22 نوفمبر، 2024 9:53 ص
Search
Close this search box.

الانسان وثورة الأربعين !!!

الانسان وثورة الأربعين !!!

عندما تلامس الأربعين، وتغزو المفرقين ألوان الثلج، ترتجف الروح بين عد السنين وعدُّ موجات الجبين، وتفارق العيون المرايا، علَّ نسيانها يقصي القلق، فاليوم الذي لا تعرف الروح ما تستطيع أصبحت تعرف مالا تستطيع، فما مضى عصيٌّ على العودة والشراء، والحسرات في الأربعين اول ارث النضج وغيث الغيبا ، وكأنه حان الوقت ان تبتسم رغما” عنك، وان ترضى رغما” عنك وان لا تدع جرحك يتكلم مهما كبر، وان تضحك للأخرين ولو في روحك ألف دمعه، لأنك وبكل بساطه قد كبرت، فعندما تبدأ ملامح الرجل تشبه اباه فقد كبر.

تقول غابرييل شانيل ان الشيخوخة لا تحمي من الحب ولكن الحب يحمي من الشيخوخة، وانكيدو لم يعوضه حب مملكة اوروك بكاملها فخسر حياته من اجل ان لا يشيخ، و الفراعنة ,دفع مئات الألوف من العبيد ثمن جنونهم في ان حياة واحده لا تكفي فاستحضروا كل ما يجعل الخلود شبابا” من تمائم ورموز في عالم لا يعرفون عنه شيئا”.
لم يتوقف بحث الانسان منذ الازل عن طرق الحفاظ على الشباب وتجنب التمرد على الحياة، يذكر التاريخ الكثير من الاساطير التي لازال بعضها الى اليوم محل اهتمام، فقد طاف الرحالة الاسباني “Juan Ponce de Leon”
الأرض من افريقيا الى جزر الكاريبي بحثا” عن ينبوع الشباب “Fountain of Youth”ومسح الأرض شبرا” شبرا” حتى أمريكا الشمالية، مات في تلك الرحلة الكثير من العبيد والمغامرين، وفي اوربا في نهاية القرون الوسطى كانت هناك اسطورة اكسير الحياة، فبعد تطور الكيمياء انتشرت اشاعات إمكانية تركيب مركب كيميائي يبقي الانسان شابا” الى الابد.
يقول فيكتور هوغو ان سر عبقرية الانسان هو عندما يحمل روح طفولته إلى الشيخوخة، أي ان لا يعيش ابدا” بلا حماس ، فعندما ينعقد العمر بأهداف وإرادة فولاذيه, لن تكون ذؤاباته الاّ وقارا” تروي قصة شراسته في عمره القصير, لان اكتمال الجمال في الأشياء عندما تكون فيها روعة الروح اسمى من روعة الألوان, والانسان كما يقول هيمنجواي في ( الشيخ والبحر ) قد تكسره الظروف والمصائب ولكنه لا يُهزم, ولا اشد من هزيمة الروح في انسان عندما يشيخ بمليء ارادته, فيطهو روحه بالسقم بخوائه شخصيته وخلوها من الهدف والقيم العليا في البقاء.

