضا دول أخرى تمارس هذه اللعبة في سعي مستمر للحفاظ على مصالحها داخل مستعمراتها السابقة. هذا الوضع جد شائع في دول إفرقيا.

في الماضي كانت الانقلابات تقليدية إلى حد كبير. كانت وكالات الاستخبارات الأجنبية تصطاد القادة العسكريين في الدولة المستهدفة و تجعل منهم أداة لتنفيذ الانقلاب، ثم تقوم بدعم الانقلابيين سياسيا في حالة نجاح الانقلاب العسكري.

إختيار العسكريين كان يتم بعد دراسة ملفاتهم. من المهم جدا معرفة ميولات الشخص، تاريخه العسكري، إنتماءه القبلي، توجهاته الدينية،…

هذه العوامل كانت المادة الخام المستعملة لاستهداف الضباط و القادة العسكريين من أجل تجنيدهم.

إذا بحثت في تاريخ الانقلابات، فسوف تجد أن معظم الانقلابيين لم يفعلو ذلك بدافع خيانة النظام الحاكم، أو بدافع المال الذي ستدفعه وكالات الاستخبارات الأجنبية. لكن بدافع شخصي و إيمانا منهم بأن قيامهم بإنقلاب هو عمل بطولي لصالح الشعب و دفاعا عن قضاياه. حتى أن القائد الانقلابي يعتبر الانقلاب عملا أخلاقيا يستحق أن يضحي بحياته من أجله.

هذه الطريقة في التجنيد جد فعالة لأنها تعتمد على الجانب السيكولوجي للرجل العسكري الذي يعتبر نفسه حاميا للوطن و مدافعا عن كرامته و أنه من واجب الكرامة و الشهامة التدخل لإنقاذ الوطن حتى ضد النظام الحاكم.

هذا التوجه يمكن لمسه في جميع خطابات الانقلابات التي يتلوها قادة الانقلاب بعد نجاحه. و ستجدها مليئة بكلمات مثل: النصر، المجد، العزة، الكرامة، تصحيح المسار، الشعب، الحق.

وكالات الاستخبارات أدركت جيدا أن القادة العسكريين لا يملكون الحس السياسي و الدبلوماسي. و أنه يسهل تجنيدهم. بالاضافة إلى أن تمويل عملية إنقلابية أرخص من قلب نظام الحكم عن طريق الإحتلال العسكري المباشر. فالعمل العسكري المباشر جد مكلف ماديا و أيضا يشكل خطرا على الجنود. بالاضافة إلى أن نتائجه ليست مضمونة. فالشعب سيعتبر الجيش الآخر قوة إحتلال و سينظر للرئيس المنقلب عليه كبطل و القائد الجديد ك خائن، مما سيعقد العملية الانتقالية.

لكن تغيير الحكم عن طريق إنقلاب داخلي في حالة نجاحه يعطي نتائج جيدة. لان الشعب يعتبر الرئيس الجديد بمثابة المخلص و المنقذ البطل، لان الشعب لا يعلم أن هذا الرئيس القادم على دبابة هو مدعوم من مخابرات أجنبية، و أنه سيظل خادمهم المطيع و سيخدم مصالحهم لانهم من ساعدوه على الوصول للحكم، و لأنه يعلم أنه إذا عارضهم فسيصبح رئيسا سابقا بجرة قلم.

اليوم تغير الوضع و تغيرت الطرق و أصبح هذا النوع من وسائل قلب الأنظمة غير ملائم. لكن الأجهزة الاستخباراتية لم تتخلى أبدا عن هذه العادة القبيحة. هي فقط قامت بتغيير الوسائل و المنهجية.

حسنا كيف يمكن قلب أي نظام حكم في العالم ؟

صعوبة العملية تتغير حسب طبيعة الدولة المستهدفة. فإن كانت دولة مؤسسات فالأمر أكثر تعقيدا من الدولة التي سيود فيها حكم الفرد أو الحزب الواحد.

التحضير لقلب نظام الحكم يتم عبر المراحل التالية:

– أولا تاريخ الدولة:

في هذه المرحلة يتم جمع كل المعلومات المتعلقة بالتاريخ القديم لقيام الدولة. لأن بعض أسباب قيام الدولة تكون هي نفسها أسباب الانهيار.

مثلا من المهم معرفة إذا كان النظام الحالي قام على أنقاض نظام آخر، و إذا كان النظام الحالي قد أضر بمصالح أتباع النظام القديم و نكل بهم.

– ثانيا التقسيم الشعبي:

في هذه المرحلة يتم جرد و إحصاء كل المعلومات التي تساعد على تقسيم فئات الشعب إلى مجموعات. هذا التقسيم يمكن بناءه على المرجعية الدينية، الأصول العرقية و الاثنية، التقسيم الجغرافي، التقسيم الإجتماعي الطبقي، الأفكار السياسية، اللغة، اللون…

هذه المرحلة مهمة جدا لأنها تعطي فهما واضحا لعموم الشعب و سيتم إستعمالها في المرحلة القادمة.

