22 ديسمبر، 2024 7:51 م

الاشتراكية … بعد 99 عاما على اعلانها … (2 – 5 )

الاشتراكية … بعد 99 عاما على اعلانها … (2 – 5 )

الجزء الثاني – الاشتراكية والانتهازية اليمينية في الحزب الشيوعي 
 التجربة الاشتراكية الروسية التي بدأت بعد ثورة الخامس والعشرين من أوكتوبر  1917 التي يحتفل الشيوعيون والتقدميون والعمال في العالم هذا العام بذكراها 99 واجهت تحديات كثيرة وخطيرة داخلية وخارجية. ففي الداخل شكلت العلاقات الزراعية المرتبطة تاريخيا بالملكية الخاصة للأرض الزراعية تحديا للسلطة البلشفية التي حاولت في البداية وضع الأسس للملكية الزراعية الجماعية للارض ، لكنها اكتشفت ان الوقت مايزال مبكرا وانه لابد من التراجع خطوتين للوراء. التراجع والقبول بالواقع السائد مع تغييرات قانونية وتنظيمية مؤقتة كان ضروريا لحين نضوج الظروف الاقتصادية والاجتماعية المناسبة للبدء ببناء الاقتصاد الزراعي على أسس اشتراكية وحتى هذا لم يتم دون دفع ثمن باهظ. وما يقال عن العلاقات الزراعية يمكن قوله عن ردود الفعل التخريبية للبرجوازية الصغيرة والمتوسطة المدينية على التطبيقات الاشتراكية فهذه قامت بدور رجعي وتخريبي لاعاقة تلك التطبيقات خدمة لمصالحهم الانانية. لقد تحولوا بين ليلة وضحاها الى طابور خامس لخدمة الدول الامبريالية التي عادت روسيا الاشتراكية أول دولة للعمال والفلاحين والجنود في التاريخ. 
لقد أخبرنا كارل ماركس في كتاباته المبكرة ان الاشتراكية هي فترة قصيرة انتقالية بين الرأسمالية والشيوعية ولم يشر الى زمن تقريبي تستغرقه تلك الفترة القصيرة كأن تكون خمسة أو عشرة سنوات وربما أقصر من ذلك أو أطول وبالتأكيد بنيت توقعاته على حسابات أملتها الظروف السائدة حينها التي لا يمكننا الجزم بملائمتها لتطبيق الاشتراكية وثم الشيوعية . لكننا الذين عايشنا التطبيقات الاشتراكية في روسيا وفي غيرها من الدول قد صدمنا بحجم المصاعب الداخلية والخارجية التي واجهتها. آخذين ما واجه التجربة الروسية بنظر الاعتبار أصبحنا على قناعة بأن المثال الروسي لا يصلح البتة لأستيعابه في الفترة التي قصدها ماركس. فالأجواء الدولية لم تتطور في صالح الدولة الاشتراكية الفتية بل ضدها حيث تعرضت لعدوان عسكري اضطرها للدفاع عن نفسها. وبنتيجة اصرارها على بناء الاشتراكية تحولت أكثرية الدول الغربية ضدها بنفس الوقت قامت بقمع محاولات الطبقة العاملة فيها للثورة الاشتراكية وبذلك افتقدت روسيا لدعم الطبقة العاملة في العالم.
تحت تلك الظروف غير الملائمة لم يكن ممكنا انجاز المرحلة الاشتراكية والانتقال الى الشيوعية وأنه لابد من الاستمرار في استكمال بناء القاعدة المادية للاشتراكية لتطوير الطاقات العلمية والثقافية للمجتمع الاشتراكي والطاقات الانتاجية وتحسين نوعية منتجاتها حتى تتمكن الدولة الاشتراكية من تحقيق التفوق على الدول الرأسمالية المتقدمة القائمة الى جانبها. وقد علمتنا التجربة الروسية بأن وجود الحزب الشيوعي الواعي لدوره كقائد سياسي وفكري ماركسي يشكل ضمانة لانجاح التحولات الاشتراكية وتعزيزها مما سيجعلها مركز جذب لمجتمعات الدول الأخرى بمعنى تحول الدولة السوفيتية الى مثال جدير بالحذو حذوه. لكن تطورالحزب الشيوعي السوفيتي قد سار بالاتجاه المعاكس في الحقبة الأخيرة من وجود الاشتراكية حيث تعزز التيار الانتهازي اليميني دون أن يرصده أحد.  
