23 ديسمبر، 2024 10:11 ص

الامام موسى الكاظم (ع) ..عنوانا للصبر ورمزا للعطاء

الامام موسى الكاظم (ع) ..عنوانا للصبر ورمزا للعطاء

تميزت الفترة التاريخية التي عاصرت امامة موسى الكاظم (ع) والتي امتدت لخمسة وثلاثون سنة .. بأنها شهدت منعطفات كبيرة وخطيرة عاشتها الامة الاسلامية على المستويين السياسي والعقائدي ..فقد كان الصراع محتدم وعلى اشده داخل الاسرة العباسية من اجل تثبيت دعائم الخلافة لابناء ابو جعفر المنصور وتنحية الفرع الاخر من الاسرة  المتمثل بعبد الله بن علي وعيسى بن موسى الذي كان ولي عهد المنصور وفي الجانب الاخر السعي للقضاء على التهديد الاسرة العلوية المتمثلة بعبد الله ابن الحسن المثنى واولاده الذين كانوا يسعون للاطاحة بالحكم العباسي واعادته الى الاسرة العلوية فرع الامام الحسن (ع)..وقد تمثل هذا التوجه بالثورة التي قادها محمد بن عبد الله الملقب (محمد النفس الزكية) على ابي جعفر المنصور سنة 145 هجرية ومقتله بالحجاز ..وقد عمدت الخلافة العباسية الى محاولة ابادة نسل العلويين من الوجود كونها تدرك احقية اهل هذا البيت بالخلافة وخصوصا بان ثورة العباسية على  بني امية قد رفعت شعار الثار لاهل بيت النبوة مما اكسبهم ود وتعاطف الناس معهم وبعد ان تنصلوا عن وعودهم لاهل البيت  واتضح للناس زيف ادعائهم عمدوا الى ازاحة هذا الخطر الذي يهدد وجودهم وسلطانهم ..اضافة الى وجود صراع خفي داخل اسرة المنصور نفسها تمثل  باغتيالات طالت ابنه الخليفة محمد المهدي الذي قتل مسموما والخليفة موسى الهادي الذي اغتيل على يد امه  الخزيران بنت عطاء والتي امرت احدى جواريها بخنقه وهو نائم لانه اراد تحويل ولاية العهد لابنه جعفر وخلع هارون الرشيد ..في ظل هذه الظروف المضطربة عاش الامام موسى الكاظم في مدينة جده رسول الله (ص)..محاولا ابعاد نفسه عن كل ما يحول بينه وبين التصدي لمهمة نشر علوم اهل البيت كونه امام زمانه والقيام بصلواته ونسكه ..لكن بالرغم من ذلك فقد بقيت انظار السلطة العباسية ترنو اليه خوفا من اي تحرك يبديه اتجاه كرسي الخلافة كونهم يدركون انه احق الناس به ..كما  يروي ابن كثير في كتابه البداية والنهاية الجزء السابع ..ان هارون الرشيد حج فلما دخل ليسلم على قبر رسول الله (ص) وكان معه الامام موسى الكاظم فقال االخليفة السلام عليك يا ابن عم فقال الامام الكاظم السلام عليك يا ابت ..عندها قال هارون الرشيد وهذا هو الفخر يا ابا الحسن ..ويعتقد ابن كثير ان هذه الحادثة هي السبب التي جعلت الرشيد يضمر العداوة للامام الكاظم ويقوم بسجنه ثم قتله .. وقد شكل الامام هاجس وخوف لخلفاء بني العباس منذ توليه مهام الامامة عندما كان في ريعان الشباب ولم يتجاوز عمره العشرين عام بعد وفاة ابيه الامام الصادق (ص) سنة 148 هجرية   حيث يروى ان اول من سعى الى سجنه ومحاولة قتله هو الخليفة المهدي الذي استدعاه  الى بغداد واجبره على الاقامة فيها  ليبقى تحت انظاره وفي رواية حبسه لفتره الى ان راى علي بن ابي طالب (ع)  في المنام يعاتبه فاطلق سراحة واعاده الى المدينة ..