وكان شاه ايران محمد رضا بهلوي قد عرض على الامير الكردي كاميران بدرخان السكن في ايران والعمل خلالها ، جاء ذلك خلال مقابلته له في شهر ايلول/سبتمبر عام1958م، مقابل اقتراحات الامير حول الحفاظ على التراث والحضارة الكردية في أوساط الكرد الايرانيين، وتعيين موظفين رفيعي المستوى في كردستان الشرقية (= كردستان إيران)، بالاضافة الى مواد ثقافية اخرى تخدم الثقافة والتراث الكرديين؛ مقابل دعم الامير بدرخان لنظامه الذي يعد نفسه (آريا مهر)، أي شمس الآريين، وكان الكُرد من ضمن هذه الاسرة الآرية الكبيرة.
ومن جانبه فقد عرض الجنرال تيمور بختياري رئيس جهاز السافاك على الامير بدرخان نفس مقترحات الشاه المارة الذكر، لقاء البقاء في ايران والعمل من خلالها. لأن الشاه وأركان نظامه كانوا يتوجسون من عودة الزعيم الكردي ملا مصطفى البارزاني الى العراق، لا سيما وأن بعض أهداف الشعب الكردي في العرق قد تحققت عملياً في المرحلة الاولى بفضل النظام الجمهوري الجديد.
وفي البداية وافق الامير على مسودة المقترحات التي قدمها الشاه وجهاز مخابراته، ولكنه اشترط أن يسمح له بإصدار صحيفة باللغة الكردية تصدر في طهران يتم توزيعها في جميع اجزاء كردستان الإيرانية، وفتح مدارس إبتدائية في كردستان الايرانية تُدَرس باللغة الكُردية، وتعيين حكام المقاطعات والموظفين على مستويات مختلفة من أصلٍ كُرديٍ؛ من أجل تعبئة ولاء الجماهير الكردية وتعزيز إخلاصها للتاج الامبراطوري الايراني.
وقد رد الشاه الايراني على هذه المطالب بالقول: ” سندرس هذه المسائل وسنرد عليها قريباً، بيد أنه لم يستجب لأي من تلك المطالب، مثلما كان متوقعاً سابقاً”.
لقد رفض الامير بدرخان مقترحات الشاه ، جاء ذلك من خلال إحدى لقاءاته مع ممثل الموساد الاسرائيلي في باريس بن ديفيد، بالقول:”… لو أنني استجبت للمطلب الايراني بالانتقال للعيش في إيران لتحولت الى رهينة في أيديهم، ولكانوا لوحوا بي في كل مرة تثار مشكلة الاكراد، وكأنهم استجابوا بذلك لجميع مطالبنا، وعندما تهدأ الاوضاع الكردية، كانوا ستخلصون مني بطريقة أو بأخرى، ولا شك أنهم كانوا سيجعلونني استبدل غرفتي في حرم الجامعة بنزنزنة في أحد سجونهم”. ينظر: نكديمون، الموساد في العراق، ص60.
وكان كاميران بدرخان قد تزوج من فتاة بولندية (= ناتاشا) أصغر منه بكثير، من عائلة ثرية للغاية، بيد أنها فقدت كل ثروتها في أعقاب تسلم الشيوعيين حكم بولندة(= بولونيا)، وهاجرت إلى باريس ودرست في السوربون، وحين تزوجت من بدرخان تعلمت اللغة الكردية، وأهدت لعريسها مزرعة واسعة على بعد 80 كم من باريس ورثتها من والدها، وحين حاولت المخابرات الايرانية(= السافاك) إقناعه بالذهاب والعيش في إيران عرضوا عليه شراء الأرض بمليون دولار أي عشرة أضعاف ثمنها الحقيقي، لكنه رفض، ومع ذلك استمرت اتصالات بدرخان مع السافاك .
ووجد بدرخان شريكاً له في أفكاره وآراءه وهو السيد (سامي الصلح) رئيس وزراء لبنان الاسبق الذي أطيح به في حزيران/يونيو 1958م، وأخذ يفتش عن وسائل تعيده إلى الحكم، وكان يسعى إلى تشكيل اتحاد فيدرالي يضم: لبنان، سوريا، العراق، ومن ثم تضم كردستان، والحجاز، واليمن، وتركيا، وإيران، ومن ثم تضم إسرائيل. وكان بدرخان يسعى من جانبه ايضاً إلى إلغاء الجامعة العربية واستبدالها بالجامعة الشرق أوسطية التي تنمي التفاعل المشترك بين مختلف الأديان في المنطقة، من أجل الاندماج بين دول الشرق الأوسط، واندماج الكُرد في هذا الكيان الجديد .
