وفي الخامس والعشرين من شهر حزيران/يونيوعام 1963م، ذهل رجال الموساد وهم يقرأون ترجمة نشرة الاخبار للاذاعة العراقية، والتي جاء فيها:” هناك علاقة وطيدة بين الملا مصطفى البارزاني واسرائيل، لقد توفرت معلومات لدى السلطات العراقية تؤكد أن اسرائيل تقدم المساعدات للبارزاني، ومن ضمنها محطة بث وأموال. لقد أدت صحة البيانات الواردة في النبأ، وتزامن اذاعته مع الوقت الذي أرسل خلاله (ر) الى استبعاد الموساد فكرة الصدفة، وتمحورت شكوك الموساد حول عدة جهات، ومن ضمنها (ر) نفسه الذي كان يعمل صحفياً، إضافة الى أن الوسط المحيط بالبارزاني لم يكن أميناً بصورة كاملة من احتمالات التسرب”. ينظر: الموساد في العراق، المرجع السابق، ص99.
لذا تبين لاسرائيل أن السرية في مثل هذه العمليات هي مسألة غير مضمونة؛ لذلك لا بد الاستعانة بايران وتحديدا جهاز مخابراتها (السافاك) لدفع مشروع التعاون الكردي – الايراني الى الامام.
وفي شهر تموز عام1963م، وبناءً على طلب ابراهيم احمد سكرتير البارتي، وطلب الصحفي الموهوم (ر) الذي أرسلته اسرائيل كممثل عنها الى قيادة الحركة الكردية في كردستان العراق، تم تدريب أول كردي كفني راديو وأطلق عليه (المهندس)، وقد انتقل هذا المهندس من معسكر ابراهيم احمد الى معسكر البارزاني، وأدار محطة الراديو من هناك حتى نهاية الحركة الكردية في آذار 1975م.
ويعتقد الباحث أن ذلك المهندس هو: عبد الخالق معروف [ وهو شخصية معروفة من مواليد مدينة أربيل، في 1/1/1935م، بعد اتمام الدراسة الابتدائية والاعدادية توجه الى القاهرة في عام 1958م لمواصلة الدراسة في جامعة الازهر، كان يهوى القراءة والتثقف الذاتي منذ شبابه واشتهر في منطقته كرجل متعلم ومعاصر، التحق بثورة ايلول في عام 1963م وخدم الثورة بكامل طاقاته الفكرية والثقافية والفنية. كان هذا الرجل النابغة ضليعاً في مجال الالكترونيات الى جانب كونه من العناصر المستنيرة والكتاب البارعين في صفوف البيشمركه، وقد سخر مواهبه وامكاناته في مجال الالكترونيات لخدمة شعبه، فأسس مع اندلاع ثورة شعب كردستان الحديثة اذاعة (صوت شعب كردستان). وقد سعى من اجل تطور المجتمع الكردي مقدما خدماته الجليلة في اكثر من مجال، في الادب والفكر والعلوم، وقد اثرى المكتبة الكردية بمؤلفات قيمة ما بين 1977 وصولا الى 1985م، من بينها: كتاب (التكنيكي) في عام 1980م، وكتاب (الانسان في المجتمع الكردي)، وغيرها. وقد نشر كراسا باللغة العربية في عام 1979م تناول فيه مواضيع فيزيائية والكترونية، كما له مخطوطات غير مطبوعة حول الـ(ترانزستور)، اغتيل عبدالخالق معروف بتاريخ 1 نيسان عام 1985م بمسقط رأسه اربيل. ويعزو بعض اصدقاء معروف وعدد من الكتاب والمتتبعين لتاريخ تلك الحقبة مقتله الى الجانب الديني، ويرون ان التشدد الديني يقف وراء الاغتيال، وبعضهم يرى ان هناك اسبابا سياسية وراء اغتياله، وهناك رأي ثالث يقول بأن النظام البعثي البائد أخذ من الخلافات الناشبة بين معروف وعلماء الدين الاسلامي في أربيل ذريعة لتصفيته. ويقول صديق شخصي آخر له ان النظام البعثي لم يكن ليعرف بالمشكلة ويصفي الكاتب عبدالخالق معروف لو لم يصب علماء الدين الزيت على النار ولم يشنوا حملتهم الشرسة عليه، ويسرد أحد الشهود الذين عايشوا الحادث ما جرى، فيقول: كتب عالم دين كردي تقريراً ضد معروف بهدف القضاء عليه، والتقرير وصل الى يد خيرالله طلفاح، وقد جاء في التقرير: أن عبدالخالق معروف تعرض الى دين الاسلام والى الرجل المسلم بالإهانة ولابد من تصفيته. ينظر:عبدالخالق معروف، شهيد الفكر الحر، موقع داربران، في8/3/2017م؛ كامران قره داغي شاهد على ثورة الكرد(3): انطلاق صوت كردستان تحت قصف الطائرات، موقع درج، في 4/3/2019م].