ثالثا: الاستهداف الفكري

في هذه المرحلة يتم تشكيل جماعات ضغط بناء على المعلومات التي سبق جمعها في المراحل السابقة. ثم يتم إنجاز نماذج بشرية، بحيث يجب الحصول على نموذج لكل فئة من فئات المجتمع. و بعد ذلك تنطلق عملية الاستهداف بإستعمال الشبكات الاجتماعية، القنوات الاعلامية الخاصة، المراكز الثقافية، جمعيات المجتمع المدني، المؤثرين.

لنبدأ بشبكات التواصل الاجتماعي:

هذه أكثر الوسائل نجاعة لتغيير أفكار و سلوك الأشخاص. فالكم الهائل من المعلومات التي يقدمها مستخدم هذه الشبكات لا يصدق و هو مجاني.

هذه المعلومات تساعد على إستهداف دقيق لكل فرد من المجتمع بهدف تغيير أفكاره و جعله يتبنى فكرا معينا.

هذا الاستهداف يتم عن طريق عرض محتوى مخصص و ملائم للشخص بناء على توجاته الدينية، الفكرية، العرقية، الجغرافية….

مثلا يمكن إقناع شخص أبيض يعيش في شمال الدولة المستهدفة بأن الأشخاص ذوي البشرة السمراء الذين يعيشون في الجزء الجنوبي هم المستفيدون الأكبر من النظام الحالي و ذلك عن عرض تقارير و دراسات إقتصادية تظهر تقدم الجزء الجنوبي. بالاضافة لخطابات متطرفة معادية للجنوب تظهر بالدلائل التاريخية أن سكان الشمال هم السكان الأصليين و أن أجدادهم حكموا هذه البلاد في الماضي و أن النظام الحالي يهمشهم لصالح الجنوب.

قد يبدو لك الأمر سخيفا، لكن هكذا تتم الأمور و هذه الطريقة أثبتت نجاعتها في إحياء التقسيمات الطائفية و العرقية و الدينية و الجغرافية من أجل تدمير الدولة من الداخل و تقسيمها.

الأداة الثانية هي الجرائد و القنوات الإعلامية الخاصة. العملية تتطلب وقتا أطول من العملية السابقة.

أول خطوة هي إنشاء قناة أو جريدة بطابع وطني لكي تعطي إنطباعا جيدا لدى المتلقي. لذلك فلغتها الرسمية يجب أن تكون هي لغة الدولة.

يجب أيضا توظيف وجوه إعلامية مؤلوفة للمشاهد. و هنا نستطيع فهم ظاهرة يجهلها البعض، و هي إقحام أشخاص لا علاقة لهم بالإعلام في تسيير و تقديم البرامج، فقط لأنهم محبوبين و مقبولين من الطرف الشعب، و خطابهم سوف يلقى آذان صاغية. يذلك يتم توظيف الممثلين و المغنيين و الكوميدين لتقديم البرامج حتى ولو لم يكن لهم تكوين أكاديمي في مراكز الصحافة و الإعلام.

يتم أيضا تمويل إنتاج الأفلام السينمائية الوطنية لأن السينما أثبتت نجاعتها في تغيير أفكار و قناعات و مبادئ الناس.*

الأداة الثالثة: جمعيات المجتمع المدني.

أحيانا يتم اللجوء لهذه الجمعيات بحكم أنها تعمل على أرض الواقع، و هي أقرب للمواطن حتى من المؤسسات الرسمية للدولة.

هذه الجمعيات ( بعضها لكي لا أعمم ) تعمل لانزال أجندات خارجية مقابل التمويل النقدي. و يتم إستعمالها لنشر أفكار و سلوك معين داخل المجتمع. و هنا يمكن أخذ جمعيات القروض الصغرى كمثال في بعض دول أمريكا الجنوبية.

الأداة الرابعة: المؤثرين و المشاهير

هذه الفئة أيضا يمكن اللجوء إليها أحيانا، فهي عامل مؤثر و الحلقة الأضعف في المجتمع، لأنه يسهل شراءها. فهنا يتم الدفع بسخاء للمؤثرين و المشاهير من أجل الإدلاء بتصريحات أو دعم قضايا معينة أو إنتقاد فئة أو شخص معين. و بما أنهم فئة ذات صوت مسموع داخل المجتمعات المفتقدة لمناعة الوعي، فهذا يجعل الامر ناجحا لحد كبير.

كل هذه الخطوات و الأدوات لن تعطي نتيجة إلا إذا تم إستعمالها معا. فكل أداة هي مكملة الاخرى.

هذه الأدوات لا يتم إستعمالها بشكل مباشر من طرف وكالات الاستخبارات الأجنبية. فهذه الوكالات لا تربطها أي علاقة مباشرة مع الأدوات و هذا جزء مهم من العمل الاستخباراتي. لذلك في الغالب يتم اللجوء لشركات خاصة تعمل في جميع القطاعات المذكورة سابقا. هذه الشركات الضخمة بدورها تعتمد على شركات أخرى دولية و محلية لإنجاز المهمة بنجاح.

