23 ديسمبر، 2024 12:06 م

الانزياح وعامل الستراتيج الشعري

الانزياح وعامل الستراتيج الشعري

من خلال قرائاتنا المتابعة لمثولات الانزياح الفاعلة في مبدعات الشعر،اتضحت اهمية عامل الانزياح في تحقيق الجمالية الشعرية، كحالة ابداعية متقدمة لمخلوق الجنس الأدبي الاكثر مطالبة للخروج عن طبيعته ومألوفيته واستعمالاته في الكشف والتصريح عن أسبابه الوجودية واحلامها،رافضاً بخروجه ضيق عبارة –محمد النفري-لتحقيق وسع رؤاه الشعرية،مثل خروجات ابو الطيب المتنبي والفتح الماسي لشعر شارل بودلير حتى لذيذ الحزن لعندية محمد الماغوط واندفاعات رامبو المتسائلة  وانتصاره في انتكاسة حياة عقل علي وغيرها من مبدعات الشعر وكارزمياته الخالدة ،ليُعدْ الانزياح ذلك العامل الستراتيجي في مداخلة الابداع الشعري،
وكما في اعتبارية الناقد – علي حسن الفواز القائلة “وبالتالي فان فكرة الانزياح تتجوهر في التعبير عن روح الشعر الحية اساسا ضد كل ما يتركه هذا النمط من استغراقات بلاغية/ جمالية ،ومقايسات تجعل من الشكل والمضمون ايقونات دالة على الفاعلية الشعرية!!!”1
لذا عد الإنزياح ،ذلك التمحور الدائم في التجميل المنوع للنص،لصناعته الغرائبية الصانعة لإدهاش التلقي ،هذه الغرائبية المتوحدة في تنوعها الانزياحي، وبنفوذها اللغوي من ابواب التعبير  والرسم والنحو وفي ذات المفردة و النسق والجملة المعبرة والنحت والصرف ومخالف الفكرة حتى مزاحه لثابت المتفق الفكري والمعرفي العام.
 ومع واحدية مرام مفهوم الإنزياح،اختلفت اجرائاته واشتغالاته وحيزياته،لحد اختلفت تسميته في النقد الادبي ،فصار لدى تودوروف شذوذا وبول فاليري تجاوزا، وجعله بارت فضيحة،، وجان كوهن يطلق عليه تسمية انتهاك، وتيري ايجلتون يسميه كسرا، وأراجون يدعوه جنونا،ليوجزه الدكتور احمد مبارك الخطيب-بانه “خروج التعبير عن المألوف في التركيب والصياغة والصورة واللغة،ولكنه خروج إبداعي جمالي،يهدم لكي يبني بطريقة يصعب ضبطها،طريقة هاربة دوما”2
،وتبقى جميع الأطاريح المشأنه وبمختلف تسميتها ،دعوة لزومية وفروض لتمحور الانزياح في الأشتغالات المبدعة للشعر.
وقد قارب سبق القول الأرسطي الداعي للمخالفة،رؤى الانزياح في التراث الشعري العربي القديم وبتقارب ايضاً مع المدارس الشعرية الحديثة،وبمحقق حضورها بمفاهيم تنوع انزياح اللغة،وسميت انذاك بالعدول من خلال المجاز والضرورة والاغراق والاعجاز والبلاغة والاتساع وكما في تنظيرات عبد القاهر الجرجاني المميزة في مؤلفيه -اسرارالبلاغة– دلائل الاعجاز- اضافة لكتاب -منهاج البلغاء – لحازم القرطاجني وكتاب –العمدة – لابن رشيق،وسابقها المشابه في تاليف– نقد الشعر- لابن قدامة- وقواعد الشعر- لثعلب،وتأكيدات ابن جني من خلال وصفيته- اللغة الشجاعة-المؤكدة من الشريف الرضي بمسميه- سماحية اللغة – ورؤى –ابن رشد- و-ابن سيناء- والفارابي-وغيرها من مؤكدات ادباء التراث العربي والمقاربة لرؤى الدراسات الخاصة الحديثة عند جان كوهبين في مؤلفه المعروف – بنية اللغة الشعرية- وتنظيرات هنريش بليت- مثلا في مؤلف – اللغة والاسلوبية وغيرهم.