وفي العاشر من آذار 1964م، عقد في منزل الصحفي الفرنسي اليهودي(إريك رولو) في باريس اجتماع كردي – فرنسي، بمشاركة الامير الدكتور كاميران بدرخان وجلال الطالباني والدكتور عصمت شريف وانلي وعدة شخصيات كردية أخرى(= يعتقد أنها تضم الدكتور كمال فؤاد، والطبيب وريا رواندوزي، وسعدي أمين دزه يى شقيق السياسي محسن دزه يى)، وهناك قال الطالباني:” المستقبل بين أيدي الحزب الديمقراطي الكردستاني، وهي ترغب في استئناف القتال، بيد أن البارزاني يحول دون ذلك. وأعلن أنه الممثل المعتمد للحزب المذكور، وأعرب عن غضبه الشديد تجاه اسرائيل جراء دعمها للبارزاني، واتهمها بعدم المحافظة على السرية”.
وفي تشرين الثاني 1964م أعرب السفير الاسرائيلي في ايطاليا موريس فيشر – وهو ضابط الاتصالات الرئيسي مع الامير بدرخان – منذ بداية أربعينيات القرن العشرين عن تذمره جراء عدم تقديم اسرائيل الدعم الحقيقي للكرد. وقد بشره (الوف هروبن) بأن القضية الكردية تقف أمام تحول كبير بالنسبة لاسرائيل. ولم يعلم هروبن أن الايرانيين الذين فاجأوا اسرائيل في كانون الثاني 1964م عندما طالبوها بتقديم العون للكرد، سيفاجئونها مرة أخرى في الرابع والعشرين من كانون الاول 1964م. ففي اليوم التالي أعلم رئيس السافاك الايراني (حسن باكراوان) اسرائيل أن الشخصية الكردية (عصمت شريف وانلي) ستوجه اليها بموافقة ايرانية، لقد وافق هذا الرجل الذي كان مقرباً جداً لكل من ابراهيم احمد وجلال الطالباني على الصعيدين الشخصي والفكري على العمل مع البارزاني. لقد تم اختياره عضواً في مجلس القيادة الاعلى للتمرد الكردي (= مجلس قيادة الثورة الكردي تأسس عام1964م)، وعين ممثلاً خاصاً للتمرد الكردي في الخارج، وناطقاً باسم البارزاني، وسكرتيراً عاماً للجنة الدفاع عن حقوق الكرد.
وعصمت شريف وانلي [ شخصية علمية وسياسية كردية، ولد في دمشق سنة 1924م، درس الإبتدائية والثانوية في دمشق سنة 1940م، وأسس مع بعض رفاقه نادي كردستان الرياضي في دمشق، يتقن العربية والإنكليزية والفرنسية والكردية، حصل على الليسانس في العلوم السياسية من جامعات فرنسا، وفي سنة 1948م سافر إلى سويسرا لإستكمال تعليمه العالي، ودرس الحقوق في جامعة لوزان السويسرية وحصل على شهادة الدكتوراة في العلوم السياسية، وحصل على شهادة الماجستير في التاريخ من جامعة جنيف السويسرية، وعمل أستاذاً في تاريخ كردستان في جامعة السوربون الفرنسية، وتزوج من إمرأة سويسرية ورزق منه بولد سماه ( سيامند)، وفي سنة 1956م قام هو ورفاقه بتأسيس جمعية الطلبة الأكراد في أوربا وترأس الجمعية لغاية 1962م، بعدها حصل على شهادة الدكتوراة من جامعة باريس حول أطروحته – ثورة كردستان العراق سنة 1970م ، وفي سنة 1985م قام هو ورفاقه بتأسيس (إتحاد الحقوقيين الكرد في أوروبا)، وفي سنة 1995م أصبح رئيساً للمعهد الكردي للأبحاث في برلين، وفي سنة 1976م جرت محاولة إغتيال فاشلة له من قبل نظام البعث العراقي في أوروبا، وصدر بحقه حكماً غيابياً بالإعدام من قبل الحزب البعث السوري في دمشق. ومن مؤلفاته نذكر: القضية القومية في تركيا، الكرد وكردستان، من مذكرات عصمت شريف وانلي، توفي في مدينة لوزان السويسرية بتاريخ 9 تشرين الثاني/ نوفمبر2011م].
