في 27-1-1969 تم اعدام اربعة عشر شخصاً منهم تسعة يهود عراقيين في بغداد وفي البصرة في آنٍ واحد، بتهمة التجسس لصالح إسرائيل، وتم تعليق جثثهم في ساحة التحرير في بغداد وساحة البروم في البصرة، وتم الإعلان عن يوم عطلة، وهال اليهود المنظر المخيف الذي يبعث القشعريرة في ابدانهم وهم ينظرون الى جثثهم المعلقة، في حين خرج الناس يحتفلون بهذا الحدث مصطحبين معهم طعامهم للاستمتاع بمنظر المعدومين شنقا حتى الموت شماتةً.
بدأ اليهود بالتفكير بالخروج من العراق بأي طريقة ممكنة واستطاع العديد الهروب بطرق مختلفة الى ايران. وبعد ان أفلح الكثير في الهروب أعلنت الحكومة السماح لليهود بالحصول على جوازات السفرخارج العراق بدون عودة. بعد المشاهد المفجعة في ساحة التحرير،” تمنيت أمرا واحدا فقط، أن تحترق بغداد بعد هروبنا”، بهذه الكلمات الصريحة خاطبت العراقية اليهودية (ليندا عبد العزيز مينوحين) نفسها بعد قيام الحكومة العراقية بإعدام 9 مواطنين يهود عام 1969م، وسط جمهرة من المتشفين في العاصمة بغداد، بتهمة التجسس لصالح إسرائيل. وبعد مرورعام واحد تقريبا على ذلك المشهد المريع، وجدت ليندا نفسها متنكرة بعباءة سوداء لتصرف عنها أنظار نقاط التفتيش الكثيفة التي تستوقف سيارة الأكراد المكلفة بمهمة تهريبها هي وشقيقها إلى خارج العراق، في رحلة انتهت بهما في إسرائيل. ينظر: المصطفى نجار، قصة اليهودي العراقي الذي اختفى من بغداد، جريدة الشرق الاوسط، الأربعاء – 20 جمادى الأولى 1436هـ – 11 مارس 2015م.
كان الوقت ملائماً جداً لتخليص آخر يهود العراق، الذين بلغ عددهم حوالي ثلاثة آلاف نسمة، والذين كان وضعهم بائساً للغاية، وخصوصاً في أعقاب حرب 1967م، حيث تعرضوا للملاحقة، وقامت الحكومة باقالة جميع اليهود العاملين في الاطر والوزارات الحكومية ثم تمت أيضاً اقالة جميع اليهود العاملين في القطاعات الخاصة. وحظرت الحكومة على اليهود بيع أو شراء أو تأجير عقارات ثابتة، أو تسجيل أو نقل ملكية أية ممتلكات، وأمرا البنوك والجهات المالية الاخرى بعدم دفع أكثر من مائة دينار شهرياً، ولم يسمح للمحامين والاطباء اليهود بمعالجة أي شخص غير يهودي. ووضعوا تحت الاقامات الجبرية في مناطقهم السكنية، وقطعت جميع الهواتف في منازلهم وعياداتهم وأماكن عملهم، وأغلقت جميع المنتديات في وجوههم، وتم اعتقال الشخصيات البارزة منهم ومحاكمتها وتعذيبها. وصودرت الاماكن اليهودية المقدسة، الامر الذي جعل الكثيرين منهم بلا مصدر رزق، وواجه العمال اليهود وأصحاب الأعمال من غير اليهود الذين يشغلون اليهود، حملة ارهاب وتعذيب جسدي، بل وشرعت الحكومة في اعداد مركز لتجميع اليهود في بلدة بعكوية(= الصحيح مدينة بعقوبة) الصغيرة القريبة من بغداد. أجبرت هذه الحملة الكثيرين من اليهود على البقاء في منازلهم، وعدم الخروج الى الاماكن العامة. الموساد في العراق، ص253.
