من المفارقة بمكان أن نتحدث عن المقدس في المجال الدنيوي ونبحث عن المطلق حيث النسبي ونرهق أنفسنا بالتعلق بالعلو والسمو حيث موطن التغير والفساد والدنس. والدليل على ذلك أن البشر في حياتهم اليومية ينهمكون في تحصيل ملذاتهم وخيراتهم الجزئية ويصرفون جهودهم ويقضون أوقاتهم في حصد مصالحهم وترتيب أعمالهم ولا يكترثون بالتأمل الكوني والنظر في الأبعاد العميقة والعناصر الأولى ولا ينتبهوا ولو لبعض اللحظات لقيمة الدين ودور المعطيات الغيبية في علاقاتهم الدنيوية وأهمية القداسة والإلهي في وجودهم الزمني ومصيرهم الأخروي. أليست مدينة السماء هي النموذج الذي يجب أن تشيد على منوالها مدينة الأرض؟ أليس الله هو نصير الفقراء والضعفاء؟ هل هناك محكمة أكثر عدلا ومساواة من محكمة الله وميزان الكون؟
يختلف المقدس عن المدنس أو الدنيوي وفي لغة الضاد نجده رديف لكلمة الحرام وهي الحد الذي لا يمكن اختراقه والسلوك الذي لا ينبغي للمرء أن يأتيه والشيء الذي يجب للبشر أن يعظموه. ويعد المقدس مقولة أساسية من مقولات الشعور الديني ويمكن أن يقترن بالفطرة الطبيعية ويشير الى شيء غامض وسري وطاقة عجيبة وقدرة إعجازية يتسلح بها الناس عند الضرورة القصوى.
كما يمثل المقدس مجال للخشوع والورع والتبرك من جهة وسبب للهالة والارتياب والتوجس من جهة أخرى ويدخل النفس البشرية في نوع من التمزق بين الاعتقاد والارتياب والثقة والرعب.
تضع الشعوب من خلال المقدس ثقافتها الانسانية في الدين وتجعل من الدين الالهي ظاهرة بشرية وتمنحه مكانة يتفوق بها على المقولات والقيم والمعايير ويند عن كل نقاش كلامي ومجادلة عقلية ويكشف المقدس أيضا عن تعبيرات ملتبسة تتردد بين الطهارة والرجس وبين القداسة والدناسة ويضع أمام الانسان مجموعة من الأحكام والحدود ويسن جملة من الأوامر والنواهي تمثل مناطق الصمت والمنع والحظر وتكون مهمتها ترشيد أفعاله لفعل الخير النافع والابتعاد عن الشر الضار وتوجه سلوكاته نحو المجال المبال والحلال وتبعده عن المجال الحرام والمحظور والمكروه. هكذا يوجد المقدس في القمة ويمارس قوة عجيبة وينظر اليه الانسان بإجلال من الأسفل الى الأعلى حيث النور والهواء ويمارس العلو سحره وهيبته على الكائن الذي يعيش في الأسفل حيث الضلال والتراب. أما عن أماكن تواجد المقدس والأشياء التي ترمز اليه فتضم الأحجار والمياه والنار والتراب والنباتات والأشجار والأنهار والبحار والجبال والنجوم والكواكب والحيوانات والكلمات والأزمنة والمعابد والكهان من رجال الدين وأدوات الصلاة والتعبد والتضرع والدعاء.
من جهة ثانية ينبع الايمان الديني من الاعجاب بالعلو والإحساس بالقداسة وشعور الانسان بعرضية وجوده وضعفه أمام عظمة الكون وتناسق عناصره ودقة تصميمه وتعاقب فصوله.
ان العودة الى الالهي مره حيرة الروح البشرية وهشاشة الجسم واكتساب الكائن الآدمي حزمة من التجارب نتيجة الكدح اليومي في سبيل المحافظة على البقاء ومراكمته مجموعة من الحقائق المعرفية بحكم الاعتبار في الكون وتشغيل آلة الذكاء الاصطناعي التي تميزه عن بقية المخلوقات. بناء على ذلك حاز الانسان منذ البدء على وعي بالذات الالهية وأدرك حتمية تعلقه بالمقدس والانشداد الى المغيبات بالرغم من كثافتها وطابعها الملغز وتجلي الدنيويات وطابعها المغري وأبصر تناهي حياته الخاصة ووجوده بين هلالي الولادة والوفاة وحصار الزمن وقسوة الواقع ولذلك قرر مواجهة الوضعيات الصعبة التي تشكله وقهر النقائص والثغرات والتغلب على الذات. لقد كان المقدس هو الملاذ القوي والحصن المنيع الذي أخفى فيه ضعفه أمام الفناء وخوفه من الطبيعة ولقد جعل من الآلهة عونا له أمام مساحة الجهل وقلة الحيلة التي تحد من قدراته ونفوذه.
لكن هل ينحدر المقدس من انفعال الخوف والجهل بالأسباب أم من انبعاث نور الأمل وضياء الرجاء؟ ومتى يتحول الوعي الديني الى نقد للخرافة وتنوير للايمان التقليدي وعقلنة للاعتقاد؟
هذا الاحساس بالتعالي من طرف الوجدان البشري يفضي الى غرس نبتة الايمان في فؤاده ويجعل القلب يطمئن والنفس تنعم بالسكينة لما تتعلق بالمقدس وتميزه عن الدنيوي والمدنس.
بيد أن الثورات التي حدث في ميدان الأديان التوحيدية وظهور علم الكلام والتيولوجيا وغزو المنطق والفلسفة وعلوم الانسان الى مخبر الدراسات الايمانية قد ساعد على التوجه نحو مقدس علماني ومكن الانسان من التغلب على الأسرار ومنى فهم بشكل نسبي الرموز والقصص والحكايات وساعد على تقريب الايمان من الحياة ووضع تجربة الدين على محك التثبت العلمي.
في نهاية المطاف يمكن الاقرار بأن المقدس لا يتجلى للمرء الى في صورة نور رفاف وطاقة حيوية وقيمة اعتبارية وأن الطريق الموصل اليه هو تلاقي الذاتية والموضوعية وانتباه العلمنة الى ضرورة احترام المطلق والتساؤل أمام العجيب واستمعان اللامتناهي والدهشة من الوجود. لكن لماذا يؤدي التعلق بالمقدس الى ممارسة العنف؟ ومتى تسكن الحرية البيت الانسي المقدس؟
كاتب فلسفي