لقد كانت الميول البرجوازية موجودة وفعالة برغم استئصال قاعدتها المادية ( الملكية الخاصة )  في المراحل الأولى من بناء الاشتراكية حيث حلت محلها  الملكية العامة أي الملكية الاشتراكية. لكن مثل هذا التغيير الاشتراكي الأساسي لم يقضي بل عطل مفعول تلك الميول الانانية الى التملك والربح في دواخل حملتها بين الحزبيين الى  حين سنوح الفرصة المناسبة. وكما أثبتت التجربة الاشتراكية في روسيا ودول اشتراكية أخرى سابقة ان وضع قادة حزبيين على رأس المؤسسات الاشتراكية لا يكفي لاعتبارها ملكية اشتراكية أو انها في أيدي امينة ، فبين أولئك القادة من قضوا جل حياتهم في خدمة الحزب الشيوعي كرسوا نشاط المؤسسات الاشتراكية التي أشرفوا عليها لخدمة مصالحهم الخاصة.  
فهؤلاء أو بعضهم حاولوا التعامل مع المشروع الاشتراكي كالتعامل مع مشروعهم الخاص الذي يعمل ضمن اقتصاد السوق الرأسمالية  لتحقيق أقصى هامش من الارباح. وهذا بالذات ما دفع القوى العاملة السوفيتية للتعامل بسلبية متناهية مع خطط زيادة انتاجية العمل التي كانت تقرر من قبل رؤساء المؤسسات الاشتراكية لزيادة الانتاج. فالعمال بحسهم الفائق أدركوا ان ( فائض قيمة العمل ) الناتج عن جهدهم الاضافي ( لزيادة الانتاجية ) سيؤدي الى تحقيق ( فائض القيمة المطلق) فهذا لن يعود اليهم بصورة زيادات مباشرة لأجور العمل وانما يذهب الى جيوب مسؤولي المؤسسات الانتاجية والمتعاونين معهم. ويكمن في هذه الحقيقة الاجابة عن السؤال الذي ردده الكثيرون عند انهيار الاشتراكية : – لماذا لم يخرج العمال السوفييت الى الشوارع دفاعا عن نظامهم الاشتراكي الذي شيد لصالحهم ؟؟؟؟لقد شيد النظام الاشتراكي بالفعل لصالحهم وبتضحياتهم لكنهم توصلوا الى قناعة بأنه لم يعد كذلك فتركوه يتهاوى ومعه كل آمالهم. كانت كميات من السلع الاستهلاكية الضرورية التي تنتجها المؤسسات الصناعية الاشتراكية تنتقل عبر قنوات خاصة بالتواطؤ مع مسئولين في مؤسسات التوزيع الحكومية لبيعها بأضعاف سعرها خلال شبكات البيع بالمفرق في السوق السوداء عبر ما سمي  ” بالاقتصاد الثاني ” لتتحول قيمتها الى حساباتهم السرية في البنوك الروسية أو البولندية أو الرومانية والاجنبية في الخارج. مثل هذه التجارة بجهود القوى العاملة الكادحة شاعت في عهد الحكومات الاشتراكية التي خلفت الزعيم الراحل جوزيف ستالين. ففي عهد قيادة هذا الشيوعي الحازم لم تتجرأ القوى الطبقية الانتهازية والبرجوازية الصغيرة على التلاعب بحقوق الكادحين لأنها كانت على قناعة بأن السلطة الاشتراكية ستعاقبهم بلا رحمة أو تهاون وبفضل تلك السياسة حقق الاقتصاد الاشتراكي أعلى معدلات نموه طوال فترة حكمه.  فالزعامات التي نددت وشهرت بسياسات ستالين الداخلية بعد رحيله قد أتاحت الفرصة الذهبية والأجواء المناسبة المحفزة للتطلعات البرجوازية داخل الحكومة ومنظمات الحزب للكسب غير المشروع على حساب الطبقة العاملة الكادحة. وقبل ان يتاح المجال لمثل تلك النشاطات المنافية للقوانين والتربية الاشتراكية تقدمت الدولة السوفيتية أشواطا من دولة شبه اقطاعية متخلفة الى دولة صناعية وقوة دولية لها وزنها على كل الصعد. فخلال النظام الاشتراكي تطور التعليم بكل مراحله ومنذ البداية أصبح مجانيا وكذلك الخدمات الصحية وارتفع المستوى المعيشي لشعوب الاتحاد السوفيتي بشكل مضطرد من خلال بناء اقتصاد وصناعة متقدمين بفضلهما تعززت القوة العسكرية السوفيتية لتصبح ثاني أقوى دولة عظمى في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. 
