لم يعد تصوّر المستقبل بالأمر الصعب مثلما كان قبل ثلاثين عاماً أو أكثر , فسيطرة التكنولوجيا الرقمية قد حددت وضع العالَم وشكله والتحكّم به بشكل واضح , وبالإمكان تصور المئة عامٍ القادمة وفق ترتيب التطور المتصل بالاكتشافات الرقمية و زيادة اتصال الإنسان و رفده بثقافة عالمية واحدة ستجعل منه كائناً متشابها بالفكر على نطاق واسع . المؤسف في ذلك , إنّ القيم الاجتماعية الخاصة سيأكلها ذلك التطور ولن تعود عامل حماية وبقاء للمجتمعات , ثم تختفي نهائياً ويكون في العالم مجتمعاً واحداً مرجعيته الرقمية المجتمعية . الأديان بدورها الراعي للقيم التقليدية, ستحاول الدفاع عن وجودها بشكل هادئ , لكنها في النهاية ستتحول إلى أرشيف يعبّر عن مرحلة من مراحل الانتقال الفكري الإنساني .
واحدة من (أفكار) المجتمع العالمي الموحّد هي عدم الاعتماد على التكاثر البشري الطبيعي , لأنه وليد حضارة الذكاء الاصطناعي التي ستعفي الأم من مهمتها الطبيعية , و الأب من مهمّته الحالية , سيتحول هذان الفردان من مصنع انتاج بشري طبيعي إلى متبرع بمكونات الإنتاج لماكنة تلد إنساناً ليس بالضرورة أن ينتمي الى أبويه الحقيقيين , وهو حُر أكثر من أيّ إنسان قبله دعمَته قوانين الحرية على مَر التاريخ , حُر مملوك للقيم الرقمية , لا ينتمي للعائلة التقليدية , ولا يمت بصلة بالقيم الطبيعية الاولى .
تصوّر المستقبل لم يعد مرتبط بالتكنولوجيا الرقمية ومرحلة الذكاء الاصطناعي فحسب , بل بالقيم القادمة التي ستغيّر الشكل البشري الذي جاء في بدايةٍ ما من التاريخ , الشكل البيولوجي للإنسان من الممكن أن يتغير , وقد يقود في النهاية الى مجرد حلقة من حلقات التحوّل الشكلي للإنسان شأنه شأن أي كائن قد غيّرت العوامل الطبيعية من هيئته .
الأنسان , هو الكائن الوحيد الذي تدخل في شؤون تركيبته , بعد التقدّم الهائل في تعامله مع الحياة من ابتكارات تقنية امتدت لقرون , سهّلت من تعامله مع موجودات الارض من معادن و موارد طبيعية أخرى كانت قوتها حائلاً بينه وبين تطويعها لأجله , لكنه مع ذلك التقدم , تدخّل بشكل سافر في القيم التي كانت عامل حماية ودفاع عن وجوده عبر سلوك طبيعي محصور في مجتمعات مختلفة , غير أنّ ذلك بات من ضمن الموجودات المُهدَدة بالانقراض , والتي بدورتها تلك , ستؤدي به هو الآخر إلى الانقراض أيضا..