22 ديسمبر، 2024 2:18 م

الانسانُ بينَ صِراع الكمالِ والتكامُل!

الانسانُ بينَ صِراع الكمالِ والتكامُل!

تميل السليقة البشرية إلى تَوهّم الكمال في الآخرين بفعلِ الشعور باللاقدرة والنقصُ في الإدراكِ لمعظم ظواهر الوجود، وهي دعوة مضمرة للتماسك في لجة المجهول، وهو ليس جهلاً بالاستحالة، بقدر ما هو تجاهل من أجل إعفاء المرء نفسه من الجهد المضني في السعي اللامجدي للكمال ومايترتب على ذلك من تحجيم لِجُلِّ رغباته الجامحة التي تعرقل رحلته نحو الكمال النسبي، فيلقي بتلك المسؤولية على عاتق غيره وهذا يتضمن مزيج من الخبث والدهاء ونزوع خفي إلى التملّص ، لكنه يحيط كل ذلك بهالة موهومة من التسامي، ولكونِ النفس البشرية متأرجحةً بين التقوى والفجور ومايتولّد من صراع النقيضين فإن إضفاء الكمال على المرء ضربٌ من اللامعقول، فضلا على أن نتائج الصراع تولّد المزيد من النقص كمخلفات أية حرب ، ولكن هالة المشهد البعيد قد توحي بذلك الكمال ولكن تبدأ الصدمة حين نطّلع على التفاصيل الدقيقة بعيدا عن الظنون والتخيّل، ومن ثم نعيد الحسابات وفق المنطق والميزان .

ولا أنكر أن في المبالغة والتوّهم يكمنُ جمالٌ خفي يقوّضُ رتابة الحياة وتكرار الظواهر وإن كان ذلك على حساب العقل والحضارة . ولا أعرف لماذا حضرني بيت شعري لفيلسوف الشعر ابو الطيب المتنبي، حيث قاله في مدح احد المُتخمين بالجاه والسلطة؛

كبُر العيان عليّ حتى إنه

صار اليقين من العيان توهما.

إن تجدد رغبات الناس هو جزء من البحث اللامجدي عن السعادة والحقيقة معا، فالإنسان عموماً، يصنعُ الاوهام ويُصدّقها وهذه طامة كبرى، في حين أنّ كل تصورات الإنسان حول الكمال والتكامل هي محض دوائر مغلقة، لذا تبقى دون مستوى الطموح لما تمثله من أبعاد واسعة تتضائل دونها هِمَمُ الساعين.

إن الجهد والسعي الذين ينبعان من إصرار البعض، قد يُميّزانه ويُسددانه، لكِنهُما ليسا عنواناً للتكامل وإنما النسبيُّ منه إن صح التعبير، فالتكامل طموح، وليس واقعٌ أو حلمٌ مستحيل يغذّي رجاء مضمر.

إنّ الإنسان، هذا المخلوق الضعيف والهلوع الذي خُلِقَ من ماءٍ دافق، هل عَلِمَ إنه لاشيء؟ لذلك  فالإستغراب من أن نرى الذي يدّعي الكمال والتكامل،  فسيكولوجية الإنسان الفارغة الراغبة بالسطو أحياناً و التميّز أو الغرور أحياناً أُخرى، يجعل منه أن يعيش أوهام الكمال ولكنه في الحقيقة سراب، ربما الطيور أكثر منه كمالاً وهي تَقطَعُ بأجنحتها المسافات، وهي أكثر وداعةً ولا تتدعي الكمال.

