18 ديسمبر، 2024 10:04 م

(الاصـلاح) و (الثــورة) … بين (العنف) و (السلميـّـة)

(الاصـلاح) و (الثــورة) … بين (العنف) و (السلميـّـة)

(الثـورة) في اللغة ، وكما جاء في (لسان العرب) لابن منظور :- (ثار الشيء ثَوْراً وثؤوراً وثوراناً وتثوَّر : هاج ، والثائر : الغضبان ، ويقال للغضبان أهيج ما يكون : قد ثار ثائرة وفار فائرة ، إذا غضب وهاج غضبه ، وثار إليه : وثب ، ويقال : انتظر حتى تسكن الثورة وهي الهيج ، وثار الدخان والغبار وغيرهما : أي ظهر وسطع) .

أما (الثورة) في الاصطلاح ، فقد تعددت على وفق متبنيات ومناهج المدارس الفكرية ، ولكن الاختصار – هنا – يقتضي اعتماد تعريف (الثورة) عند المعاصرين والحداثويين ، وهي :- (التغيير الكامل لجميع المؤسسات والسلطات الحكومية في النظام السابق ، لتحقيق طموحات التغيير لنظام سياسي نزيه وعادل ، ويوفر الحقوق الكاملة والحرية والنهضة للمجتمع) .

* * *

و(الاصـلاح) في اللغة : من فعل أصلح يصلح إصلاحًا ، أي إزالة الفساد بين القوم ، والتوفيق بينهم ، وهو نقيض الفساد ، والاصلاح هو التغير الى إستقامة الحال على ما تدعو إليه الحكمة ، وعليه ، فالمقصود بالاصلاح من الناحية اللغوية ، الانتقال أو التغير من حال إلى حال أحسن ، أو التحول عن شيئ والانصراف عنه الى سواه .

وبالرغم من إن مفهوم (الإصلاح) في الإصطلاح ما زال مكتنفاً بالغموض ، وذلك لتداخله مع العديد من المفاهيم والاصطلاحات ، ولكن ، يمكننا اعتماد التعريف التالي لمفهوم الإصلاح ، والذي ينص على إن الاصلاح هو :- (التغيير والتعديل نحو الأفضل لوضع شاذ أو سيء ، ولا سيما في ممارسات وسلوكيات مؤسسات فاسدة ، أو متسلطة ، أو مجتمعات متخلفة ، أو إزالة ظلم ، أو تصحيح خطا أو تصويب اعوجاج) .

أما قاموس (أكسفورد) فيعرف الاصلاح بأنه :- (تغير أوتبديل نحو الأفضل في حالة الأشياء ذات النقائص ، وخاصة في المؤسسات و الممارسات السياسية الفاسدة أو الجائرة ، إزالة بعض التعسف أو الخطأ) .

وأما قاموس (وبستر) للمصطلحات السياسية (1988) ، فيعرف الاصلاح بأنه :- (تحسين النظام السياسي من أجل إزالة الفساد والاستبداد) .

وفي (برنامج الأمم المتحدة) لإدارة الحكم ، نجد بأنه يعتبر (الإصلاح السياسي) ركنًا أساسيًا مرسخًا للحكم الصالح ، ومن مظاهره سيادة القانون ، والشفافية ، والمشاركة الشعبية في إتخاذ القرار ، والعدل ، وفعالية الإنجاز ، وكفاءة الإدارة ، والمحاسبة ، والمسائلة ، والرؤية الإستراتيجية ، وهو تجديد للحياة السياسية ، وتصحيح لمساراتها ، ولصيغها الدستورية ، والقانونية ، بما يضمن توافقًا عامًا للدستور ، وسيادة للقانون ، وفصلا ً للسلطات ، وتحديدًا للعلاقات فيما بينها .

أما في (الموسوعة السياسية) فالاصلاح هو :- (تعديل أو تطوير غير جذري في شكل الحكم أو العلاقات الإجتماعية دون المساس بأسسها ، وهو بخلاف الثورة ليس إلا تحسين في النظام السياسي والإجتماعي القائم دون المساس بأسس هذا النظام) .

وبالتالي ، يمكننا إجمال (الاصلاح) بأنه (التغيير نحو الأفضل) ، ويمكن أن نفهم بأن الاصلاح يمكن أن يكون (ذريعة) لتقويض أو تأجيل (الثورة) ، حين يكون الإصلاح محض إدعاء ومناورة من قبل السلطة الفاسدة .

ومن خلال تعريف مفهوم الاصلاح في (الموسوعة السياسية) ، نجد عناك تطابقاً بين تعريف المفهوم اصطلاحياً ، ورؤية الشاعر البريطاني (روبرت بيلوار ليتون) لهذا المفهوم ، حيث يفرق بين (الاصلاح) و (الثورة) من حيث النتائج ، أو الغايات .