وأصبح واثقاً للجميع أن انقاذ بواقي اليهود في العراق لا يمكن أن يتم إلا عبر المناطق الكردية القريبة من الحدود الايرانية. وأدى هدوء القتال الى تخفيف القيود التي كانت مفروضة على الوصول الى الطرقات المؤدية الى المناطق الكردية، رغم أن مجرد الخروج من الاماكن السكنية اليهودية كان أيضاً بمثابة انتهاك للقانون. وكان من المفروض أن يتوجه الراغبون في الفرار الى المناطق الكردية التي تستخدم كمناطق استجمام، والتي تبدو بريئة في مظهرها، والتي أحب الكثير من العراقيين التوجه إليها خلال الصيف، مثل: منطقة صلاح الدين (= مصيف صلاح الدين، ومصيف سرى رش)، وشقلاوة، ودربند (= رايات)، ومن هناك تصبح الطريق الى الحدود الايرانية قصيرة.
ويعد الصناعي اليهودي العراقي(ماكس فؤاد سودائي) أول الهاربين اليهود الى ايران عبر كردستان، وقد ألف كتاباً بهذا الخصوص تحت عنوان (الجميع بانتظار حبل المشنقة)، الذي صدر في عام 1974 ثم طُبع ثانية في 2011، كُتب الكتاب بأسلوب يوميات دوّنها فؤاد في فترة ثلاث سنوات – من 15 أيار 1967 (قبيل حرب حزيران) والى وصوله إلى إيطاليا في 17 آب 1970. جاء فيه أن الحياة آنذاك في العراق في أواخرستينيات القرن العشرين تشبه أيام بومباي(= الصحيح القائد الروماني بومبي)الاخيرة.
وبومبي [هو بومبيوس بن القائد الكبير جاليونيوس بومينيوس الذي قاد الحرب في إيطاليا، وقد شارك ابنه بومبيوس في هذه الحرب الكبير، ولد عام 106 ق.م في روما وقتل عام 46 ق.م في الفرما المصرية على يد مستشاري الفرعون المصري، أحد القادة العسكريين الذين برزوا في اواخر عصر الجمهورية الرومانية وهو ينحدر من اسره رومانيه عريقة. زحف الرومان بقيادة بومبي على فلسطين سنة 63 ق.م، وحاصروا القدس، لكن المدينة التي استعصت على الآشوريين من قبل لم تكن فريسة سهلة، فقد اشتهرت طوال تاريخها بمناعة أسوارها، وقوة دفاعاتها، ومعاونة موقعها وظروفها الطبيعية لمن فيها على الدفاع عنها.. ومع أنه كان متوقعا بقوة أن تسقط القدس بصورة طبيعية في يد بومبي، لو اتبع في حصارها سياسة النَفَس الطويل، إلا أن الخيانة عجّلت بالقضية، فاقتحمها الرومان بخيانة داخلية من بعض اليهود.. ودنس بومبي بيت العبادة في أورشليم، وأفقد اليهود استقلالهم؛ إذ ترك هركانوس كاهنا فقط على قومه، يرعى شؤونهم الدينية، وبقيت حامية رومانية في المدينة تضمن بقاءها تابعة لروما. ينظر:عبد الحميد زايد، القدس الخالدة، ص 145 وما بعدها؛ وهامرتن وآخرون، تاريخ العالم، الفصل 69، ص 655.