لذلك فمن الصعب جدا الوصول للشبكة بكاملها. خاصة أن هذا التغيير يتم بشكل سلسل و تدريجي و متفرق. بحيث أن الشعب المستهدف لا يعرف أنه مستهدف. لأنه لا يربط بين الأحداث اليومية. و في يوم من الأيام ينظر الشخص لنفسه أمام المرآة و يقول: “لقد تغيرت، لم أعد أفكر بنفس الطريقة التي كنت أفكر بها قبل عشر سنوات، لقد تغيرت قناعاتي، أفكاري و بالتالي سلوكي…”

التغيير الناعم للانظمة قد يبدو مكلفا، لكنه في الحقيقة و مقارنة بنتائجه، فهو جد مربح. لانك لا تغير فقط رأس نظام الحكم، لكنك تغير كليا الشعب، تغير قناعات، أفكار، مبادئ أمة بأكملها. و هذا سيمنحك حكما مطلقا لهذا البلدة لمئة سنة القادمة أو أكثر دون إطلاق رصاصة واحدة.

الانقلاب الناعم ليس مؤامرة من مؤامرات الخيال الماسونية التي يقودها أشرار يلبسون جلبابا أحمر و يضعون قناعا أبيض، كما يصورها المؤمنون بنظرية المؤامرة الكونية.

الانقلاب الناعم أسلوب و تكتيك تستخدمه الشركات العملاقة و الأجهزة الاستخباراتية إما لتقسيم دولة معينة، أو لاخضاعها بالكامل.

النتيجة هي الحصول على دولة ديمقراطية، تحكمها صناديق الاقتراع، لكن شعبها فاقد للإرادة، و كل قراراته هي موجهة و مدروسة من قبل. يصوت ب “نعم” أو ب “لا” على حسب ما يخدم مصالح الشركات العملاقة و الدول النافذة.

الإعلام و المال هما القوة الضاربة، يمكن أن تجعل من شخص تافه رئيسا عظيما تتبعه الملايين. و يمكن أن تجعل من معارضيه أضحوكة للجميع. الإعلام و المال يمكنهما نقل الشخص من الشقاء إلى النعيم، أو العكس.

إذا إستغربت لهذا الكلام ألق نظرة على مشاهير قنوات شبكة يوتيب في الدول الغير نامية، و سوف ترى من يتصدرون المشهد.

طريقة أخرى تستعمل للتوجيه و هي “الإجهاض الفكري”. إذا سمعت شخصا ممثلك أو مغنيك المفضل يقول “أصحاب هذه الفكرة هم أغبياء” و يتبع هذا التصريح بالضحك. فأنت غالبا ما سوف تتأثر به. سوف تتبنى موقفه من تلك الأفكار و حامليها فقط لأنه قدوة بالنسبة لك.

و هذا أيضا ما تعمل عليه بعض الأجهزة الاستخباراتية الخارجية و أحيانا الداخلية لإجهاض أي أفكار لا تخدم مصالحهم.

الخلاصة:

– يجب الحذر و الإنتباه من محتوى الشبكات و المواقع الاجتماعية. تذكر أنه سواء على شبكة فايسبوك أو تطبيق إنستاغرام و يوتيب و أيضا محرك بحث جوجل، سيتم عرض محتوى وخصص و موجه لك بالضبط و هو محتوى زائف، سيجعلك تشعر أن العالم كله يفكر بنفس الطريقة.

– تذكر أنه إذا لاحظت أن كل محتوى الشبكات و التطبيقات سالفة الذكر، يخبرك بمعلومة أو فكرة معينة، فهذا لا يعني أنها حقيقية و أن الأغلبية تتبناها. فالامر شبيه بغرف التحقيق التي توجد في مراكز الشرطة و التي يتم عزل المشتبه فيه عن العالم و إخباره أن صديقه قد إعترف عليه. و بما أنه لا يملك طريقة للتواصل مع صديقه للتأكد، فهو يصدق خدعة المحقق و يبدأ بالاعتراف تدريجيا.

– الشعب الواعي هو صمام الأمان و خط الدفاع الأول في وجه التدخلات الخارجية التي تهدف لتهديد إستقرار الدولة و سلامة أراضيها من خطر التقسيم.

– الانقلاب الناعم لا يستهدف فقط الدول الغير النامية. فيمكن رؤية نتائجه في الإنتخابات الأمريكية السابقة و في إستفتاء خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي. و أيضا في تعالي الأصوات اليمينية المتطرفة و أخيرا في شيطنة الصين و إظهار أنها خطر على الديمقراطية و الحرية العالمية التي ترعاها الولايات المتحدة الأمريكية.

– مغنيهم او ممثلك المفضل هو مفضل فقط في مجال تخصصه و ليس بالضرورة قدوة في جميع المجالات.

– هذا الموضوع غير كافي أبدا لفهم حجم الورطة التي تنتظر الشعوب، لكن هو ربما نقطة بداية من أجل بدأ مسيرة بناء وعي مجتمي متكامل يحافظ على الأوطان من الأطماع الخارجية.

منطقة المرفقات