تحتَ الضّغوطاتِ وبسببِ المِحَنِ وتراكُمِ الآهاتِ، يلجأُ الإنسان إلى طرقٍ عديدةٍ للتّفريغِ عمّا يَعتريهِ، أو يبتكرُ عالَمًا آخرَ مِن الخيالِ، بعيدًا عن الواقع المأزوم، ليهربَ إليه، أو يسقطُ صريعًا تحتَ وطأةِ المُعاناةِ النّفسيّةِ، تجلدُهُ سياطُ الصّعوباتِ والآلام، فإنّ ما يُعانيهِ الإنسان في هذا الواقعِ وصِراعِهِ المستمرّ، سينعكسُ أثرُهُ في عالمِهِ الدّاخليّ، وسيظلّ يبحثُ عن نافذةٍ، مِن خلالِها يُعبّر عن هذه الصّراعاتِ وغليانِها بشتّى الطُّرقِ والأساليب، ستكونُ هناكَ في أعماقِهِ مشاعرُ مُتأجّجةٌ، وعواطفُ مُتدفّقةٌ مُستترةٌ في النّفس، فلا بدّ من عمليّةِ تفريغٍ يُمارسُها للخلاصِ مِن هذهِ الشّحناتِ السّلبيّة، وبطُرُقٍ خلّاقةٍ، يُحاولُ مِن خلالِها أن يجدَ نفسَهُ في هذا الكون، ويُحقّقَ ما يصبو إليه.
هنالكَ طُرُقٌ عديدةٌ وقابليّاتٌ مختلفةٌ يُمارسُها الإنسانُ مثل: الرّسم، والموسيقا، والنّحت، والرّقص، والرّياضة، والكتابة، والشّعرِ بالخصوص لإثباتِ الذّات، وتفريغًا لكلّ ما يَعتريهِ، فالشّعرُ يحتاجُ إلى موهبةٍ حقيقيّةٍ، وفطرةٍ نقيّةٍ في روحٍ تتسامى دومٍا عن كلّ هذا الخرابِ والقُبحِ، وبالإمكانِ صقلُ الموهبةِ عن طريقِ التّجربةِ الشّخصيّةِ، والتّراكُمِ الثقافيِّ والمعرفيِّ لدى الشّاعر، حينها يستطيعُ الشّاعرُ إعادةَ تشكيلِ الواقعِ المريرِ، وتصويرَهُ بأبهى صورةٍ، ويحاولُ مِن خلالِهِ ردْمَ الخرابِ، وأن يرفعَ صوتَهُ عاليًا بوجهِ الطّوفانِ والظلام، فيرسمُ الجَمالَ والسّلامَ على هذهِ الأرض.
إنّ قيمةَ الشّاعرِ الحقيقيِّ بقيمةِ ما يُقدّمُهُ للمُتلقّي، فهو رسولٌ بعثَهُ اللهُ لنشْرِ المَحبّةِ والخيرِ، رسالتُهُ الكلمةُ الصّادقةُ النّابعةُ مِنَ الذّاتِ النقيّةِ، فعليهِ أن يُنمّي الإنسانَ في داخلِهِ، وأن يُطوّرَ تفكيرَهُ، حتّى يستطيعَ الغوْصَ عميقًا، ويستخرجَ الكنوزَ مِن أعماقِهِ، وإلباسِها حُلّةً جديدةً زاهيةً عذبةً صافيةً تُسحِرُ المُتلقّي، وتُثيرُ في نفسِهِ الدّهشةَ، والأحساسَ بالجَمالِ، والنّقاءَ والبهجة.