وأول محاولة للصناعي اليهودي الفرار من العراق الى إيران جرت في السابع والعشرين من شهر آذار عام1970، وشق طريقه عبر: أربيل- مصيف صلاح الدين – شقلاوة – الحاج عمران، ولكنه فشل في مسعاه فعاد الى بغداد بخفي حنين، ولكنه نجح في مسعاه في المرة الثانية في التاسع من حزيران عام1970م عن طريق الاستعانة ب آغا كردي من المناوئين للبارزاني، ونجح اليهودي في مسعاه بعد أن دفع لللآغا الكردي مبلغ الف دينارعراقي، واستطاع الوصول مع أفراد عائلته الى الحاج عمران عن طريق: مصيف صلاح الدين – شقلاوة – حرير- شلال كلي علي بك بواسطة السيارات، ومنها عن طريق المشي الى الحاج عمران والحدود الايرانية عن طريق الركوب على البغال، حيث وصلوا الى الحدود الايرانية بمشقة كبيرة في الخامس عشر من حزيران، ومن إيران توجهوا الى إيطاليا، ومن هناك الى بريطانيا حيث استقر هناك. وشجع فرار سودائي العديد من اليهود الآخرين على الفرار من العراق، وجاءت أول جولة من جولات الهروب الكبير لليهود بالاستعانة بالاكراد خلال شهري تموز وآب 1970، ووصلت ذروتها خلال شهري ايلول وتشرين الاول من نفس العام حيث اجتاز الحدود الايرانية حوالي خمسين يهودياً في المتوسط. الموساد في العراق، المرجع السابق، ص254-255.
وبهذا الصدد يذكر الباحث الاسرائيلي من أصولٍ عراقية ( خضر سليم البصون) أن :” فؤاد وعائلته كانوا أوائل من هربوا من العراق في صيف 1970،عن طريق الشمال إلى ايران، وبمساعدة مهربين أكراد، هروب فؤاد وعائلته بالرغم من الأخطار والمشقات التي عانوها أعطت الأمل للكثير من يهود العراق أن يحذوا حذوهم. ينظر: ذكرى إعدام يهود عراقيين في بغداد والبصرة، موقع إيلاف، في27/1/2015.
وفي شهر ايلول عام1970 تم العثور على (250) يهودياً في كردستان العراق، وفي الرابع عشر من الشهر نفسه القت الشرطة العراقية في مصيفي شقلاوة وصلاح الدين القبض على (137) يهودياً، وذلك في أعقاب وفاة أحد الفارين إبان تناول وجبة عشاء، مما اضطر السكان المحليين الى اخبار الشرطة، التي اكتشفت اليهود الفارين وأعادتهم الى بغداد، حيث تم اعتقالهم في محراب البهائيين الذي كان يستخدم كقر للمخابرات العراقية. وطولبوا بايداع (500) دينار لكل فرد كي لا يحاول الفرار من جديد. وكان من نتائج هذه العملية أن توقفت عمليات الفرار الثانية؛ ولكن الى حين، حيث بدأت من جديد في منتصف كانون الاول عام 1970 وحتى شهر شباط عام1971م.
وفي شهر نيسان 1971 أعلنت الحكومة العراقية عن اعتقال مجموعتين من اليهود الفارين يبلغ عدد كل مجموعة ستة عشر شخصاً، وقدج اتهم قسم بالتهريب نتيجة العثور على (350) جنيهاً ذهبياً، وسبعة وثلاثين ألف دينار في حوائجهم. وينقل الصحفي الاسرائيلي شلومو نكديمون عن أحد أعضاء المجموعتين المدعو (سمير شم طوف) قوله:” إن وسطاء يهود قاموا بتخليصهم من العراق مقابل مبلغ يتراوح بين 300-400 دينار( للرأس الواحد – الفرد الواحد) وأخذوا تلك الاموال لجيوبهم، نعم لقد خاننا اليهود أنفسهم. ويضيف… لقد أخذ اليهود المذكورين وأحدهم يعمل طبيب أسنان معروف في إسرائيل المبالغ المطلوبة، وسلمونا الى أشخاص لايصالنا الى الحاج عمران ومن هناك الى الحدود الايرانية، وسرعان ما اتضح أن هؤلاء الاشخاص مهربون، وفي الطريق حاولوا اغتصاب أختي وأمي وامرأتيين أخريين كانت ضمن الجماعة، ولن أنسى ما حييت منظر أبي وهو راكع على ركبتيه يتوسل إليهم أن لا يغتصوبهن، وفي النهاية قبلوا أن لا يغتصوبهن مقابل أن نمنحهم ساعاتنا”. الموساد في العراق، المرجع السابق، ص256.
