اذا كانت الازمة السياسية في العراق ظلت طيلة ثمانية شهور محشورة في عنق الزجاجة، في ظل تباين المواقف والتوجهات بين الفرقاء، لاسيما الطرفين الرئيسيين للمكون الشيعي، المتمثلين بالتيار الصدري والاطار التنسيقي، فأن اعلان زعيم التيار السيد مقتدى الصدري انسحابه من العملية السياسية، خلط الاوراق واربك المشهد العام الى حد كبير، وفتح الباب واسعا للمزيد من الاحتمالات والقراءات والفرضيات السيئة والمتشائمة.
انسحب الصدر بعد ان وجد نفسه عاجزا عن تطبيق رؤيته بتشكيل حكومة اغلبية وطنية مع شركائه من الاكراد والسنة، بعيدا عن قوى الاطار التنسيقي، ورافضا بشكل قاطع التوافق والتفاهم مع الاخيرة. ولاشك ان انسحابه يعني الشيء الكثير، ارتباطا بالثقل السياسي والشعبي الذي يمتلكه الصدر وتياره، فضلا عن وجوده في مختلف مفاصل ومؤسسات الدولة، وبما يمكنه من توجيه الامور بما يريد، سواء كان مشاركا في الحكومة وحاضرا في البرلمان او العكس.
وبينما كانت الجهود والمساعي منصبّة على اقناع الصدر بالقبول بمبدأ التفاهم والتفاهم مع شركائه في البيت الشيعي، فأنها الان راحت تنصبّ وتتركز على كيفية ابقائه في دائرة الحراك والدور الايجابي لرسم وصياغة معالم وملامح المرحلة المقبلة، للحؤول دون الذهاب الى الخيارات السلبية الخطيرة.
وفيما يتعلق بخطوة او قرار الصدر، هناك جملة حقائق لايمكن بأي حال من الاحوال التغاضي عنها او القفز عليها، من اجل الاحاطة بكل ابعاد وتفاصيل المشهد، وتداعياته وتفاعلاته ومساراته القادمة.
من بين ابرز تلك الحقائق، هي ان تقديم اعضاء الكتلة الصدرية في مجلس النواب العراقي، البالغ عددهم ثلاثة وسبعين نائبا استقالاتهم على ضوء توجيه زعيم التيار السيد مقتدى الصدر، يعدّ تحولا مهما في مسارات الحراك السياسي القائم في الساحة العراقية طيلة الشهور الثمانية المنصرمة، التي اعقبت الانتخابات البرلمانية المبكرة في العاشر من شهر تشرين الاول-اكتوبر الماضي، هذا التحول المهم يرتبط في جانب منه بالثقل العددي الاكبر الذي يمثله التيار الصدري في مجلس النواب، مقارنة بالكتل والكيانات الاخرى، وفي جانب اخر منه-وكما اشرنا انفا-يرتبط بالثقل السياسي والجماهيري للتيار وزعيمه في مجمل العملية السياسية.
وعلى ضوء ذلك الانسحاب، تبرز حقيقة تبدل خارطة البرلمان وتغير حجوم بعض الكتل، وتحديدا الشيعية منها، مما يعني انبثاق تحالفات واصطفافات جديدة، من شأنه ان يمهد الطريق لبلورة الكتلة البرلمانية الاكبر، التي يقع على عاتقها تسمية رئيس الوزراء، وبالتالي كسر الجمود وانهاء حالة الانسداد السياسي. وواضح جدا ان زمام المبادرة بات الان بيد قوى الاطار التنسيقي، دون ان يعني ذلك ذهابها منفردة لصياغة معالم المشهد القادم، لانها حتى لو ارادت ذلك، فسوف تصل الى طريق مسدود، وتعيد انتاج وتدوير الازمة، بدلا من حلها وحلحلتها. ولاشك ان التواصل وتوسيع دائرة الحوار الى اقصى قدر ممكن مع التيار الصدري-حتى بعد انسحابه-ومع المستقلين، يمكن ان يساهم في تسريع حسم الامور داخل البيت الشيعي، من خلال الاتفاق على رئاسة الوزراء، للانتقال الى المساحات والفضاءات الوطنية الاوسع والاشمل.
