منذ نصر الحلفاء على العثمانيين في الحرب العالمية الأولى ومجيء اتفاقية سايكس بيكو لم يتوقف الكرد عن التفكير بإنشاء دولتهم الخاصة وتحديدا بمحيط وجودهم في العراق وإيران وتركيا وسوريا، لكن ذلك لم يتحقق حتى الآن رغم أنهم تقربوا كثيرا من مصادر القرار في العالم، منذ أن أصبحت المنطقة بشكلها الحالي، وفي أوقات ظهروا وكأنهم شبه متحالفين مع دول أقيمت على أسس جدلية ربما لا يوافقونها المعتقد، لكن لإظهار أنهم ليسوا أعداء حتى لمثلها، ويمكن أن يكونوا دولة صديقة إذا ما أتيحت لهم فرصة ذلك.
في العراق لم يكن الحال أفضل من تركيا وسوريا وإيران حتى مطلع سبعينيات القرن الماضي بعد اتفاقية آذار، والتي تعد أفضل إنجاز تحقق لهم على مر التاريخ، حيث منحت حكومة العراق برئاسة أحمد حسن البكر ونائبه صدام حسين محافظات شمال العراق ذات الغالبية الكردية في سكانها حكما شبه ذاتي، بعد جولات من الحوارات والزيارات المتبادلة أشرف عليها صدام حسين مع الملا مصطفى بارزاني، والذي يعد بالنسبة للكرد زعيما كرديا خالدا بفضل حمله للسلاح وتقدمه ركب المتمردين الذين قاتلوا مختلف الحكومات العراقية منذ أول حكومة في عهد الدولة العراقية بشكلها الجديد حيث تم نفي المقاتلين الكرد المتمردين على الحكومة إلى روسيا بقرار من الباشا نوري سعيد، ثم عادوا بقرار من عبد الكريم قاسم بعد ثورتهم على النظام الملكي وإعلانه الجمهورية العراقية عام ١٩٥٨ والذي هو الآخر دخل في صراع معهم حتى دخلوا في مواجهة مسلحة مطلع الستينيات، ما دعا المقدم ركن حردان التكريتي والذي كان يقود سرب الطائرات في الجيش العراقي إلى التحليق بطائرته في المنطقة الممتدة ما بين شقلاوة وكلالة ليحرق ١٣ قرية من قرى الكرد سُجن على إثر ذلك بقرار من عبد الكريم قاسم والذي أخرجه بعدها وقال له: “آني ضامك للكويت مو للأمور الصغيرة” إذ كان يسعى قاسم لدخول الكويت بسبب اعتقاده أنها أراضٍ عراقية يجب استعادتها وأشيع حديث عن أن إصراره على ذلك أحد أسباب انقلاب القوميين عليه، حيث كان حردان أحدهم عام ١٩٦٣
كانت فترة حكم عبد السلام وعبد الرحمن عارف لا تقل شأناً عن فترة نوري سعيد، لكن هذه المرة كان النفي داخل العراق، فما بين الجنوب وبغداد قضي على الطموح الكردي والتمرد المسلح، ولم يكن ذلك بطريقة ودية، حيث وكما هو معتاد في الصراع بين الحكومة والكرد يتقدم الجيش فيشتبك الطرفان والغلبة للأقوى وهو الطرف الحكومي. بعد أن حصلت ثورة البعث على القوميين والاتفاق مع الكرد تم العفو عن كل المقاتلين الكرد باستثناء من أدين ولم يتنازل ذوو المجني عليه عن حقهم الخاص، لتدخل عائلة بارزاني في صداقة حميمة وعميقة مع صدام حسين الذي ترأس الجمهورية بعد تنازل البكر له بسبب ظروفه الصحية، ليشترك الكرد إلى جانب الجيش العراقي في القتال ضد إيران بحرب طاحنة دامت ٨ سنوات كان خلالها جانب آخر من الكرد بالضد من هؤلاء الذين احتدم الخلاف معهم ليصل إلى النزاع المسلح وهذا الأمر دفع بمسعود بارزاني نجل ملا مصطفى وخليفته في الزعامة الكردية إلى الاستنجاد بالحكومة العراقية والجيش بعد حرب نشبت مع جلال طالباني المدعوم إيرانياً، ليتقدم الجيش ويصد قوات جلال التي كانت متجهة للسيطرة على أربيل ويعيدها إلى جبال السليمانية، ورغم التناغم لسنوات بإقناع ووساطات خارجية لم تنسَ عائلة طالباني الدين لتردَه بعد الاستفتاء الذي لم ترفضه لكن انقلبت عليه وأصبح حزب الاتحاد الوطني حليفاً لحكومة حيدر العبادي لتنسحب قوات البيشمركة التابعة له من كركوك بأوامر من بافيل طالباني نجل جلال طالباني ما أدى لانكسار حكومة إقليم كردستان وعلى رأسها مسعود بارزاني الذي تنحى عن منصبه بضغوط دولية ومحلية ليحل محله نيجرفان بارزاني ابن شقيقه في رئاسة الإقليم
الخلافات الكردية والانقسامات لها تاريخ طويل حيث لم تقتصر على صراع عائلتي بارزاني وطالباني في الزعامة والقرارات والمواقف وحتى التبعية، فعائلة بارزاني نفسها شهدت خلافات داخلية وانقسامات على خلفية المواقف التصعيدية مع الحكومة كأحمد آغا نسيب ملا مصطفى وأحد شيوخ القبائل الكردية المعروفين والذي وقف بالضد من بارزاني وقاتل بجانب الجيش العراقي في أثناء التصعيد بين الجانبين قبل إعلان الحكم الذاتي مطلع سبعينيات القرن الماضي. موقف الآغا أثّر بابن اخته لقمان نجل ملا مصطفى واصطف إلى جانبه بالضد من والده قبل أن يُقتل، هذه المواقف قد تتكرر مع عائلة بارزاني في ظل تسلم نيجرفان ابن شقيق مسعود بارزاني رئاسة الإقليم خلفاً له وعدم تسلم أحد أبناء مسعود لهذا المنصب مثل مسرور الذي يُعد أحد أبرز القيادات في البيشمركة، وهذا الأمر متوقع حصوله أيضاً مع أبناء جلال طالباني، لا سيما أنّ بافيل تصدر المشهد في الآونة الأخيرة، في ظل وجود قوباد الذي هو الآخر مرشح قوي لخلافة والده في زعامة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني
الصراع بين الكرد والسلطة لم يعد مقتصرا على القرار المحلي في ظل ضعف الدولة العراقية بعد الغزو الأمريكي وتنامي الدور الإقليمي، كما أن تدخل دول مثل إيران وتركيا في صنع القرار يزيد من تعقيد الأمور أمام الطموح الكردي، وهذا ليس كل ما في الأمر، إذ بات جلياً أن البيت الكردي يعاني تصدعات كبيرة على مستوى العائلات والأحزاب الحاكمة، إضافة إلى وجود جماعة مسلحة مثل حزب العمال الكردستاني لا تخضع بسهولة للجهات السياسية، كما أن الانتماءات والتوجهات تختلف بين أبناء القومية الواحدة في سوريا والعراق وإيران وتركيا، وهذا ما يؤكد صعوبة توحد الكرد لتحقيق حلم الدولة الذي يُعد أبناء الجبل في العراق أبرز الطامحين إليه رغم فشل محاولاتهم المتكررة.