تقترن الشيخوخة في الذاكرة العربية بمفهوم غاية في البؤس والحط من الذات سواء في القبيلة البدوية او المدينة، فعندما يصل الانسان سن التقاعد يواجهه المجتمع بأشد المعايير ظلما في انه اصبح عديم الفائدة وزائد عن الحاجه، او يتم ترسيخ فكرة الموت في دمه ولو كان بقوة سبارتاكوس، اما في القبيلة البدوية فكان الشيخ يهان ويُذل ويتم تجويعه وتركه في العراء يواجه الشمس والبرد بجلده المتهدل وعظامه الرخوة التي لا تطيق المكابدة و الاحمال، وانا رأيت بأم عيني كيف يهين البدو امهاتهم, أتذكر في احد المرات اني واحد اخوتي كنا ضيوفا” عند احد البدو الذين يسكنون الخيام فكان طبيعيا” ان يوجه بعبارات قاسيه ” كلامه الى الجزء الاخر من الخيمة الذي تسكنه الاناث, من اجل احضار الشاي او الطعام, فكانت عباراته سمجه وتعجبنا من قسوته ولكن هذا التعجب ضاع عندما عرفنا ان المرأة التي كان يوجه الكلام لها كانت امه الوحيدة في الخيمه, وهي من كان يأمرها بصنع الشاي والضيافة, اسرعنا للخروج من الخيمة لقضاعة منظر المرآه العجوز التي تنوء بظهرها المستجير من غدر الأيام بها.
في الجامعات العربية عندما يصل الأستاذ عمر 65 عاما” يتم احالته الى التقاعد ليتم تكريمه بعد ذلك بإقصائه من هيبة التجربة وجمال الحكمة، لان الانسان عندنا لازال يسكن منظومة البداوة المتعففه من الرحمه و التي لا ترى لخبرة الشيوخ من قيمه مادام لا يقوى على حمل السيف وركوب الناقة للغزو ,اوليس المفروض ان يتم تنسيبهم الى مؤسسات بحثيه او جعلهم مشرفين لبحوث تثري المجتمع او على الأقل مشاركين بدوام جزئي في جامعاتهم لتعزيز المعرفة وتدويرها في وعي الأجيال.

يقول الفيلسوف جان بول سارت ان (ان الشيخوخة قلما تنتظر الموت بل هي تحيا في الحاضر، لان الحاضر في الحقيقة هو سلسلة انتظارات), لأننا لانعرف ان الموت لا يأتي فقط عندما نشيخ, ولهذا ان من يخاف الشيخوخة لا يبرر خوفه منها الى احساسه بعدم القدرة على العطاء, فمن يجد نفسه نهرا” لن يعرف للشيخوخة من طريق.

الاقتران اللاشعوري بين الموت والشيخوخة في المجتمعات هو مسح للمسافة المنتجة للحياة بين اكتمال المعنى الوجودي في الوعي وبين خسارته الى الابد لعجز في المعيار الإنساني لتفضيل الأولويات , اذْ يقول ماكس شيلر ان ضغط الماضي من خلال التراكم الكمي للمعرفة في الاسقاط الحضاري يؤدي الى تضاؤل إمكانياتنا في إدارة المستقبل, وهذا الإحساس يتفرعن في أعماق الفكر الجمعي ليناقص فرص الافراد في الحرية مع تقدم العمر وربما يؤدي الى فقدانها بالكامل في المجتمعات المتخلفة.

يقول غوردون إنه إذا كان في إمكاننا أن نتعايش وفكرة أن هذه اللحظة هي آخر لحظاتنا فإننا سنجد أن العديد من المشكلات والصراعات تتلاشى وتجد لها حلاًّ، بحيث تكون الحياة أبسط وأكثر إرضاءً لنا, أي ان مد الإحساس الزمني خارج اطار التلقين اللاشعوري قد يفيق الانسان من غفوة التلاشي ويعزز تدفق الحياة الى اخر لحظه , فجرّاح القلب مايكل ديبيك كان يجري العمليات الجراحية المعقدة في القلب وهو في التسعينات من العمر , اما بيكاسو فكان اعجوبة زمنه فعمره الثمانيني لم يفقده سحر الابتكار وهو يصنع معجزاته الفنية في النحت والرسم, اما فرويد ملك اللاشعور فقد كتب اعظم إنجازاته العلمية في كتابه موسى والتوحيد وهو في الخامسة والثمانون.
إن ذروة التفوق والسمو ان لا تصنع في حياتك مساحة رماديه يلونها الاخرون بريشاتهم الذابلة، وان لا تجعل من هرولة السنين ايقاعا” يقرب لك التلاشي، فأن أعظم إنجازات الانسان ان يترك من كينونته نسقا” معرفيا” في قداسة الخلود.

أحدث المقالات