وقد حل عصمت شريف وانلي ضيفاً على هروبن، وقد رافقه هروبن في الاجتماع الذي عقده مع رئيس الموساد مائيرعاميت، ونائبه يعقوب كروز، والمدير العام لوزارة الخارجية الاسرائيلية يعقوب لببي، ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية أهارون يريف، ومسؤول شعبة الشرق الاوسط في وزارة الخارجية عيزرا دنين وياعيل فرد، وقدم وانلي الى كل هؤلاء رسالة خاصة من البارزاني عينه فيها ناطقاً عاماً باسم التمرد(= الثورة) الكردي.
وخلال تلك الاجتماعات أعلم (وانلي) أن الامير بدرخان خرج من اللعبة) =أي لا يمثل بعد الآن الحركة الكردية)، وقال:” أن بدرخان الارستقراطي لا يصلح للعمل الفعلي، وأنه لم يعد يمثل أية جهة رسمية. وطرح وانلي مجموعة من المسائل التي ستبقى طي الكتمان حتى الان، ورغم السنوات الطويلة التي مرت منذ طرحها”. ينظر: المرجع السابق، ص
ولكن بعد سنة من قيام العلاقات الكردية – الإسرائيلية رسمياً عام 1964م، فان الزعيم الكردي الملا مصطفى البارزاني أخذ يتوجس من تمثيل كاميران بدرخان له عند الجانب الإسرائيلي لاسباب غير واضحة؟، لا سيما وأن بدرخان ينتمي الى عائلة كردية ارستقراطية؛ لذلك بدل الملا مصطفى البارزاني ممثله مع الجانب الاسرائيلي من الأمير كاميران بدرخان الى شخص كردي سوري يعيش في مدينة لوزان السويسرية يدعى: عصمت شريف وانلي (1924-2011م) يرجع بأصوله الى مدينة وان التركية.
وفي أعقاب الزيارة التي قام بها والمسائل التي طرحها، بدأت الاجهزة الاسرائيلية بالعمل بسرعة. وقام الموساد باعداد قائمة بالاسلحة التي طلبها (وانلي) وجرت الاستعدادات لنقلها الى طهران ومن هناك الى كردستان. وفي اطار المساعدات الاعلامية، تم اعداد كراسة اعلامية في اسرائيل وتوزيعها في شتى أنحاء العالم.
واقترح الطاقم الاسرائيلي المذكور على وانلي، أن يقوم بتشكيل طاقم كردي خاص لارساله الى الولايات المتحدة، للعمل على الحصول على دعم سياسي ومادي وقيل له أن اسرائيل ستكون على استعداد لتحمل العبء المالي لارسال هذ الطاقم.
كان المال دائماً وأبداً، يعتبر بالنسبة للاكراد مسألة شديدة الاهمية، تبلغ حد الحكم بالوجود واللاوجود. وفي المقالة التي كتبها الصحفي الامريكي الشهير جاك أندرسون(1922-2005م)، وهو يعتمد كثيراً على مصادر استخباراتية في السابع عشر من ايلول 1972 في صحيفة واشنطن بوست:” يقوم مبعوث اسرائيلي بالتسلل من ايران الى كردستان شهرياً حاملاً معه مبلغ خمسين الف دولار الى البرزاني، وهو نصيب اسرائيل في دعم التمرد الكردي. ومن الجدير بالذكر أن رئيس الحكومة مناحيم بيغن أكد في التاسع والعشرين من ايلول 1980م، في لقاء مع الهيئة التدريسية في مدرسة الجنود في مستعمرة (جفعات أولغا):” أن اسرائيل ساعدت الاكراد اضافة الى الاسلحة والمال والتدريبات وتبادل المعلومات. ينظر: الموساد في العراق، المرجع السابق، ص116 – 117؛ صحيفة معاريف الاسرائيلية في30/9/1980م.
وأخيراً يذكر المؤرخ البريطاني ديفيد مكدول ما يلي: ” ومن الواضح أن البدرخانيين لم يتخلوا عن توقهم إلى الاستقلال الكردي. فبينما تورطت سورية العربية في الحرب العربية – الإسرائيلية الأولى عام 1948م؛ كان كاميران عالي بدرخان، شقيق جلادت بدرخان، في باريس كممثل للحركة القومية الكردية في أوروبا، ولكنه كان في قائمة من يتقاضون رواتب من الاستخبارات الإسرائيلية “. ينظر: تاريخ الأكراد الحديث، ترجمة: راج آل محمود، دار الفارابي، بيروت، ص 699-700.