لست الوحيد من بين ملايين العراقيين ممن تعود على سماع مفهوم اخلاقي معين ورأى خلافه عند التطبيق، ففي كثير من الاحيان كنا نسمع من ابائنا ومعلمينا وشيوخنا وحكامنا ايضاً بان الاعتراف بالخطأ فضيلة، ولكننا تعودنا ان نرى فضيحة كل من اعترف بخطأ ما، سواء أقترفه او أتهم ظناً او يقيناً بارتكابه، ليتحمل وحدة “المخطئ او المذنب” اللوم والعتاب والتعنيف وحتى العقوبة وما الى ذلك من تبعات الفضيحة، وهذا مما جعلنا نبتعد كلياً عن مفهوم الفضيلة في الاعتراف بالخطأ، فنشأت لدينا عادة “تراثية” في القاء مسؤولية خطأ اقترفناه على من هم أضعف منا او اصغر سنا او مكانة، فكان دائما الاقوى والاكبر بعيدون كل البعد عن الشبهات، ومنزهون عن الخطأ.
وعلى السبيل المثال أذكر ذات مرة كنت جالساً مع احد اقربائي “كنت آنذاك في السابعة من عمري” كان قريبي هذا منهمكا في مكالمة هاتفية عندما رمى عقب سيكارته المشتعل على السجادة، ولم يشعر “بخطأه” الا عندما أخترقت رائحة الدخان أنفه ليسارع في أخماد الجزء المشتعل من السجادة ثم يقوم بوضع عقب السيكارة في المنفضة ويلتفت نحوي فجأة لتعنيفي ليدعي بعدها امام والدي عندما دخل الغرفة بانني كنت ألهو بعقب السيكارة الذي كان في المنفضة ليسقط من يدي على السجادة، لم افهم كيف اقتنع والدي بهذه الحكاية كما لم استطع اثبات عكس ما قاله قريبي فآثرت الضحك “من اعماقي” معرباً عن تحملي لمسؤولية خطأ ذاك الكبير؟؟ ليس لأنني قادر على تحملها ولكن لعجزي عن التبرير، ولكوني جاهل بما يحدث!!..
وهكذا تعلمت ان الاعتراف بالخطأ فضيحة يجب تحمل عقوبتها، وليس فضيلة، طبعاً هذا المعنى المعكوس ليس سببه خطأ جوهري في المفهوم، بل لكون تطبيقه يعتبر بالنسبة لنا نحن العراقيون عسير جداً ويجلب اللوم والتعنيف على شكل فضيحة اكثر مما يمكن اعتباره فضيلة، وعلى هذا
الاساس ايضا اعتمدت كانت حكوماتنا في العراق منذ أول حكومة رأت النور في عشرينيات القرن المنصرم وحتى حكومات مابعد التغيير، فهي اشبه ما تكون بالحكومات المعصومة عن الخطأ، طبعا خلال فترة وجودها والا فهي مقبورة بعد انهيارها وتظهر جميع عيوبها وأخطاء اعضاؤها والقائمين عليها على شكل فضائح وجرائم بعد زوالها، أما ان تعترف حكومة لدينا بخطأ ما حتى لو كان صغيراً فهذا أقرب للخيال وأشبه بالمحال، أما مسؤوليها فكأنهم عملوا جميعاً في جمهورية أفلاطون قبل ان يأتوا لحكم العراق وشعبه المسكين، وتأسيس حكومته التي لاتخطئ ابداً، او كأنهم ملائكة هبطوا من السماء فهم منزهون عن الخطأ..
اما ما حدث وما يحدث من أخطاء فيتحملها الشعب فقط دون غيره، فلوا انقطع التيار الكهربائي فالخطأ ليس من الحكومة بل المواطن “المجرم” الذي يستهلك ما يزيد عن حاجته..!!، ولو شحت المياه فالسبب هو المواطن “المسرف” الذي يستحم يومياً..!!، واذا حدث نقص في المواد الغذائية فان السبب هو التاجر “الجشع” وكأن التجار وأصحاب رؤوس الأموال ليس معظمهم من كبار رجال الدولة..، فالحكومة لا دخل لها..!!، والسوق اذا ركدت فالسبب هو مؤامرة تحاك ضد الشعب للنيل من كرامته..!!، اما المسؤولين “المساكين” في هذه البلاد فانهم يرهقون انفسهم لكشف المؤامرات ومحاسبة المجرمين…وكأن المخطئون والمذنبون الاساسيون بل وحتى المجرمون بعيدون عن ظلالهم وأبواب مكاتبهم الفاخرة، ودائماً تكون الضحية مواطن “لامسؤول” من هذا الشعب الذي يبدو انه يخرب وحكومته تبني..!!
اما بالنسبة لقضايا الأمن فحدث ولا حرج، فقد عودتنا حكوماتنا “السابقة والحالية وربما اللاحقة” على المئات ان لم تكن الالاف من أصناف هذه المؤامرات وعمليات التخريب وغيرها، فالمواطن الضعيف الذي ليس في جيبه كارت أحد المسؤوليين هو ضيف دائم في احد سجونها.
وجاء عهد جديد “أو هكذا سمي” وحكومات أخرى جديدة على عراق مابعد 2003، ومن الطبيعي جداً حدوث الانفلات الأمني الذي شهدناه وخصوصاً بعد انهيار حكومة دكتاتورية أطبقت على خناق الشعب اعواماً طويلة، ولتشهد البلاد حالة من الفوضى والفساد الذي بلغ الزبى في سيله، ولكن هل هذا يعني ان نلقي اللوم والتهم جزافاً ودون أي رادع من ضمير..،
بلى ان بقايا البعثيون والتكفيريون والارهابيون “أو سمهم ماشئت” يعيثون فساداً في البلاد وهذا امر متوقع، ربما يتطلب البت في موضوع كهذا نوع من الصراحة وجرأة أكبر لمواجهة الحقيقة دون التلاعب بالالفاظ لاغراض ضيقة لاتخدم سوى مصالح المجرمين الحقيقيين فحسب.
فمن يتحمل مسؤولية الاخلال بل والتلاعب بالأمن والفساد والافساد في مفاصل الدولة العراقية، هل هم بقابا البعثيون والارهابيون فقط؟؟.. من المؤكد ان القائمين على مسؤولية أمن العراق وشعبه والمتصدين لحكمه يتحملون قسطاً من المسؤولية، ولكن لم نسمع لحد الآن من أعترف بخطأ ما في سبيل معالجة التحديات الأمنية التي تواجه البلاد واستئصال الفساد منها، وهيهات لهم بالاعتراف طالما مازالوا يعتبرون “في نظرهم” الاعتراف بالخطأ المقصود او غير المقصود فضيحة تهز اركان المسؤولية وتخدش الرفعة والسمو مما يعني ان الجزء المتبقي من مسؤولية الخطأ يجب ان يتحمله من ليس في جيبه كارت “بطاقة” أحد المسؤولين الجدد..