يقول ليتون :- (الإصلاح هو مجرد تصحيح للتجاوزات ، أما الثورة فهى نقل للسلطة) ، وهذا غير صحيح من الناحية التطبيقية ، لأن (الاصلاح) هو رد فعل ناتج عن (وجود الفساد وتفاقمه) .

ومن هنا نشأ الاختلاف بين المدارس الفكرية في تحديد وتعريف مفهوم (الاصلاح) ، والتفريق أو التطابق بينه وبين مفهوم (الثورة) ، حيث أن دعاة وأنصار الفكر الماركسي يرون بأن :- ( كل الإصلاحات والتغييرات التي يمكن أن تحدث في الفكر الرأسمالي لا جدوى أو قيمة لها ، لأنها عاجزة كلياً عن حل تناقضات النظام الرأسمالي البشع ، وهي لا تهدف إلا إلى استمرار سيطرة الطبقة البرجوازية على الطبقة العاملة واستغلالها ، وبالتالي فان وظيفتها الأساسية هي تأخير قيام ثورة الطبقة لكادحة على النظام الرأسمالي ، فالثورة هي الحل الوحيد للمشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها النظام الرأسمالي) .

أما (فوكوياما) ، فيرى بأن :- (الديمقراطية الليبرالية لا يمكن ان تدخل من الباب الخلفي ، بل يجب ان تأتي في لحظة ما من قرار سياسي واعٍ ومقصود ، يعمل على تأسيس الديمقراطية) .

ويعيد فوكوياما الإصلاح السياسي إلى قيم الليبرالية الديمقراطية ، من خلال إدراك ان (الرغبة الفعالة لدى الأفراد) في علاج الفساد وإيجاد المجتمع الذي يحققون فيه ذواتهم بعدالة ، هي واحدة من أهم عوامل إصلاح الأنظمة السياسية .

وبهذا ، فالفساد – عادة – يستدعي (الثورة) ، ويجعلها حاضرة في الذهن ، خصوصاً حين يتسم موقف السلطة بالوضوح المتبني لآلية الصمت على الفساد أو المشاركة فيه بشكل مياشر أو غير مباشر .

وعلى عكس ما يراه (روبرت بيلوار ليتون) ، نجد بأن الفرق بين الاصلاح والثورة يكاد (ينعدم) ، لأن من محركات الثورة هو الشعور لدى الثوار بــ (لا جدوى الاصلاح) ، وبالنتيجة ، فإن كل ثورة في العالم حين تسعى إلى (التغيير) فهي تسعى نحو (الاصلاح) للوصول إلى (الصلاح) .

* * *

فالفساد لدى (الأفراد) أو (الجماعات) الحكومية وغير الحكومية ، إما أن يكون (متعمداً) أو (غير متعمد) ، وهنا تكمن نوعية الوسيلة والأسلوب في التعامل مع الفاسد أو المفسد في السلطة ، وهذا الأسلوب لا يخرج عن كونه (ثورة) تؤدي إلى (تقل السلطة) بالمعنى الصحيح والواقعي على وفق الافتراضات التالية :-

1/ حين يكون الفساد ناتجاً عن (تعمد) ، ومع سبق إصرار (المفسد) ، فيجب (نقل السلطة) منه لشخص آخر نزيه ، وإحالة المفسد إلى (المحاكم) بعد الانقضاض عليه ، أو إزاحته (بالقوة) عن مركز السلطة والقرار ، بثورة حمراء أو بيضاء ، مما يدفع بالسلطة الفاسدة لحماية مصالحها عبر التصدي لعملية الاصلاح ، والتقرب من تأجيج الثورة .

2/ وإن كان الفساد ناتجاً عن (جهل) المفسد ، فهنا أيضاً ينبغي نقل سلطته لآخرين أكثر وعياً وقدرة على الأداء ، لإذكاء وضع الشخص المناسب في المكان المناسب ، وما لم تقم السلطة بذلك ، فإن التغيير المقبل من خارجها ، ستعتبره السلطة اعتداءً على صلاحيتها ، وانتهاكاً لما تسميه بــ (السيادة والدستور والقانون) ، ما يستدعي التصدي للاصلاح لإعادة الهيبة للسلطة .

3/ وأما حين يكون الفساد نتيجة (الاجتهاد الخاطئ) ، فنصيب المفسد (العزل) ونقل سلطته لمن هو أجدر وأدق منه في مسألة الاجتهاد ، خصوصاً حين يكون هذا الخطأ على تماس مع مصلحة المجموع ، أو حين يكون هذا الخطأ (الاجتهادي) جريمة يحاسب عليها القانون ، وهنا تنشأ ردة الفعل (السلطوية) ضد الاصلاح ، خصوصاً حين يكون توزيع المناصب ناشئ عن (المحاصصة) ، والتوزيع الطائفي أو العرقي أو غيرها .