ومن يتتبع هذه الاحداث يجد ان اخفاء الامام الصادق خبر امامة موسى الكاظم الا لخاصته كانت تنبع من مخاوف حقيقية كان يدركها ويعيها جيدا حول مستقبل ومصير ولده  وحفاظا عليه من بطش السلطة العباسية اذا ما علمت بامامته بعد ابيه ..وقد شكل هذا التكتم نوع من الالتباس عند بعض الشيعة وجهلهم في معرفة من هو الامام بعد وفاة الصادق (ع) ..ونقسموا الى عدة فرق كما جاء في كتاب (الملل والنحل ) للشهرستاني ..فظهرت فرقة تدعى الاسماعيلية تؤمن بان الامامة قد انتقلت الى اسماعيل ابن الامام الصادق وفرقة اخرى سمو بالواقفة والذين توقفت عندهم الامامة بموت الصادق (ع) ..وهم  اتباع عجلان بن ناووس وادعوا ان الامام لم يمت وهو مهدي هذه الامة ..وفريق اخر عرفوا الافطحية نسبة الى عبد الله الافطح اكبر ولد الامام الصادق ..غير ان الامام الكاظم قد اجتمعت على امامته وجوه الشيعة ومتكلميهم وهم هشام بن سالم وهشام بن الحكم ومؤمن الطاق محمد بن علي ابن النعمان البجلي ..وهؤلاء هم اعيان وفقهاء الشيعة في زمانهم ..وقد روى الشيخ المفيد في كتابه (الارشاد)..عن عبد الاعلى بن الفيض قال (قلت لابي عبد الله الصادق (ع)..من لنا بعدك ؟..قال فدخل ابا ابراهيم موسى الكاظم وهو يومئذ غلام فقال هذا صاحبكم فتمسك به ) وكذلك روى الكليني في كتابه (الكافي) عن صفوان الجمال عن الامام الصادق قال له منصور بن حازم سائلا (بابي انت وامي ان الانفس ليغدى عليها ويراح فاذا كان ذلك فمن ..فقال الامام الصادق اذا كان ذلك فهو صاحبكم وضرب بيده على منكب ابي الحسن موسى الكاظم وهو يومها ابن خمس سنين ) ..وقد احيط الامام موسى الكاظم برعاية استثنائية من ابيه الامام الصادق  منذ ولادته في الابواء سنة 128 هجرية ..ويذكر عبد الله الشيرازي في كتابه (الاتحاف بحب الاشراف ) ان الامام الصادق قال ..(وددت ان ليس لي ولد غيره لئلا يشركه في حبي احد )..وكانت امه من البربر من شمال افريقيا وهي حميدة بنت صاعد الذي كان من اشراف البربر وهي جارية اشتراها الامام الصادق (ع) وتزوجها وقد قال فيها ..(حميدة مصفاة من الادناس كسبيكة الذهب )..وكان لهذا النسب الطاهر والنشئة العظيمة في احضان الامام الصادق صاحب اول مدرسة للفقه والحديث في الاسلام  والتي اقامها في مسجد رسول الله والتي خرجت مئات العلماء والفقهاء والمحدثين ..ان يكون لها الدور في بلورة شخصيته وصقلها فنشئ عالما عابدا زاهدا كريما كاظما لغيضه حتى لقب (راهب اهل البيت )..يقول فيه ابن عنبة صاحب كتاب (عمدة الطالب في انساب ابي طالب ) ..( كان اسود اللون عظيم الفعل رابط الجاش واسع العطاء لقب بالكاظم لكظمه الغيظ وحلمه وكان يخرج في الليل وفي كمه صرر من دراهم فيعطي من لقيه ومن اراد بره وكان يضرب المثل بصرة موسى الكاظم وكان اهله يقولون عجبا لمن جاءته صرة موسى فشكا القلة) ..وقال فيه ابن كثير (كان كثير العبادة والمروءة اذا بلغة احدا انه يؤذيه ارسل له بالذهب والتحف )..واما ابن حجر الهيثمي فقال فيه ..