وعندما عرض بدرخان الفكرة على الجانب الاسرائيلي، لم يلق الجواب الشافي منهم، على أساس أن نجاح هذه الخطة المغامرة ليس مضموناً أبداً، وإن إسرائيل ستكون بعيدة على الهامش توجه بعدها بدرخان الى نائب رئيس جهز السافاك(حسن بكراوان)، وطلب منه المبلغ اللازم لدعم مبادرة الرئيس سامي الصلح ، ومنها توجه الى العراق واجتمع مع الملا مصطفى البارزاني، واطلعه على المبادرة التي باركها البارزاني، مثلما يبارك كل خطة تضمن أكثر من الحكم الذاتي للكرد، بعدها اجتمع مع عبدالكريم قاسم وطرح الخطة أمامه، غير أنه خرج من المقابلة صفر اليدين.
ورغم ذلك فإن بدرخان لم يقطع صلته بالسافاك الايراني، بل جعلها كشعرة معاوية، يستند عايها، على أمل أن تساعد محاولاته الرامية في مساعدة الثورات الجديدة في الشرق الاوسط، في تحقيق الخير والرفاهية لشعبه الكردي.
ومن الواضح ان هذه الفترة 1948-1949م، شهدت نشاطاً واسعاً للاكراد على الصعيد الدولي، وتشير احدى وثائق وزارة الخارجية الاسرائيلية الى أن يد اسرائيل كانت وراء هذا النشاط واشتملت هذه النشاطات على اتصالات في الامم المتحدة ونشر العديد من المقالات في صحف عديدة في شتى أنحاء العالم، واقرار اللغة الكردية في مدرسة اللغات الشرقية في باريس للتي تأسست في عام 1914م، و تغير اسم مدرسة اللغات الشرقية ليصبح المدرسة الوطنية للغات الشرقية الحيّة، و في عام 1970م تمّ التصويت على ربط هذه المدرسة بجامعة السوربون، وفي عام 1971 أصبح اسمها المعهد الوطني لللغات و الحضارات الشرقيةINALCO) ) و مازال قائما حتى الآن . وكان الدكتور كاميران بدرخان أحد اساتذتها بعد مغادرته الى باريس عام 1947م قادماً من بيروت، فضلا عن انشاء مركز ابحاث كردي في باريس، واصدار قاموس كردي – فرنسي، وكتاب تعليمي حول الكرد باشراف الدكتور كاميران، علماً أن القسم الكردي هو كفرع في المدرسة الوطنية اللغات الشرقية الحية في جامعة السوربون، وتمّ إفتتاحه في عام1945م برئاسة المستشرق الفرنسي روجيه ليسكوت، وتلاه الأمير كاميران بدرخان في منصبه من عام 1947م لغاية عام 1970م، ومن ثمّ تولّت إدارته البروفيسورة جويس بلو (= 1932م-؟) وهي مصرية من أصل يهودي، تم طردها من مصر عام1955م، وهي عالمة لغوية مختصة باللغات الشرقية أو بالاحرى اللغة الكردية من مواليد القاهرة عام 1932م تقيم في فرنسا منذ 1955م. وهي مصرية من أصل يهودي، حتى تقاعدها سنة 2000م، فقد تم استبعادها من مصر اجباريا بسب كونها يهودية أولا، ومن ثم انخراطها في صفوف الحزب الشيوعي المصري بقيادة اليهودي المصري هنري كورييل (1914-1978م) الذي كان النظام يعتبره تهديدا له وخصوصا أنها كنت ناشطة شيوعية فعالة في وقتها، وكان العدوان الثلاثي على وشك الوقوع عام1956م، لذا ففي العام 1955م وصلت جويس بلو الى فرنسا بوضع صعب جدا ماديا ومعنويا، ولحسن الحظ كان لديها أصدقاء ساعدوها حين ذاك ، فبمجرد وصولها سجلت نفسها في معهد اللغات والحضارات الشرقية لدراسة اللغة العربية، فقد كان طموحها أن تصبح استاذة في اللغة العربية، ولكن القدر خبأ لها شيئاً آخر وهو أنها أصبحت استاذة في اللغة الكردية.