وخلال الايام القلائل الماضية، انطلقت اشارات ايجابية من قبل بعض قيادات الاطار التنسيقي تجاه التيار الصدري تحديدا، والشركاء الاخرين على وجه العموم.
ففي تغريدة له، قال رئيس الوزراء الاسبق وزعيم اتئلاف دولة القانون نوري المالكي، “ان علاقتنا مع القوى والاحزاب والتيارات الاسلامية بما فيهم الاخوة في التيار الصدري، لها هدف كبير وتتعلق بمسؤولية خطيرة، تفرض علينا دائما الحرص عليها والبحث عن نقاط الالتقاء والتعاون والتكامل وهي كثيرة، وليس التقاطع والتنافر او الخصومة والاقصاء..”.
في ذات الوقت اكد رئيس تحالف الفتح هادي العامري في كلمة له، “اقف وقفة اجلال واكبار لمواقف سماحة السيد مقتدى الصدر من اجل الشعب ومن اجل عبور هذه المرحلة”، و “ان الذي يراهن على الاقتتال الشيعي متوهم لوجود المرجعية والقيادات السياسية الواعية”.
وبمعنى مقارب، تحدث رئيس تيار الحكمة السيد عمار الحكيم، حينما اعرب عن اسفه الشديد “لإنسحاب الأخوة في الكتلة الصدرية وتقديمهم الإستقالات، فهم شركاء أساسيون في بناء العراق الجديد، وهم ركيزة أساسية في العملية السياسية، ولايمكن لأحد أن يملأ فراغ أحد بحكم التنوع العراقي وكثرة الرؤى والمشارب السياسية”، مؤكدا بأن “الأمور ذاهبة إلى خير ولن تمضي لأي صِدام بحكمة وحصافة الجميع من كل المكونات العراقية”.
وكذلك تحدث بنفس السياق رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض وساسة اخرين في الاطار التنسيقي، فضلا عن صدور توجيهات مشددة من قبل قيادات الاطار لوسائل الاعلام التابعة او القريبة من مكوناته بضرورة تجنب الخطاب الانفعالي والتحريضي المؤزم للامور، ناهيك عن الانسياق وراء التحليلات المتشائمة والسلبية، والسعي الجاد لتبني وترويج مواقف التهدئة والتطمين والتقريب بين الشركاء.
ورغم ان زعيم التيار الصدري، اعاد التأكيد على موقفه الثابت بالانسحاب من العملية السياسية، خلال لقائه اعضاء الكتلة الصدرية المستقيلين من البرلمان في مكتبه الخاص في حي الحنانة بمحافظة النجف الاشرف، ومضيفا اليه، التعهد بعدم المشاركة في اي انتخابات برلمانية مبكرة يشارك فيها الفاسدون، رغم ذلك، فأن مجمل خطابه بهذا الشأن بدا هادئا ومتوازنا الى حد كبير، وبعيد عن الانفعال والتصعيد والتحريض، وهو ما يتقاطع تماما مع القراءات التي تذهب الى انه-اي الصدر-سيلجأ الى تحريك الشارع مستفيدا من ثقله الشعبي، والولاء الكبير والطاعة المطلقة له من قبل الجمهور الصدري.
بقاء التيار الصدري، بقياداته وقواعده قريبا –او جزءا-من مشهد الاحداث وصناعة القرارات والخطوات الاستراتيجية، من شأنه ان يقطع الطريق على اسوأ الخيارات والاحتمالات، التي ربما تسعى بعض الاطراف الداخلية والخارجية لايصال العراق اليها، خصوصا ضمن دائرة المكون الشيعي، فضلا عن ذلك فأن وجود المرجعية الدينية وامكانية تدخلها عند النقاط الحرجة والمنعطفات الخطيرة، وادراك الزعامات السياسية الشيعية لمخاطر وتبعات الصدام بين قوى المكون الاكبر، يمثل عوامل اساسية اخرى تحول دون الصدام، وتساعد في انهاء الانسداد.