الشّاعرُ لديهِ مقدرةٌ كبيرةٌ على تحويلِ القُبحِ إلى جمالٍ، ويمتلكُ خيالًا خصبًا، وقلبًا يَطفحُ بالمشاعرِ والأحاسيسِ، ولغةً غريبةً غيرَ مألوفةٍ، يَستطيعُ بحِرَفيّتِهِ تَطويعَها، لغةً كما يُعبّرُ عنها كونيتليان: (تُعبّرُ عن الحركةِ والتّجديدِ والحياةِ، على العكسِ مِنَ اللّغةِ العاديّةِ الدّالِّة على السّكونِ والنّمطيّةِ المُملّة). إذًا؛ فاللّغةُ الأدبيّةُ عندَ الشّاعرِ هي الجَناحُ الّذي مِن خلالِهِ يُحلّقُ عاليًا، ويأخذُنا معَهُ إلى منابعِ الإبداع والتّجلّي والفرح، يُبدّدُ لنا الألمَ والعناءَ، ويرتفعُ بنا عن الواقعِ وتعاستِهِ.
منذُ الوهلةِ الأولى، وأنا أطالعُ ديوانَ الشّاعرةِ آمال عوّاد رضوان، انتابَني شعورٌ عميقٌ ورهبةٌ مِن لغةِ الدّيوانِ؛ لغةٌ غريبةٌ لا تشبهُ لغةَ أهلِ الأرض، حِيكَتْ بطريقةٍ مختلفةٍ، جعلتْني أقفُ مَصعوقًا أمامَ طوفانِها ورهبتِها، لغةٌ عذبةٌ، لكنّها جامحةٌ لا تَنقادُ إليكَ بسهولةٍ، بل تجعلُكَ تقفُ مُتحيّرًا كيفَ تَلِجُ إليها، ومِن أيّ الأبوابِ تدخُلُها، لغةٌ لا يُجيدُها إلّا القليلُ القليلُ ممّنِ اكتشفوا سِرَّ اللّعبةِ، وأجادوا صياغتَها بحِرَفيّةٍ عالية، وسأقتصرُ هنا على الانزياحاتِ اللّغويّةِ في هذا الدّيوان، لِما لها مِن جَماليّةٍ أخّاذةٍ تُقلقُ، وسِحرٍ أنيقٍ يَستفزُّ، ويُثيرانِ الدّهشةَ والتّأمُّلَ والتّأويلَ.
مِن عتبةِ العنوانِ (سَلَامِي لَكَ مَطَراً) تبدأُ رحلةَ هذهِ الانزياحاتِ المُثيرة، حيثُ ابتدأتْ بالسّلامِ والأمانِ والسِّلمِ والصُّلحِ، والتّحيّةُ مُقترنةٌ بهطولِ المطرِ؛ رمزِ الحياةِ والنَّماءِ والخيرِ والخصب، حيثُ الرّحمةُ الإلهيّةُ تَطردُ الجُدبَ والجَفافَ، وتبعثُ البَشائرَ، فرسالةُ الشّاعرةِ آمال عوّاد رضوان عبارةٌ عن سلامٍ يَقهرُ ما حَلَّ مِن جفافٍ بينَ النّفوسِ، نتيجةً لنَوازعِها المختلفةِ وغاياتِها ونَزواتِها، إنّهُ السّلامُ بكلِّ ما يَعني الحُبُّ، والانتظارُ، واللّهفةُ والتّرقُّب.
إنّ جون كوهن يرى (أنّ الشّرطَ الأساسيَّ والضّروريَّ لحدوثِ الشّعريّةِ هو حصولُ الانزياحِ، باعتبارِهِ خرقًا للنّظامِ اللّغويِّ المُعتاد)، إذًا؛ لا شِعرٌ دونَ لغةٍ، ولا لغةٌ شعريّةٌ دونَ انزياحٍ لغويٍّ، يَرتفعُ بهذهِ اللّغةِ إلى عوالمَ أخرى مُحْكمةِ البناءِ والشّكل، تمتلكُ طاقةً نَغميّةً وإيقاعاتٍ مُتجانسةً، رَنينُها يُسحِرُ الأذن.