ومن جانب آخر كان هنري كورييل يقود المجموعة الشيوعية المصرية و كانت جويس بلو عضوة فيها وطرد كورییل من مصر، ومع اطراد نجاحات كورییل في الاستقطاب والتجنید والاختراق، أصبح أكثر جرأة وإقداما، وقل حذره من متابعة الشرطة له، وأخذ یتلاقى مع بعض رؤوس الحركة الصھیونیة الذین كانوا یقیمون بمصر… وبدأت السلطات المصریة تتنبه إلى تلك اللقاءات، وألقت القبض على بعض اليهود المتعاونین مع كورییل، وزجت بھم في السجون، ثم أفرج عنھم تنفیذا لشروط ھدنة رودس عام1949م، على أن یغادر الشیوعیون الیھود أرض مصر إلى إسرائيل، وكان كورییل مصمما على أن یبقى بمصر لینشئ بھا فرعا لمنظمة السلام العالمیة، وكان یظن أن الحركة الصھیونیة قادرة على قھر الحكومة المصریة وإجبارھا على إبقائھم بمصر، ولكن ألغي جواز سفره، وتم نقله في عربة مصفحة إلى محطة مصر للسكة الحدید (باب الحدید)، ومنھا تم نقله بالقطار المتجه إلى بورسعید في سریة بالغة حیث أجبر على مغادرة البلاد على ظھر الباخرة سوریناتو بعد أن زوده قنصل إیطالیا في بورسعید – بالتنسیق مع السلطات المصریة – بوثیقة سفر إلى إسرائيل، ومن إسرائیل غادر إلى فرنسا وھناك لحقت به في باریس مجموعة الشیوعیین المصریین الیھود الذین ھاجروا إلى إسرائیل، وھكذا تجمعوا حول ھنري كورییل وكونوا في عام 1951م ما سمي بمجموعة روما من خمسین شیوعیا مصریا تحت قیادة كورییل وزوجته، وأصدروا نشرة (أخبار مصر) باللغة الفرنسیة، وخصصوا مساعدات مالیة لحركة حدتو بمصر، مع مواصلة توجیھھا آیدیولوجیا وسیاسیا. واتصلت مراسلات ھنري كورییل ومجموعة روما بباریس بالحركة الشیوعیة المصریة ، وكوادر حركة حدتو(= الحزب الشيوعي المصري)… وكان یعطي توجیھاته وملاحظاته إلى زوجته، التي كانت بدورھا تكتبھا على الآلة الكاتبة باللغة الفرنسیة وتحتفظ بھا في الأرشیف الخاص بمجموعة روما، وكانت تقوم مرة ثانیة بكتابتھا بالحبر السري لكي ترسل إلى مصر مع أحد كوادر (حدتو)، أو مع أحد الأفراد الذین یوثق بھم من بین المسافرین إلى مصر، أو مع رسل یوفدون خصیصا لھذه المھمة مثل (جویس بلو)، وھي یھودیة، والدھا من أصل روماني، وأمھا من أصل تونسي، أقامت أسرتھا في مصر منذ نھایة القرن التاسع عشر، والتي كان ھنري یحملھا رسائل خاصة لحدتو في الفترة اللاحقة، واستمرت تعمل في خط الاتصال(بوسطجي) فیما بین القاھرة وباریس، ثم ما لبثت أن وقعت في أیدي البولیس في عام 1954م وقضت عدة أشھر بسجن القلعة، ثم أفرج عنھا النظام فیما بعد بضغوط دولیة وربما محلیة أیضا. ينظر: الـحـزب الـشـیـوعـي الـمصـري في دائرة الضوء،سامي عطا حسن الجیتاوي، في 2020/5/6.
وعلى أية حال فإن الناشط اليهودي المصري (هنري كورييل) هو الذي قاد (جويس بلو) نحو القضية الكردية، وكانت المجموعة التي يقودها هنري كورييل تساعد عددا من الحركات القومية، وضمن إطار هذه النشاطات النضالية التقت جويس بلو بالامير كاميران بدرخان باعترافها هي، لذا لا يستبعد دور المخابرات الاسرائيلية في هذا التعارف؛ لأنها كانت القاسم المشترك بين الجانبين كما مر آنفاً.