إنَّ مَنْ ظنَّ أنه تعلّم فقد بدا جهله،

ولكن، كل إنسان يبحثُ عن الكمال من حيثُ يدري أو لا يدري، وللكمال طريق وطوبى لمن أدركه؛

فتختارُ طُرقاً متعددة كلٌّ حسب فهمه،

فالإنسانُ يطلبُ العلمَ ويجدُ في ذلك أنه يبحث عن الكمال، وآخر يطلب السلطة  ويبحث عن الكمال، وآخر يظن أن الكمال في الأموال والممتلكات التي يحصل عليها، وآخرٌ يظنّه في الجاه والهيبة، وآخر يظنُّه بالقوةِ والبطش… إلخ،

 

لكن أين نجد الكمال؟ وهل هو غايةٌ دنيوية؟

فالعيشُ ما بينَ القلبِ والعقل أمرٌ في تضاد؛

العقلُ ينظرُ إلى العُلا والحكمة؛

والقلبُ تثورُ في داخله العواطف التي تربط الإنسان بمطامع الدنيا وغرائز الجسد، وهذا الصراع الذي يعيشه الإنسان، الذي هو مخلوق ضعيف ميّال نحو الخطأ و أحيانا لا يستطيعُ التمّييز بين الخطأ والصواب،

لأن النفس البشرية متمردة لتحوّل ما تُصيبُ منه مصلحة شخصية، وأن كان خطأ إلى صواب وتضفي عليه نوعٌ من المقبولية.

إذاً، فالسعي نحو الكمال، هو طبيعة بشرية غير قادرين على التخلص منها، ولرُبما تساهمُ بطريقةٍ ما نحو التطّور إذا ما نظرنا اليها بجانب أخر وبطريقة أخرى.

حيثُ أنَّ هذا النقص الذي يشعرُ به الإنسان تجاه الحياة ونفسه ووجوده، يجعله يبحث عن الاجوبة، حتى وأن لم يصل، فهو مُلزم بالبحث عن تلك الثغرات والإجابة عليها لتكتمل عنده الصورة، ولهذا يعيش الإنسان صراعاتً كبيرة، بين سعيه للكمال في كل شيء وبين الواقع الذي يعيشه وغرائزه وهذا النزاع مستمر الى مالا نهاية.

نفهم من هذا، ان الكمال ضربٌ من ضروب المستحيل لأسباب تتعلق بالغريزة، فالوصول إلى مستوى أعلى من الجودة (كمال) و الجمع بين ثقافات مختلفة لتشكيل وحدة اكبر (تكامل ) ومما لا شك  فيه أن الكمال المطلق هو لله سبحانه وتعالى، ولكن حديثنا عن الكمال النسبي، حيثُ لم نجد قراءات موضوعية عن مراتب الكمال النسبي ولا توجد وحدة قياس ثابتة لدرجات الكمال الذي سببه نزاعات فكرية ،إنتماءات متعددة ،حب الذات ،بيئة ضاغطة نزعات دينية ومدنية، و أعراف إجتماعية، كلها حاكمة على منظومة التقييم للكمال والتكامل.

فبحكم النسبيّة التي تسود المعايير، سواء الارضية أو التنظيم الكوني عموما، فإن التكامل مُختلفٌ عليه ويبقى الكمال المطلق لله تعالى.

كما أن الإنسان أكثرُ الكائنات الحية كذباً، لأنه الكائن الوحيد الذي في حين وآخر يرفض أن يكون على حقيقته، وبذلك يكون مشتتاً في سلوكه وميوله وعواطفه ودوافعه واتجاهاته وعلاقاته مع الآخرين،  وهو الكائن الوحيد الذي يهدد بني جنسه لأنه الوحيد الذي يخشاهم خوفاً من الغيرة والحسد، وهو الوحيد الذي يدّعي الخير للآخرين، ولكنه لا يتمنى مُطلقاً أن يكون أحد أفضل منه في مقومات الحياة.

يقول عالِم الاجتماع، الدكتورعلي الوردي، ان الإنسان في تنشئته الاجتماعية، يسعى لإرضاء المجتمع ليقولوا عنه إنه إنسان جيد ومثالي، ولكنه يعاني الإزدواجية وصراع البداوة والحضارة، و للشاعر المتنبي بيتُ شعرٍ يقول فيه : وأني من قومٍ كرامٌ نفوسهم؛ ترفع أن تحيا بلحم وعظم.

وكذلك : إذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الاجسام . ويقول كذلك : إن الزرازير لمّا طار طائرها، توهمت أنها صارت شواهينا.

فالأفكار السيئة التي تسكنُ جمجمته والمتخمّرة بفعل الزمن والتاريخ وعدم التجدد هي المشكلة.