الانزياحاتُ اللّغويّةُ في ديوان (سَلامي لَكَ مَطَرًا):
1* الانزياحُ اللّغويُّ الّذي يُجسّدُ صورةً شعريّةً جديدةً مُختلفةً عن الواقع، حيثُ نجدُ هنا رسمًا قَوامُهُ الكلماتِ، يمتلكُ إدراكًا حِسّيًّا يَنفُذُ إلى أعماقِ الأشياء، وكأنّه حالةُ استرجاعٍ ذهنيٍّ محسوسٍ، كما في هذا المقطعِ مِن قصيدة (خُـرّافَةُ فَـرَحٍ): براءةُ الفَجْرِ/ تُسْدِلُها عُيونُ المَلائِكَةِ/ مِنْ/ قُبَّةِ العَدْلِ/ عَلى/ هَديلِ يَمامِ الرّوحِ!
وكذلك في هذا للمقطع من قصيدة (اُسْكُبِيكِ في دَمِي): نَسائِمُ شُرودٍ.. تُحَلِّقُ/ تَصْفَرُّ أَعْوادُها.. تَصْفِرُ ناياتُها/ و.. تَسْفَحُ غَمامَ مُنىً/ عَلى.. أُفُقِ الصَّباحاتِ البِكْر/ أَمِنَ المُنْتَهى.. تَنْقَشِعُ طُفولَةٌ/ غافِلَةٌ.. عَارِيةٌ/ تَخْتَبِي../ في أَغْلِفَةِ العَبَقِ العُذْرِيِّ؟
إنّها اللّغةُ الشّاذّةُ غيرُ المألوفةِ، تعتمدُ التّحريفَ والإغرابَ، وطغيانَها وتدميرَها لنِظام الواقع.
2* الانزياحُ اللّغويُّ الّذي يُجسّدُ العاطفة: فالعاطفةُ هي هذا الكمُّ مِنَ المَشاعرِ والأحاسيسِ الّتي تنتابُ الشاعرَ في لحظةٍ مُعيّنةٍ، وتُكوّنُ انفعالاتٍ وجدانيّةً، ومن خلالِ القصيدة يُحاولُ التّخلُّصَ منها، وإسقاطَها على الورق، إذ تنبعُ مِن ينابيعِ الرّوحِ البعيدةِ دونَ تَكلُّفٍ أو تزييفٍ، وتَتمثّلُ هذه العواطفُ على مساحةٍ واسعةٍ في ديوان (سَلامي لَكَ مَطَرًا)، كما في قصيدة (حورِيَّةٌ تَقْتاتُ مِنْ ضِرْعِ النُّجومِ):
نَحْنُ المَجْبولونَ بِالحُبِّ كَرَمْلِ حَنينٍ/ تَخارَقَهُ زَبَدُ اشْتِهاء../ أَلا تُنْقِذُنا أَمْواجُ بَراءَةٍ/ مِنْ خَطايانا؟!/ أَلا تَرْحَمُ بَقايانا/ نَواقيسُ مِنْ أَلَق؟
وكذلكَ تتمثّلُ في قصيدةِ (شاهِدَةٌ فَوْقَ لَحْدِ النَّهار): كأنَّما حَدَقاتُ آمالي/ كانَتْ أَرْحَبَ مِنْ فِرْدَوْسِ يَقينٍ/ وَكَأنَّما مَيْدانُ صَمْتِكِ/ صارَ أَضْيَقَ مِنْ ثَقْبِ شَكٍّ؟!
إنّها اللّغةُ الّتي تبتعدُ عنِ الخطابةِ، تتفرّدُ بما تَحملُ مِن طاقاتٍ، وكأنّنا نتلمَّسُ هذهِ المَشاعرَ والأحاسيسَ، ونستنشقُ عبيرَها الطّاغيَ في جوٍّ شاعريٍّ، ونتذوّقُ حلاوتَها .