لا أحد يتحدث في أيامنا هذه ايجابيا عن الحالة الاقتصادية والاجتماعية التي كانت عليها دول الاشتراكية السابقة ، بل ان الكثير من الناس راح يعيد تكرار المعلومات المشوهة التي تنشرها وسائل الاعلام الغربية الموالية للراسمالية بأن ” الاشتراكية قد فشلت ” وان ” الزمن قد تجاوز مرحلة الثورات الاشتراكية ” وان ” العصر قد استقر لصالح الرأسمالية واقتصاد السوق”. ان مرددي تلك الترهات انما يدللون على ضعف ذاكرتهم وفقر معلوماتهم التاريخية عن التدمير الشامل الذي تعمد النازيون ارتكابه ضد الدولة السوفيتية الذي لم يحدث مثيلا له في التاريخ المدون.  لكن لا بأس من ذكر بعض الارقام والحقائق للتذكير بالحالة الاقتصادية التي تطور اليها الاتحاد السوفيتي بعد تحرير البلاد من الغزاة الألمان. فلو افترضنا ان الناتج القومي الاجمالي بالاسعار الثابتة في الاتحاد السوفييتي في عام 1950 كان 100%  فانه بناء على ذلك قد ارتفع عام 1972 الى 580% بينما زاد في الولايات المتحدة 214% وفي بريطانيا 169% وفي فرنسا 309% وفي ألمانيا 352%. وقد بلغ معدل النمو الاقتصادي السنوي في الاتحاد السوفييتي خلال الفترة 1950 – 1972 8,3% بينما بلغ في أمريكا 3,5% وفي ألمانيا 5,9% وفي بريطانيا 2,4 % وفي فرنسا 5,23%. أما متوسط معدل نمو الدخل القومي في الدول الرأسمالية في الفترة 1951 – 1973 فكان 4،6% بينما بلغ في دول مجلس التعاضد الاقتصادي 7,9% ( المنظمة الموازية للاتحاد الأوربي ). أما معدل نصيب الفرد من الدخل القومي في بلدان مجلس التعاضد الاقتصادي فكان أعلى من العديد من البلدان الرأسمالية الأوربية ، لكنه كان أقل من مستوى متوسط الدخل القومي في الدول الرأسمالية الأكثر تقدما.
لكن بدءا من سبعيانيات القرن الماضي باشرت الدول الرأسمالية زيادات كبيرة في الانفاق العسكري لجر النظام الاشتراكي لسباق تسلح غير مسبوق لتضطره الى تخصيص ميزانية كبيرة لنفقاته العسكرية على حساب تطوره الاقتصادي. فقامت الولايات المتحدة بزيادة نفقات التسلح من 134 بليون دولار في عهد الرئيس كارتر عام 1979 الى 253 بليون دولار بداية عهد رونالد ريغان لتصل الى 7% الناتج القومي المحلي الاجمالي مما اضطرالاتحاد السوفيتي لرفع ميزانيته العسكرية كذلك فارتفعت من 22% عام 1979 الى 27% الناتج القومي المحلي الاجمالي في عام 1989.لقد أثرت الزيادة الكبيرة في النفقات العسكرية على حجم ميزانية التنمية الاقتصادية والاستهلاكية ما أدى الى خفض معدلات النمو الاقتصادية وهذا بدوره قاد الى تناقص حجم الاقتصاد السوفيتي وتراجع مكانته في قائمة الدول الأكثر تقدما. ففي وقت احتل الاتحاد السوفيتي المرتبة الثانية في العالم في القدرات العسكرية بعد الولايات المتحدة و ربما مكافئا لها لم يتطور في الوقت نفسه الى المرتبة الثانية كقوة اقتصادية عالمية. وكان لذلك أسبابه الموضوعية التي لا يجب أن تغرب عن البال. فخسائر الاقتصاد السوفيتي المادية والبشرية خلال الحرب العالمية الثانية فاقت بأضعاف ما فقدته جميع الدول الغربية من خسائر في حين سارت التنمية في الدول الغربية دون مصاعب تذكر لأن الغزو النازي الألماني لم يتعمد تخربب اقتصادها وبنيتها التحتية كما فعل مع الدولة السوفيتية. وبالاضافة لذلك أن دول أوربا الغربية تلقت دعما اقتصاديا مباشرا من الولايات المتحدة التي ازدهر اقتصادها خلال الحرب حيث قدمت تلك المساعدات عبر مشروع مارشال الذي خطط له ليعجل في تنميتها من أجل أن تكون مثالا ايجابيا للرأسمالية.ان تجاهل كل تلك الحقائق عند المقارنة بين الاقتصاد السوفيتي والاقتصاديات الغربية يبين سوء النوايا وحجم التشويه الذي مورس ضد النظام الاشتراكي وحجم الجريمة التي ارتكبت بحق الاشتراكية بعد عام1985 عندما أتى ميخائيل كورباجيف بمشروعه الاصلاحي التصفوي الذي نال اعجاب الدول الغربية فاستحق بجدارة جائزة نوبل للسلام.
يتبع في الجزء الثالث