بيد ان قرار الانسحاب الصدري، لم-ولن-تقتصر اثاره وانعكاساته على المكون الشيعي الاكبر فقط، بل تمتد الى المكونين السني والكردي، اذ ان التحول الاخر المهم جراء ذلك القرار هو اختلال موقعية ومحورية التحالف الثلاثي(انقاذ وطن) الذي كان مؤلفا من التيار الصدري(73 نائبا)، وتحالف السيادة بشقيه الحلبوسي والخنجر المكون من حوالي (60 مقعدا)، والحزب الديمقراطي الكردستاني الحائز على (31 مقعدا).
اذ انه بينما كان الطرفان الكردي والسني، يسعيان بقوة الى تأمين اغلبية الثلثين لتمرير مرشحهم الكردي لرئاسة الجمهورية، ومن ثم تسمية مرشح الصدر لرئاسة الوزراء، واذا بكل الحسابات تختل والاوراق تختلط بأنسحاب التيار، واعلان السيد الصدر بأن حلفائه في تحالف انقاذ وطن في حلّ منه، ولهم اتخاذ ما يرونه مناسبا من قرارات، ولعل الارتباك الاكبر سيكون في دائرة الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي كان يامل من خلال التحالف الثلاثي وما يمكن ان يضمه من المستقلين، بتمرير مرشحه لرئاسة الجمهورية، وزير الداخلية الحالي في الحكومة المحلية لاقليم كردستان ريبر احمد البارزاني، وبأنسحاب الصدريين، ربما تكون امال الديمقراطي بالاستحواذ على رئاسة الجمهورية من قبضة غريمه الاتحاد الوطني الكردستاني قد تبددت بصورة كاملة او شبه كاملة، لاسيما في ظل تحالف واصطفاف الاخير منذ وقت مبكر مع الاطار التنسيقي، حتى بات جزء رئيسي فيه.
وربما لاتكون وطأة الانسحاب الصدري على المكون السني، متمثلا بتحالف السيادة المتشكل من تحالف رئيس البرلمان محمد الحلبوسي مع غريمه السابق خميس الخنجر، بنفس القدر على المكون الكردي، متمثلا بالحزب الديمقراطي الكردستاني، لان الاول يرى ان حصته في اي تشكيلة حكومية قادمة ستكون مضمونة، فضلا عن انه حصل منذ البداية على رئاسة البرلمان، علما ان هذا الموقع يبدو مهددا وعرضة لرياح التغيير، فيما اذا اعيد ترتيب الاوراق من جديد، لاسيما مع اتساع نطاق الضغوطات السياسية والعشائرية من داخل فضاء المكون السني ضد الحلبوسي، والدعوات المتواصلة الى وضع حد لاستئثاره ونزعاته الديكتاتورية الاقصائية بالاستفادة من نفوذه الرسمي.
وبتعبير اكثر وضوحا، فأن التحالف الثلاثي، الذي لم يعد ثلاثيا بعد انسحاب الصدر، سيكون امام خيارين احلاهما مرّ، اما حله وطوي صفحته، او القبول بالامر الواقع وتقديم التنازلات وخفض سقف الشروط والمطاليب، سواء لشركائه من نفس المكون او للقوى الاخرى صاحبة النفوذ والتأثير الاكبر.
وتؤكد بعض الاوساط المطلعة ، ان ردود الفعل الكردية والسنية المعلنة، وتحديدا من الحزب الديمقراطي الكردستاني وتحالف السيادة، حيال قرار الانسحاب الصدري، لاتعكس حقيقة ما يقال خلف الكواليس، الذي يعكس مدى الاستياء والقلق والاضطراب والحيرة في كيفية اعادة ترتيب الاوراق والحسابات بما يقلل الى اقصى قدر ممكن من الخسائر والاستحقاقات.
وفي نهاية المطاف، في حال قررت مختلف القوى المحافظة على القدر المعقول من مكاسبها وحضورها، فما عليها الا التفاهم والتوافق في مساحاتها وفضاءاتها المكوناتية الخاصة اولا، ومن ثم على صعيد المساحات والفضاءات الوطنية. وهذا هو خيار الاطار التنسيقي منذ البداية، كبديل ومخرج مناسب للتخلص من خيار الانسداد والانغلاق والمراوحة في نفس المكان.