شهد القرنان السابع عشر والثامن عشر تحولات تأريخية كبرى في بنى المجتمعات الاوربية مع انطلاق حركة التنوير والثورة الصناعية والثورة الفرنسية وتعزيز المؤسسات المالية والصناعية للنظام الرأسمالي،
وقد لعبت المقاهي دوراً متميزاً يكاد يضاهي دور الانترنيت في تلك المنعطفات. لا ينطوي هذا القول على شئ. من المبالغة أو افتعال المفارقة،فقد اطلق المؤرخون تسمية “جامعات البنس الواحد”على المقاهي آنذاك، اذ يتزود الزيون مقابل بنس واحد بشتى أنواع المعرفة كالرياضيات والفيزياء والفلسفة، ويطلع على أخبار السياسة والأدب،كما اطلق البعض تسمية ” البرلمان غير الرسمي “على المقهى، وقد وصف الفيلسوف الالماني المعاصر هوبرماس المقاهي في اوربا على أنها الوسيط بين الطبقات الشعبية من جهة والبرلمان ومؤسسات الدولة التي لا صوت لهم فيها من جهة اخرى.
كان الصوفيون أول من تناولوا القهوة لتعينهم على اداء طقوسهم العبادية في التقرب الى” ذات الرب طوال الليل، ثم انتقلت الى مكة عام ١٥١٠ م، فانتشرت المقاهي الى الحد الذي أحس فيه قاهر بيك بخطورتها في تداول النقد السياسي من قبل العامة، فاسرع عام ١٥١١م بالايعاز الى مجلسه الفقهي لاصدار فتوى تحريم القهوة بحجة انها مسكرة كالكحول، فاغلقت المقاهي وأحرقت اكداس كبيرة من البن.
فتحت اول مقهى في لندن عام ١٦٥٢ قرب جامعة اكسفورد، ومرة اخرى لم يكن الطريق لانتشار المقاهي معبداً، فقد واجهت حملات دينية وسياسية بجانب الحملة المضادة التي اطلقها تجار الكحول آنذاك. اشتدت الحملة الدينية ضد القهوة بحجة انها منحة الشيطان للمسلمين الذين حرموا احتساء النبيذ المقدس، وقد وضع البابا كليمنص الثامن نهاية للحملة بعد تذوق القهوة والافتاء بعدم تحريمها. الملك تشارلس الثاني حاول أيضاً اغلاق المقاهي فذكره مستشاره وليم كارفنترى إن المقاهي هي التي اعادت له عرشه بتأليب رعاياه ضد دكتاتورية كرومويل والمطالبة بعودة الملكية.
من أطرف الحملات ضد القهوة عريضة النساء البريطانيات المقدمة الى البرلمان عام ١٦٧٤ م والتي طالبت بمنع تناول القهوة لانها تصيب الرجل البريطاني المعروف “برجولته” “بالمياعة الفرنسية” فيحلو لسانه بينما ترتخي بقية اعضاء جسده ولا يعود قادراً على اداء مهامه الزوجية في الفراش.
رغم كل الحملات انتشرت المقاهي في اوربا وخاصة في لندن بسرعة هائلة، وقد ترافق انتشارها مع بدء حركة التنوير وعصر الاكتشافات والاختراعات العلمية، فكانت ملاذاً للمواطنين من كل الطبقات لاشباع توقهم للاستزادة بالمعرفة في شتى المجالات.
