يتناول عالم الأجتماع العراقي المعروف الدكتور علي الوردي في كتابه دراسة في سوسيولوجيا الاسلام ما أسماه علي ومعضلة الأسلام. ناقش علي الوردي تحت هذا العنوان ما نسمعه كثيرا” من علماء دين ومثقفين حول امكانيات الامام علي السياسية وطرق تعامله مع ألازمات التي واجهت حكومته في الكوفة بعد مقتل عثمان ابن عفان في المدينة ومبايعته من الجماهير ليكون خليفة المسلمين. حيث ناقش رأي مؤسس علم الأجتماع الكبير أبن خلدون الذي بين في مقدمته ان سبب اختلاف الناس حول الأمام علي وكثرة الفتن أبان خلافته مصدره العصبية وروح القبلية التي كانت أقل حدة في عهدي أبا بكر وعمر, على أعتبار ان الناس كانوا ما زالوا تحت تأثير خوارق الأعجاز النبوي. هذا التأثير بدأ بالزوال مع مرور الزمن حتى طغت عليه العصبيه وروح القبلية في عهد الأمام علي حتى نسى المسلمون القيم الدينية العليا ولم يعد لضمير الديني قيمة تذكر. يسترسل علي الوردي في استعراض رأي ابن خلدون ليناقش فيما ناقشه موقف معاوية من الامام علي. في ضوء نظريته الأجتماعية يقف أبن خلدون موقفا” أيجابا” من معاوية. حيث يرى أبن خلدون أن معاوية لم يقاتل عليا” لمصالح دنيوية أو لدعم مصالح شخصية وانما لدوافع عصبية وقبلية كانت اقوى منه بحيث لو أن معاوية لم يقاتل الامام علي لقاتله غيره بسبب هذه الدوافع العصبيه والقبلية. هذا القتال بين ألامام علي ومعاوية المبني على أسس عصبية وقبلية لا على أسس دينية أو مصلحية, ادى الى أخفاق الأمام علي في خلافته كما يتصور الكثيرون. حيث يبين الدكتور علي الوردي ان أحمد أمين و أبن ابي الحديد اتفقا على ان احد أسباب أخفاق الأمام علي انه لم يكن بدهاء معاوية الذي استخدم أي وسيلة ممكنة للوصول الى غايته في حين أن الامام علي كان مثاليا” ويرفض المرواغة والمهادنة فيما يعتقده صحيحا”.
يتوصل الدكتور علي الوردي الى نتيجة ان سبب أخفاق الأمام علي في صراعه مع معاوية هو بسبب نوع الصراع . حيث ان الصراع كان صراعا” بين المثالية والواقعية حيث وقفت المثل الدينية ضد المصالح الدنيوية وجها لوجه. بهذا الأستنتاج لا يضع الدكتور علي الوري نفسه بالضد من نظرية أبن خلدون فحسب و أنما هو أيضا يضع أدارة الأمام علي التي يصفها بالمثالية في موقف لا تحسد عليه. ذلك بسبب أن منهج علي الوردي كما يخبرنا الدكتور حسين الهندواي هو بالضد من الفلسفة المثالية البعيدة عن الناس والمجتمع والمنشغلة بما يجب ان يكون لا ما هو كائن.
ولكن هنا يجب مراجعة مواقف المتحمسين لأتهام الامام علي بالاخفاق نتيجة لمثاليته وابتعاده عن الواقع. فما هذه المثالية التي يتكلمون عنها؟ وكيف كان من المفروض ان يتصرف الأمام علي ليتناغم مع الواقع؟
في عرض مبسط لكتابات المنتقدين يتبين لنا أن المثالية التي يراد لأمام علي ان يتركها ليكون سياسيا” بارعا” تؤهله لينتصر في حربة مع معاوية تتمثل في التنازل عن قراراته التي ساوى بها بين الناس على أختلافهم أصولهم وكذلك استباق معاوية كنوع من المحاصصة حتى تستقر الأمور له. أورد أبن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة بقوله ” كان علي بن أبي طالب: لا يفضل شريفا” على مشروف, ولا عربيا” على أعجمي, ولا يصانع الرؤساء وأمراء القبائل, فكان هذا السبب الأكيد في تقاعس العرب عنه!” ولكن لو فرضنا العكس وتناغم الأمام علي مع الواقع في وقته وفضل بعض الناس على الناس على أسس القومية والأسبقية والمراكز وأعطى معاوية الشام, فما كانت لتكون النتيجة على أرض الواقع؟ سيكون ألامام علي وحاشاه من ذلك مؤسس لنظام فاسد طبقي يشابه الى حد كبير نظام المحاصصة وأرضاء الجميع المتبع حاليا” في العراق ولبنان مثلا”. فهل هذا فعلا” ما يريده المنتقدون من الأمام علي؟ النظام العادل بغض النظر عن دينه ومثله, لا يمكن أن يكون أساسه الظلم والتمييز والمرواغة. الأمام علي حاول تأسيس منظومة عادلة ذات مبادئ واضحة ترفض التمييز الطبقي والأجتماعي وترفض المحاصصة. أمثال هذه المنظومة نجدها اليوم مطبقة في بعض الدول الناجحة وبالتالي هي ليست منظومة خيالية أو مثالية. لذا لم يخفق الامام علي في مشروعه وأنما أخفق من تقاعس عنه من العرب وغيرهم وانتهوا الى أحضان الدكتاتوريات الأموية والعباسية والعثمانية والعسكرية و المحاصصاتية في عصرنا الحاضر.
هذه الدكتاتوريات اتبعت بالضبط ما يريده المنتقدون من الامام علي. هذه الدكتاتوريات أتبعت كل السبل الأنتهازية أو الواقعية للأنتصار على أعدائها. هذا الأنتصار الواقعي المؤقت المزعوم لم ولن يبني دولة عادلة مطمئنة ينعم أهلها بالسلام كما كان ينشد الامام علي في مشروعه. لذلك العرب اليوم لو خيروا بين واقعية معاوية ومثالية علي, عليهم أن يختارو واقعيه علي لأنجاح ربيعهم العربي, حيث أن واقعية معاوية لم تجلب لهم سوى الويل والثبور. كذلك يتبين لنا من خلال هذا العرض ان اداء الحكومات العراقية بعد سقوط الصنم, أتبعت كل الاساليب الممكنة والانتهازية ما عدا أسلوب الامام علي.