ولكونية الشعر التواقه للتصريح والكشف عن كوامنها الغائرة كرؤى، بمعنى المرور خارج السماح والمستخدم المألوف والمقونن اللامقونن في الشعر،في العدول عنه وكسر حواجزة وضوابطه ليكون الابتعاد المنزاح لتلك الاصقاع اللغوية المحرمة نثريا والغير محرمة شعريا،ومنها  لجوء الذات الشعرية المبدعة لارتكاب الممنوع والمخالف والغريب من العبور المتجاوز،كمخالفة الاستعمال الدارج في مؤكد (الخطابة)لارسطو،لتظهر علامات الانزياح  بواسطة اللغة في تعبيرها او رسمها الشعري،  لكونية الشعر وماهيته اللغوية، كما في قول الدكتور- لطفي عبد البديع-(غني عن البيان ان الشعر ظاهرة لغوية في وجودها ولاسبيل إلى التاني إليها إلا من جهة اللغة التي تتمثل بها عبقرية الانسان في الابداع وتقوم بها ماهية الشعر)2
 ومنه يعد الانزياح ذلك الفتح المبين لمرور لابد منه لبلوغ الابداع في الادب والفن والشعر خصوصا،لمثوله الملبي لطفح وجياش الشاعر  الملاحق لخلق معادله الموضوعي (الأليوتي)  كنموذجا ًمعادل للهجس الشعري ،لتحقيق موصوف ومرغوب الذائقة الحديثة في حداثويتها، والمؤشكلة من الزحام،ومنه راح الشاعر مواظبا وملبيا لهرمونية الابداع الشعري بهرمونية اللغة،ومنها  شعرية ابو تمام كنموذج في تجديد الشعر العربي وفق العامل اللغوي.
وقد اقترن الانزياح بمعادلة الهدم البناء وفق مسيرة التوليد المستمر، كوصول عابر لوصول متوالي اخر،لمسك شيطان الهجس الشعري باللغة المنزاحة في طرادها العابر ، لتجلي يعمل ويحقق فائق القيم الجمالية،ويحصل هذا كثيرا في مستويات اللغة وبواسطتها، لما لوسع عالم اللغة من فعل استكشاف واختراع في كينونة مفاصل شغلها وفروعها الابداعية،وكما عرفنا في لغة الشعر الملبي لحس وشعور  الانسان  ازاء اشياءه الكونية،وما يراه من جمالية فيها او يراه من قبيح لتجميله،ومحور الشغل الشعري هو حالة -اللغة العليا- كما اسماها – جون كوهين-وبمسمينا- اللغة المتقدمة-  وهي اللغة الفنية المعتلية والمتوجهة  في تحقيق الكتابة الجمالية ومن خلال كلام اللغة ومفرداتها،
فالشاعر يعي العالم جمالياً ويعبر عنه بلغة خاصة تختلف كثيرا عن اللغة في النثر العادي بجميع  صنوفه، لتكون اللغة المنزاحة وسيلة في منتج الشاعر المبدع… وكما في قولة المتنبي –
يغض الطرف َعن مكر ٍ ودهي ٍ       كأن به وليس به خشوعا…
وقولة الحطيئة الشعرية المختلفة الإنزياح وقوم هم الأنف والأذناب غيرهم… ومن يسوي بأنف الناقة الذنب وقول الشاعر عقيل علي كفى تقليب المفاتيح بلا  هوادة
ويبقى الانزياح  تقنية فنية لأجراء يستخدمه الشعراء لحصول الهجس والشعور المحاصر، والخروج الى التعبير المغاير للسائد والمألوف في اللغة و الصياغة و التركيب وبما يحقق ملائم غريب الرؤى ايضا ،وبتفاصيل انزياح في المجال الدلالي و التركيبي، او الصرفي و المعجمي ،او انزياح في تسمية الشواهد و عبارة الأمثلة، استعمال فكرة في غير غرضها، وايضا ً في الحذف في حرف و لفظ و جملة او بيت شعري،كما في  المغاير الموظف لبيت الشعر للسياب(عيون المها بين الرصافة ِوالجسر ِ   سيوف تجرح ُوجنة البدر) ِ
ومع وصف البعض الانزياح في لغة الشعر خروج –غوغاي- لايلبي  جوع ذلك المتلقي الجميل المنتظر، ليوصفوه لاغير اندياح مسيء لقواعد اللغة يلغي ويقطع ويضعف العلاقة التاريخية الدائمية مع التلقي ،وكما اشار  ابو ديب- موصياً في الابقاء على الايصال والعلاقة هذه،متناسين هؤلاء قدرية الانزياح في التلبية والايصال الشعري،بزمان البحث عن الدقيق المبدع الغير مستعمل والمألوف  القحط و ضبابية الطرق الملبية والمناخات الصانعة لذلك المتلقي اللاهف والمازوم برفضه لمكرر المستعمل ،ليكون  مفعول الانزياح حلول لازمة القراءة والتلقي في الزمن الحضاري المنشغل و المزدحم.لخلق المتلقي السامع بين صياح الفوضى والازدحام المتسارع في ازقة حاضر الحضارة المعدنية.
