23 ديسمبر، 2024 2:11 م

الانتحار سفرا حتى الموت

الانتحار سفرا حتى الموت

لم تغب صورة سقوط المقبور صدام عن مخيلة أي من العراقيين الذين عاشوا مأساة حكمه لحظة واحدة، إلا أن الذي غاب هو الفرحة والسرور والطمأنينة، وحل محلها الحزن والألم والقلق أضعافا مضاعفة، وهي تزداد مطردة مع ما يفعله ساستنا المتربعون على كارسيهم العاجية، وما تنتجه بنات أفكارهم من مشاكل وتداعيات أودت بنا وبالبلاد الى حيث لا يحسد عليه مخلوق على وجه المعمورة. فقد حازت البلاد من جرّاء سياساتهم على الدرجات الأولى في الفساد.. ونالت الدرجات الدنيا في توفير أبسط حقوق المواطن، وتجمهرت الأكف والأيادي العاملة باحثة عن لقمة تسد رمقها في “مسطر” او شركة أهلية تشكو بدورها فقدان السيولة النقدية وجمود حركة العمل في البلاد، ونتج عن هذا كله كساد وفقر ونكوص حاد في مستوى البلد الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، فضلا عن الأمني، وصار لكل عراقي قصة مأساوية سوداوية في ظل هذي التداعيات، والأمثلة بهذا الخصوص لاتقف عند رقم أقل من ثلاثين مليون قصة. وقطعا لم تأت هذه المأساوية إلا من واقع الحال المعاش الذي أطبقت فيه أسباب الحزن والأسى كلها على العراقيين إطباقا شديدا، حتى لجأوا -من حلاة روحهم- الى دول المشرق والمغرب بهجرات عشوائية، غير مضمونة النتائج، بل أنها محفوفة بالمخاطر وأٌدنى خطر فيها هو الموت. وما الهجرات الانتحارية التي يقامر بنتائجها الشبان العراقيون عبر بحار الموت، او غابات الهلاك، أو صحارى الضياع، إلا شاهد حي على عظم معاناتهم في بلدهم الغني بالثروات، ولكن لسوء حظهم أن حكامه على تعاقبهم واختلافهم خلال العقود الخمسة الأخيرة، شطوا عن الحكمة في القيادة أيما شطط، ونأوا عن النزاهة والأمانة أيما نأي، وتمادوا في الإساءة الى تاريخ البلد ماضيه وحاضره إيما إساءة، الأمر الذي أضاع الأمل بالمستقبل لدى هؤلاء الشباب، فارتأوا الانتحار سفرا حتى الموت، بعد أن انحسرت خياراتهم في ثلاث مهلكات لارابع لها؛ فإما الموت غرقا، أو الموت لظروف مناخية، أو الموت على أيدي مافيات المتاجرة بالأعضاء البشرية. هذا واقع الحال في العراق الجديد، ولو عدنا بالزمن الى العراق (العتيگ) واستذكرنا البطش والقمع الذي يتعرض اليه العراقيون يوميا على أيدي النظام الحاكم آنذاك، لوجدنا أن الثلاث المهلكات كانت تحاصر العراقيين أيضا، ولكن بثوب مختلف وأسلوب مغاير، فكان الخيار الأول هو الموت على أعواد المشانق أوفي أحواض الأسيد أو ضمن مقابر جماعية، أما الخيار الثاني فالموت مرضا وفقرا وفاقة، ولم يبق إلا الخيار الثالث وهو الموت غربة وغصة وحسرة على بلد أضاعه حاكموه، وبددوا ماتحت أرضه من ثروات، ومافوقه من سكان. اليوم -كما هو الأمس- وقد سُدت أبواب الخلاص من السياسات المتبعة بوجه العراقيين، إراهم ينادون ساستهم بما نادى به البحتري قبل 1150 عاما حين قال:

يا من يماطلني وصلي بإنكار

ماذا الجفاء وما بالوصل من عار

إني أعيذك أن تزهو على دنف

حيران قد صار بين الباب والدار

أو مستجيرا بوصل منك ترحمه

مثل الذي قال في سر وإجهار:

“المستجير بعمرو عند كربته

كالمستجير من الرمضاء بالنار”

[email protected]