في زمن نعيشه مليئاً بالعجائب والغرائب، حيث نرى أفكاراً تدعو إلى الغلو والتطرف من جهة، والإهمال وطابع اللامبالاة من جهة أخرى، أصبح العقلاء يعانون الأمرين ويعيشون بين هذه الأمواج الهوجاء بصعوبة. يدعون بكل ما أوتوا من قوة في أفكارهم إلى لغة العقل ونشر الاعتدال، إذ يعتبرونه المنقذ الحقيقي مما يشاهدون ويسمعون من هذه الأفكار المتطرفة، ويؤمنون إيماناً مطلقاً بأن الاعتدال هو الجسر الذي يربط بين العقل والقلب، وهو الإرادة التي تميز بين الحق والواجب، وبين الإنسان ونفسه وتعامله مع الآخرين.
إن الاعتدال يعني محاربة التطرف في كل الأفكار التي من شأنها أن تولد التفرقة بين أبناء المجتمعات، وهو القوة وعدم التساهل في المبادئ، ويعتبر الوضوح في الرؤية لأنه منهج الأنبياء والحكماء، وهو النواة الحقيقية لأحد أسرار بقاء المجتمعات المتحضرة التي تتطلع إلى مستقبل أفضل لشعوبها..
لقد دعانا ديننا الحنيف، الدين الإسلامي، إلى الاعتدال، فقال الله تعالى في كتابه الكريم: “وكذلك جعلناكم أمةً وسطًا…” لأن التشدد المفرط يُعتبر أحد أسباب الخلل في انعدام الثقة بين أبناء الشعوب بمختلف مذاهبها وطوائفها. ومن هنا، فإن الاعتدال يُعتبر جوهره التوازن، والهدف السامي لإصلاح الإنسان والمجتمع في وقت واحد. لأننا نرى في حياتنا الاجتماعية أن الاعتدال يتطلب منا أن نكون جزءًا من الحلول دائمًا وليس جزءًا من الأزمة.
أما في الجانب الاقتصادي، فكم من أسرٍ نعرفها قد تفككت بسبب الإسراف، وكم من مجتمعات تخلفت بسبب البخل والانغلاق على أنفسها. وهنا نقول إن الاعتدال في الإنفاق عبادة، مثلما أن العمل والكسب منه بركة، وفي الطموح تثبيت للواقعية الحقيقية لبناء الشعوب.
وفي الجانب السياسي، فالاعتدال هو مفتاح الاستقرار لكل الدول التي تتطلع إلى مستقبل أفضل لشعوبها. وكلنا يعرف ما حل بمنطقتنا العربية وشعوبها بسبب التطرف الذي يقود إلى الدمار دائمًا، وبسبب المحاباة لأصحاب هذه الأفكار التي تؤدي إلى خلل كبير في المجتمع، بينما الاعتدال يبني دولة القانون ويُشرك الجميع في صناعة المستقبل.
إننا جميعًا اليوم مطالبون بنشر ثقافة الاعتدال في المدارس، وفي دوائر الدولة، وفي المجالس العامة، وفي كل وسائل الإعلام، وأهمها في منابر الدين، وأن نبدأ بعوائلنا ونشر أفكار معتدلة في كل بيت، لأن المعتدل هو من يزرع الأمل ويمنح الثقة ويجنب الناس الصراعات. وهو من يحمل راية السلام الحرة بيده ولا يقبل أن يحمل راية الاستفزاز، وهو من يؤمن بأن الاحترام سوف يغير من سياسة الخصم…
وفي الختام يجب أن يعرف جميعنا أن الاعتدال ليس ضعفًا، بل هو قوة العاقل وشجاعة المتزن التي لا تقل عن شجاعة الفرسان في ساحة المعركة، وأنه ليس تنازلًا عن المبادئ الحقيقية التي تُبنى بها المجتمعات المتطورة، بل هو ترسيخ لتلك المبادئ من خلال زرع هذه الأفكار المعتدلة… فلنكن معتدلين في أقوالنا، وفي مشاعرنا، وفي مجمل أحكامنا، حتى نستحق أن نكون حقًا بناة حضارة ونحافظ على مستقبل الأجيال القادمة….