3* الانزياحُ اللّغويُّ الّذي يُجسّدُ الخيالَ الخصبَ: فالخيالُ هو القوّةُ التّركيبيّةُ السّحريّةُ، مِن خلالِهِ يَنقلُنا الشّاعرُ إلى عالمِهِ الغريبِ، حيثُ نجدُ اللّغةَ المُتوهّجةَ حاضرةً في طُغيانِها، بحيثُ تكونُ هي الواقعُ الحاضرُ والعيشُ العميقُ فيهِ، حينما تَتخلّى المُفرداتُ عن مرجعيّاتها، فنجد هذا الخيالَ في قصيدة (سَلامي لَكَ مَطَرًا):
في دُروبِنا العَتيقَةِ/ تُعَتِّقينَ خَواطِري فَرادَةً بِكِ/ إلامَ تَطْفو ذِكْراكِ عَلى وَجْهِ النِّسْيانِ؟/ بِغاباتِ فَرَحي المَنْذورِ لَكِ/ تَتَسَوَّلُكِ أَنْهارُ حُزْني../ ظِلالَ بَسْمَةٍ تَدْمَعُ بِكِ!
وكذلكَ في قصيدة (إِلَيْكِ أَتوبُ غَمامًا)، حيثُ تقولُ الشّاعرةُ في بعضِ مقاطعِها: أُطارِدُ مَسافاتِكِ المُتَسافِكَةِ/ في انْعِطافاتِ عَطْفِكِ/ وَعَلى/ إيقاعِ جِهاتِكِ/ مُتَماهِيًا بِي/ يُشاكِسُني حَريرُ خَريرِكِ!
استطاعتْ هذهِ اللّغةُ أن ترسمَ لنا لغةً كالحُلم، واستطاعت الاستغناءَ عنِ الواقعِ المَرير، وأن تُشكّلَ لنا كلَّ هذا الجَمالَ.
4* الانزياحُ اللّغويُّ الّذي يُجسّدُ الاستعارةَ: حيثُ نجدُ أنّ هناكَ وسيلةً عُظمى، تَجمعُ بينَ أشياء مختلفة لا توجدُ بينَها علاقةٌ مِن قبل، لأجلِ إحداثِ تأثيرٍ في المواقفِ والواقعِ، ويَتجلّى هذا كما في قصيدة (سَلامي لَكَ مَطَرًا): يا مَنْ/ عَلى/ عَتَباتِ خافِقي المَهْجورِ/ تَنْبُتينَ أَشْجارَ زينَةٍ/ تَفوحُ بِزَهْرِ صَوْتِكِ/ يَزْدانُ بِكِ فِرْدَوْسُ نِداءاتي/ أَتَقولينَ:/ سَلامي لَكَ َمطَرًا!؟
وكذلك نجد هذا كما في قصيدة (شاهِدَةٌ فَوْقَ لَحْدِ النَّهار): كأنَّما حَدَقاتُ آمالي/ كانَتْ أَرْحَبَ مِنْ فِرْدَوْسِ يَقينٍ/ وَكَأنَّما مَيْدانُ صَمْتِكِ/ صارَ أَضْيَقَ مِنْ ثَقْبِ شَكٍّ!
لغةٌ هادئةٌ امتلكتْ مقدرةً على صُنعِ هذا العالمِ الزّاخرِ مِنَ الاضطرابِ، ومَزْجِهِ، وإعادةِ تَدويرِهِ بالسِّحرِ اللّغويّ.