وفي المقالة التي كتبها الصحفي الامريكي جاك أندرسون (1935-؟) في جريدة الواشنطن بوست في السابع عشر من ايلول 1972، قال:” إن رئيس الموساد (زامير) طرح فكرة مساعدة يهود العراق على الفرار من العراق على البارزاني (= الملا مصطفى)”، جاء ذلك على هامش زيارة رئيس الموساد تسفي زامير(1968-1973م) الى كردستان العراق بصحبة رئيس شعبة (تيبل- العالم) ناحوم أدموني، وهي إحدى شُعَب الموساد التي تعالج القضايا العالمية، مثل العلاقات غير الرسمية مع الدول العربية والأجنبية التي لا تقيم علاقات دبلوماسية رسمية مع إسرائيل في نهاية شهر إيلول عام1971م. ينظر: زهيرأندراوس، الموساد: علاقات الصداقة مع الشخصيات السعوديّة بدأت في الستينيات، موقع شبكة نوى، في 19/3/2016.
وتقول جهات مقربة من البارزاني:” أنه كان متحمساً للفكرة، لأن اليهود فعلوا شيئاً من أجلنا، وكانت عملية الفرار مرتبطة بتعريض أكراد للخطر، وقد تابع البرزاني وأبناؤه عمليت فرار اليهود بأنفسهم. ويقول حاييم ليفكوف في هذا الصدد:” قال لي البرزاني في إحدى جلساتنا: لقد كنتُ السبب في مقتل العديد من الا شخاص، سواءً أثناء المعارك أو بالامراض أو غيره، لكن نحن نعيش ثورة، وهذه هي حياتنا. وبالامس شعرتُ أن قسماً كبيراً من أخطائي قد غُفِر. فقد جاءت إليَ إحدى اليهوديات الفارات، وقالت لي: لقد شنف العراقيون زوجين وها أنا وأولادي نتمكن من الفرار بفضلك. وحينها شعرت بالدموع تملأ عيني، وإن قسماً من أخطائي قد غُفِرَت”. وهذا ما جعل شلومو نكديمون يصرح القول بالتحديد :” كان البارزاني فخوراً بعملية فراراليهود من العراق “. نقلاً عن الموساد في العراق، المرجع السابق، ص256.
وعلى الصعيد نفسه فقد صدر في الآونة الاخيرة كتاب في إسرائيل يتمحور حول تفاصيل دور الكرد العراقيين في تهجير يهود العراق لإسرائيل عبر إيران بداية سبعينيات القرن الماضي، وفي كتاب (عالم بأكمله – قصة رجل الموساد)، قال (مناحيم ناحيك نفوت) نائب رئيس الموساد الأسبق، والذي خدم في ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، إنه تولى إرساء أواصر التحالف بين إسرائيل وأكراد العراق منذ العام 1969م. وذكر نفوت أنه بعد تعيينه كمدير لمكتب الموساد في طهران عام 1969م، عمل على الاتصال بقادة الأكراد في شمال العراق الذين ساعدوا في نقل يهود العراق إلى إسرائيل، وأضاف: “لقد زودنا أصدقاءنا الأكرد بعناوين العائلات اليهودية في بغداد ومدن عراقية أخرى، حيث وصل الأكراد لهذه العائلات وأبلغوها بضرورة الاستعداد للمغادرة”. وبحسب نفوت، فقد قام الأكراد بنقل العائلات اليهودية في جيبات إلى الحدود العراقية الإيرانية، ومن ثم إلى داخل إيران ومنها إلى إسرائيل. ينظر: صالح النعامي، قائد في الموساد: الأكراد ساعدوا بتهجير يهود العراق لإسرائيل، في25 ابريل 2015.