(هو وارث ابيه علما ومعرفة وكمالا وفضلا سمي بالكاظم لكثرة تجاوزه وحلمه وكان معروفا عند اهل العراق بباب قضاء الحوائج عند الله ..وكان اعبد اهل زمانه واعلمهم واسخاهم )..وعرف عن الامام الكاظم بانه اول من كتب في الفقه كما يقول محمد يوسف في كتابه (الفقه الاسلامي )..(نستطيع ان نقول ان اول من كتب في الفقه هو الامام موسى الكاظم الذي مات سجينا عام 183 هجرية وكان ماكتبه اجابات عن مسائل وجهت اليه تحت اسم الحلال والحرام )…وقد روى عن الامام جملة من المحدثين والرواة منهم الخطيب البغدادي في كتابه تاريخ بغداد والعلامة السمعاني في كتابه الرسالة القوامية والثعلبي في الكشف والبيان ..وكان الامام احمد امام الحنابلة يقول اذا روى عنه (حدثني موسى بن جعفر عن ابيه الصادق عن ابيه الباقر عن ابيه السجاد عن الحسين بن علي عن ابيه عن رسول الله وهذا اسناد لو قرئ على مجنون لافاق )..ان سعة العلم هذه وزهده ونسبه الشريف وكرمه وعبادته المنقطعة النظير جعلته يشكل خطرا على الخلافة العباسية التي كانت تعيش هاجس السلطة والملك بقول هارون الابنه المامون بان (الملك عقيم ولو نافستني فيه لاخذت الذي فيه عينيك )..كل هذه الاسباب جعلت هارون العباسي يتحين الفرص للنيل من الامام  ..وقد عزى ابن حجر الهيثمي سبب سجنه من قبل الرشيد ..الى ان الرشيد لما حج سعى به اليه وقيل له :ان الاموال تحمل اليه من كل جانب فقبض عليه وانفذه لامير البصرة عيسى بن جعفر ثم كتب والي البصرة يستعفي الرشيد فيه وان لم يرسل لتسليمه اخلى سبيله فكتب هارون للسندي بن شاهك بتسلمه وامره فيه بامر فجعل له سما في رطب فتوعك ومات بعد ثلاثة ايام ..وفي سجنه بعث الامام رسالة الى هارون قال فيها ..(اما بعد انه لم ينقض علي يوم من البلاء الا انقضى عنك يوم من الرخاء حتى يفضي بنا الى يوم يخسر فيه المبطلون )..وقد قضى الامام (ع)..في اشهر الروايات ثلاثة عشر سنة في سجن الرشيد وعند مقتله مسموما شهد على جثته اعيان القوم والقيت على جسر بغداد كما ذكر ابو فرج الاصفهاني في كتابه مقاتل الطالبيين ..(ان الامام موسى الكاظم (ع) لما توفي مسموما ادخل عليه الفقهاء ووجوه اهل بغداد وفيهم الهيثم بن عدي وغيره ليشهدوا على انه مات حتف انفه دون فعل الرشيد وجلاوزته ولما شهدوا بذلك اخرج جثمانه ووضع على جسر بغداد ونودي بوفاته )..وقد اجمعت الروايات التاريخية على انه دفن في جانب الكرخ من بغداد في مقابر قريش ..ان هذا السفر الخالد من الصبر والزهد والعطاء الا محدود الذي بذله الامام موسى الكاظم في سبيل الله والانسانية هو الذي يدفع بملايين المحبين الزاحفين الى مشهده المبارك سيرا على الاقدام لاحياء ذكرى استشهاده واعلان مظلوميته الى العالم والتي هي عنوان عريض وكبير لكل مظطهديه ومظلوميه  على مر الازمنة ..وان الطامورة الظلماء التي اريد لها ان تكون سجنا له تحولت الى صرح عظيم يحج اليها الناس من كل حدب وصوب لتكون شاهدا على سمو ورفعة اهل هذا البيت وعلو شأنهم عند الله تعالى .