5* الانزياحُ اللّغويُّ الّذي يُجسّدُ الأحاسيس: وهو ردّةُ فِعلٍ لا إراديّةٍ لِما نتأثّرُ بهِ مِنَ المحيطِ الخارجيّ، وهي الّتي تُهفهفُ بأعماقِنا، وتمنحُنا المتعةَ، والشّعورَ بالجَمال، والنّقاءَ والصّدقَ، ونجدُ ذلكَ كما في قصيدة (سَماوِيَّةُ غُوايَتي):
في ضَبابِ الأُفُقِ الهارِبِ مِنْكِ/ تَتَناغَمُ فُصولُ الحُزْنِ الفَرِحِ؛/ بَيْنَ لِقاءِ الغِيابِ.. وَ.. بَيْنَ غِيابِ اللِّقاءِ/ يَلُوحُ مَعْبَدُ روحِكِ تُحْفَةً/ تَحُفُّهُ هالَةٌ مِنْ سُكونٍ/ يَفوحُ في انْسِكابِ نَدًى../ شَوْقٍ.. عَطِرٍ/ وَفي مِحْرابِ اللَّحْظَةِ/ تَجْثو أَحْلامُ كافِرٍ/ تَتَزاحَمُ في غَفْلَةٍ مِنْ غُروبِ إيمان!
وكذلكَ نجدُ ذلكَ كما في قصيدة (زَغَبٌ شَمْعِيّ): أشْواكُ رَحيلِكَ/ تَخِزُ أَعْصابَ الزَّنابِقِ/ سَتائِرُ ماضٍ تَتَمَرَّغُ لَوْعَةً/ في جَنَباتِ اللَّيْلِ/ تَتَذاءَبُ عُيونُ خَيالي/ مَوْجَةُ ماءٍ تُشْعِلُها/ مَوْجَةُ نارٍ تُطْفِئُها/ وَفي خِباءِ الأبْجَدِيَّةِ/ تَسْتَأْنِسُ بِحِضْنِ ضَوْئِكَ
لغةٌ تفرضُ السّعادةَ، تستمدُّ قوّتَها مِن قوّةِ المُفردةِ وتَشظّيها، وامتلاكِها طاقةً تنسكبُ في النّفوسِ، وتجعلُها تتغنّى بشلّالِها المُتدفّقِ حيويّةً وصِدقًا.
6* الانزياحُ اللّغويُّ الّذي يُجسّدُ التّجسيمَ: وهو إضفاءُ الطّابعِ الحِسّيِّ على المعنويّاتِ، بدرجةٍ تجعلُنا نرى المعانيَ وقد جُسِّمتْ، أي أنّ الشّاعرَ يُجسّمُ لنا الإحساسَ، لا أن يُخبرَنا عنه، كما في قصيدة (سَماوِيَّةُ غُوايَتي): أَيا راعِيَةَ حُقولِ القَلْبِ: أَما حانَ القِطافُ؟/ عَلى/ سُفوحِ التَّرَقُّبِ/ تونِعُ ابْتِساماتُ بَراعَتِكِ يَراعًا/ تَتَدَحْرَجُ/ ثِمارَ فَرَحٍ/ إلى/ سِلالِ اللَّحَظات!
وكذلك في قصيدة في (مَلاجئ البَراءَة): نحْنُ مَنْ تَلاشَيْنا/ مُنْذُ أَنْ/ هَبَطْنا/ مِنْ جَنَّتِنا/ أَقَدَرٌ أَنْ نظلَّ نَتَهاوى/ إلى غابَةٍ مُلَوَّثةٍ بِالحَرْبِ وَالعِصْيانِ؟/ أَكَأنَّما نَحِنُّ لِرَحْمَةٍ طرَدَتْنا/ حينَ عَصينا المَعْرِفَة؟!
إنّها اللّغةُ الإنسانيّةُ الصّادقةُ الخارجةُ للتّوّ مِنَ الحطامِ الواقعيِّ، مُحمّلةً برفيفِ الشّعرِ النّاصع.