– العلوم والصناعة: كانت مقهى مارينز و سوان في لندن تغصان بالرواد ويتجمع الناس على أسوارها للإستماع إلى محاضرات العالم جيم هادجستون في الرياضيات والفيزياء، وفي مقهى كريشان وكارواي تعرض التجارب العلمية والإختراعات الجديدة ويجري إيضاح المبادئ العلمية بلغة مبسطة لعامة الناس ، مما اغاظ العلماء النخبويون بحجة أن العلم له تخصصاته ولا يمكن ابتذاله بالتبسيط، وفي مقهى كاراواي تأسست الرابطة الملكية للعلماء وكان العالم كريستوفر راين أول رئيس لها ، ثم حاز على رئاستها العالم الشهير إسحق نيوتن،ومن المفارقات التأريخية أن كتاب نيوتن ” الأسس الرياضية في الفلسفة الطبيعية ” -والذي يعتبر إنطلاقة لفكر التنوير – قد كتب على أثر حوارات علمية جرت بين العلماء روبرت هوك ، ادموند هالي، كريستوفر راين وجون فلامستد في مقهى كاراواي.
– الفلسفة: تميزت المقاهي الفرنسية بما يجري فيها من حوارات فلسفية وفكرية ، فالانسكلوبيديا – وهي خلاصة فكر التنوير- قد حررها ديدرو وفلاسفة آخرون في مقهى باريس، وقد كان لفولتير طاولته الخاصة في مقهى بريكوب حيث يلتقي بمحاوريه ديدرو وكوندرسيه والأميركي بنجامين فرانكلين .
– السوق والمال : اتخذت الطبقة الوسطى في لندن بعض المقاهي مثل لويدز ، جوناثان و رين بو مراكز تجارية تقام فيها مزادات بيع وشراء اليخوت والمراكب والمكائن والعدد الصناعية وتباع فيها أيضاً الأسهم وبوليصات التأمين، وقد تأسست فيها رابطة التجار ونقابات رجال الأعمال والصناعة والتي تعاظم نفوذها فاصبحت قوة ضاغطة على البرلمان والحكومة. بتأثير نفوذها أصدر البرلمان عام ١٦٨٨م تشريعات لتنشيط الإقتصاد عبر اشراك أكبر عدد من الرأسماليين في تنافس حر ، فقد أجبر الملك على فك ارتباطاته النفعية مع الشركات الكبرى والتي كان يؤمن لها إحتكار التجارة الخارجية كشركة الهند الشرقية، أصدر البرلمان أيضاً قوانين حمائية تمنع إستيراد الأنسجة القطنية الأجنبية وتمنع نقلها على السفن الإنجليزية بل وتمنع المواطن البريطاني من إرتداء الأنسجة القطنية غير الإنجليزية.
من الجدير بالذكر أن مؤسسة ” لويدز أوف لندن ” وهي من كبريات المؤسسات المالية في بريطانيا الآن هي إمتداد إلى مقهى لويدز لصاحبها ادوارد لويدز آنذاك.
– السياسة : تحولت الكثير من المقاهي في أوروبا إلى مراكز للنشاط السياسي والفكري، إذ تباع وتعار فيها الكتب والجرائد وينشر فيها الناشطون أفكارهم التنويرية، مما دعا الملوك وخاصةً في فرنسا إلى دس الجواسيس في كل مقهى، وقد حكم على الدكتور وليم هودجستون بالسجن ٤ سنوات لمحاضراته عن حقوق المرأة، كما حكم على جون فروست ب ٦ أشهر لدعواته لتغيير النظام الملكي في بريطانيا الى نظام جمهوري، ويكفي للتدليل على دور المقاهي أن شرارة الثورة الفرنسية قد انطلقت من مقهى كافي دي فويب حين هتف المواطن دي مولار ” إلى السلاح أيها المواطنون”.
– الأدب: بشكل شبه يومي كان الشاعر البريطاني الشهير جون درايدن يلقي قصائده في مقهى ويلز إذ تحتشد المقهى بالجمهور قبل وصول الشاعر بساعات ، وقد اتبعت مقاهٍ كثيرة هذا التقليد لإقامة أماسٍ شعرية ومحاضرات أدبية لزبائنها.
إذا كان الإنترنيت يمثل العصب الرئيسي لعصر العولمة فقد كان للمقهى دور مشابه في أوروبا السابع عشر والثامن عشر.