وبالتالي ، فكل (إصلاح) هو (ثورة) ، ومهما كان مقداره على الصعيد التنفيذي ، فإنه يقتضي (نقل السلطة) بشكل أو بآخر ، اعتماداً على الظروف الموضوعية المحيطة بــ (الاصلاح) .

* * *

لقد درج البعض على تصنيف أو توصيف الثورات بشكل (إصطلاحي) نسبة إلى الصبغة اللونية المتأتية عن (نتائج الثورة) ، فمنها (البيضاء) و (الحمراء) و (البرتقالية) و (قرنفل الثورة) ، وغيرها من التسميات التي اختيرت من قبل المهتمين بالثورات ، أو قادتها ، أو المجتمع .

إن الثورات ليست تصرفاً (فردياً) يمتلك الانسان فيه حرية الارادة في التصرف ، ولا يمكن (التنبوء) بما يمكن أن تصل إليه الرغبة والسعي نحو الاصلاح أو الثورة في مسيرتها ومساوقتها مع الأحداث والمؤثرات فهي حراك (شعبي) متعدد الأمزجة والثقافات والوعي ، ولذا ، فإن إستباق الأحداث ، والرهان على أسلوب محدد واحد في المنهج الثوري ، وإطلاق صفة (السلمية) أو (الدموية) على الثورات في بداية نشوبها أو انطلاقها أو التخطيط لها ، أو التصريح بــ (سلمية) الثورة أو (دموية) الحراك الثوري ، قبل وضوح النتائج ، فهو مخالف للوعي ، ومجافي لضرورة احتساب التغيرات المفاجئة في المجتمع .

ففي الفكر الماركسي تحوم الثورة حول محور (العنف) ، وتتخذ من (البنادق والدماء) وسيلة (لا محيص عنها) لتحقيق أهداف الثورة ، بل اعتبرتها الوسيلة الوحيدة للثورات التي يراد منها الانتقال بالمجتمع من (الرأسمالية) إلى (الاشتراكية) ، معرضاً عن الأسلوب (السلمي) في إذكاء وإشعال الثورات .

وقريب منه ما جاء في كتاب (تجربتي مع الماركسية) للدكتور (طارق حجي) ، الذي نقل عن كتاب (قضايا الحرب والاستراتيجية) للمفكر الماركسي (ماو تسي تونغ) عبارتين مهمتين لا تقبلان التأويل ، في إشارة إلى منهج (العنف) في الفكر الماركسي للثورة ، حيث يقول (ماو) :- (على كل شيوعي أن يدرك هذه الحقيقة : من فوهة البندقية تنبع السلطة السياسية) ، ومثلها قوله :- (وبهذا المعنى يمكننا أن نقول : إنه لا يمكن إصلاح العالم كله إلا بالبنادق) .

وهنا ، فليس من المنطقي أن يقوم (قادة الثورات) باستباق الأحداث في اطلاق تسمية (بيضاء) أو (سلمية) أو (حمراء) على الثورات التي يقودونها ، لأن هذه التسميات مرتبطة زمانياً ومكانياً بــ (نتائج) الثورات ، والنتائج تعتمد على (أخس المقدمات) ، ومن المفهوم أن (النتائج والمقدمات) هي وليدة حركة الواقع ، ومسيرة الأحداث ، وتطورات الوضع ، وبالتالي ، فهذه التسميات هي (صفات) للثورة في مراحلها النهائية وليست (شعاراً) يمكن أن يكون (دائمياً) للثورات ، ولا يحق لثورة أن ترفع شعار (السلمية) أو (الدموية) منذ بدايتها ، إذ قد تتحول الثورات التي خطط لها بأن تكون (سلمية وبيضاء) إلى حمراء مصطبغة بلون الدماء ، نتيجة (رعونة أو حماقة) أو انفعال السلطة أو بعض الثوار ، أو نتيجة (ردة الفعل) التي تقتضيها الضروف المحيطة بالثورة ، وتدخل عناصر خارجية أو داخلية على خط ومسيرة الثورة .

وليس بعيداً أن تتحول الثورات التي يتوقع لها أن تكون (حمراء دموية) ومنتجة للحرب الأهلية ـ إلى ثورة (بيضاء) وسلمية ، وهو خلاف ما ذهبت إليه الأدبيات الماركسية في اعتبار (العنف) عي الوسيلة (الوحيدة) للثورات ، وخلاف ما ذهبت إليه بعض الثورات في اعتبار (السلمية) منهجها الدائم .