7* الانزياحاتُ اللّغويّةُ الّتي تُجسّدُ التّراسُلَ: فأيُّ اشتراكٍ أكثرُ مِن حاسّةٍ في المَقطعِ الشّعريِّ، كما في قصيدة (سَماوِيَّةُ غُوايَتي): بَلِ انْهَمِري حَنانًا/ يَنْضَحُني بِطُهْرِكِ/ فَأبْرَأُ مِنْ يَبابي/ رَحْمَةً بِاليَتَسَرْبَلُ أرْجُوانَ الوَجَعِ/ تَخيطُهُ إبْرَةُ الشَّغَبِ بِخُيوطِ الشَّغَفِ../ لا تُرَتّقي جِراحَ نَرْجِسي/ بِشَوْكِ التَّمَنّي/ لا تُزْغِبي أجْنِحَةَ صَلَواتي/ بِأَرْياشِ الحَسَراتِ/ أُمْسُسي واحاتِيَ الذَّابِلَةَ/ بِخُشوعِ هَمْسَةٍ/ وَلا تَعْبَثي بي/ بَلِ ابْعَثي أَعْراسَ الزَّقْزَقَةِ / زَغاريدَ فَرَحٍ / في مَناقيرِ فِراخِ الحَنينِ!
لغةٌ نشتاقُ إليها دائمًا، نستحمُّ بينابيعِها، ونتمشّى على سواحلِها مُتراميةِ الأطراف.
8* الانزياحاتُ اللّغويّةُ الّتي تُجسّدُ الإيقاعَ في اللّغةِ: وهو حالةُ التّواترِ المُتتابعِ ما بينَ التّوقّفِ وحالةِ الصّوتِ، أو الإبطاءِ والإسراعِ، أو الحركةِ والسّكونِ، وهناكَ إيقاعٌ يعتمدُ على قافيةِ ووزنٍ خارجيّ، وهناكَ إيقاعٌ داخليٌّ يعتمدُ على ما في النّصِّ مِن قوافٍ داخليّةٍ، وبديعٍ، وحروفِ مَدٍّ أو همسٍ، وهذا نجدُهُ في قصيدة (نَدًى مَغْموسٌ بِغَماماتِ سُهدٍ): عَلى ضِفافِ القَصائِدِ/ تَتَناثَرُ محاراتُ الهَوى/ وَمِنْ ذاكِرَةِ الهرُوبِ / تَتَسَلَّلُ أَسْرارُ الجَوى/ فَلا نُمْسِكُ بِالمَحارِ/ وَلا نَلْحَقُ بِالأَثَرْ/ وَهَيْهات.. هيهات.. يُسْعِفُنا الوَتَرْ!
لغةٌ مُحمّلةٌ بالأسرارِ، تأخذُنا رغمًا عنّا إلى عالمٍ فسيحٍ مِنَ التّوافُقِ بينَ المُفرداتِ وصياغتِها، وتوحي بالمَزيدِ مِنَ الطّاقاتِ الموسيقيّةِ المُتجانسةِ، وبالمقدرةِ على الإيحاءِ والتّوصيل.
إنّ ديوانَ (سَلامي لَكَ مَطَرًا) للشّاعرة آمال عوّاد رضوان يمتلكُ مقدرةً فائقةً، على تغريبِ اللّغةِ والانزياحاتِ العظيمة، منَ العنوانِ إلى آخرِ مفردٍة فيهِ، فالمُتلقّي يجدُ نفسَهُ مِن خلالِ دلالاتِهِ النّصّيّةِ، وجهًا لوجهٍ أمامَ لغةٍ صادمةٍ، حقّقتْ جَماليّتَها الشّكليّةَ والمعرفيّةَ والتّعبيريّةَ، وخروجًا عن قواعدِ اللّغةِ والمعتادةِ، وخرقًا لهذهِ القواعد. إنّ هذهِ الإطلالةَ حاولنا مِن خلالِها، إثباتَ قيمةِ الانزياحاتِ اللّغويّةِ في الشّعر، وأنّ الشّعرَ العظيمَ لا يكونُ عظيمًا بغيرِها.