ويبقى المخطوء المؤشل  والضاد للكل المنزاح في بناء القصيد الشعري،محصور في الافق القديم الغير مفتوح على عامل الزمن ومعياره،وماحصل لجان كوهين – في تخطأت جينيت له «والواقع أن الانزياح بحسب كوهن ليس غاية بالنسبة للشعر، ولكنه مجرد وسيلة، وهذا ما جعل بعض الانحرافات الشائعة جدا في اللغة لا تحظى باهتمامه مثل مظاهر المعجم”3وهذا ضاد لتاكيد كوهين،بأن للانزياح حدا إذا ما تعداه الشاعر أودى بالقيمة الدلالية لشعره، فرغم(لامعقولية) الشعر كما يصفها في «الطريق الحتمية التي ينبغي للشاعر عبورها”4فإنه يحذر من الإيغال في المستعمل والعبور ، لذلك نراه «حذرا بإزاء السوريالي كونه يتجاوز تلك الدرجة الحرجة”5،وقد محور كوهين ضرورة تجديد البلاغية اللغوية في الشعر في رؤاه الانزياحية،بالغائها  المحضر لها وفق مقيسة جديدة. ويرى البعض من المختصين المهتمين ان الانزياح تفكيك للبلاغة واسسها الكلاسيكية وبما يلمها الصناعة الحداثوية المجملة للبلاغة كالاتجاه اللساني للبلاغة و الاخر الشكلاني وغيره.
وعمل الانزياح كثيرا في توسيع مجالية وعضوية التأويل ومنه تنشيط التلقي،ويميل-ريفاتير- كثيرا الى المؤثر الاول للمدرسة الشكلانية في ولادة الظواهر الادبية، من جاكبسون حتى جان كوهين في البنيوية الشعرية و وسعها الانزياحي،كمفاهيم ورؤى معاصرة اغنت من خلاله الذائقة الشعرية وتعاملها المعرفي اللغوي لها،ليعد الانزياح لزومة حضورية لابداع النص الشعري،وتبقى هذه المعرفية اللغوية والمعلوماتية للشاعر الملبي والمحقق الأساس للشغل الشعري وابداعه للقيمه الجمالية.لما لخاصية الشاعر وحالته النفسية المنفعلة والمتعاملة المتخيلة من تنشيط لتوليد الجمالية المعادة في اليوتوبيا الشعري،ويذهب الرأي القائل بالنظرية البنيوية للنص،هي حجر الاساس الذي اقامت عليها منفذات الانزياح من خلال تجديد البلاغة اللغوية،لكن تبقى المدرسة الشكلانية هي السباقة في مؤكداتها اللغوية وملحقاتها،بل عدت المعطف الشعري الذي خرجت منه انواع الجمالية الادبية مع اختلافها واضافاتها اللأحقة.
ويمكن تلقي التعبير الصوري لمقطع الشاعر – احمد مطر – والبائن في اثارة الحيف المؤلم المشاكس والمؤكد لغرابة زيف الدعوات وصنعه للوقع الشعري المعجب شعريا..(في بلاد المشركين يبصق المرء بوجه الحاكمين فيجازى بالغرامة ولدينا نحن أصحاب اليمن يبصق المرء دماً تحت أيادي المخبرين ويرى يوم القيامة) والمختلف الانزياح عن المقطع الشعري لشارل بودلير-أؤكد لكم أن الثواني قد أصبحت الآن أقوى وأشد إحتداماوكل ثانية…إذ تسيل من البندول تقول:أنا الحياة،التي لاتُحتملالحياة قاسية القلب-
ويبقى رأي ابن سينا بدقيقه الصائب اساسا في قوله…أن لغة الشعر ليست للتفهيم ، بل للتعجيب وكما في ذكرنا للغرائبية الجمالية المستعملة والمنتجة لادهاش الشعري واعجابها في نمذجة سيبوية لهذا في قوله –  حملت الجبل، وشربت ماء البحر7.
وكما القول في صائب الشعر و المغالط  لقواعد اللغة للقول الشعري – رأيت َ الحبيبة ُ الفاتنةُ ُوسلمتُ على الحبيبة ُومزقت كتاب سيبويه وقلتُ:كيف انصبها…كيف اجرها وهي مرفوعة ٌ في السماء؟!!!8 ليبان الشاعر مدى وكم الوله الكامن في تنحية وكسر قواعد لغتة للتعبير عن رفع كلمة الحبيبة وهي في محل نصب وجر،كحالة شعرية عالية الدلالة في اجرائها المنزاح . ولابد هنا من فهم طبيعة الشعر اللامألوفة المتمردة ومن جوانب منوعة ومختلفة والمطبقة لسايكولوجيا  شعرية لم تكرر في السبق الكتابي.
……………………………………
1-مقدمة في قراءة التجديد الشعري- علي حسن الفواز 
2-الانزياح الشعري عند المتنبي –  احمد مبارك الخطيب
3-التركيب اللغوي للأدب – الدكتور لطفي عبدالبديع
4-اللغة الشعرية وشعرية اللغة – جينيت
 56 بنية اللغة الشعرية – جان كوهين
 7- سيبويه، الكتاب، تحقيق عبد السلام هارون
8- شعر كاتب المقال – خليل مزهر