لا يبدو أن القيادة في دمشق تعتزم القيام
بأي مبادرات أو إجراءات فعلية تشير إلى
نواياها لتحمل مسؤولية الوضع الراهن في سوريا.
وفي ضوء التطورات الدولية الجديدة، التي من المتوقع أن تزيد الوضع الاقتصادي والمعيشي صعوبة على الشعب السوري، وفيظل مزاج شعبي عام يتوق للتغيير، وينتظر البدء في عملية الانتقال السياسي السلمي، والتخلص من الفقر والجوع والبؤسوالمعاناة اليومية المأساوية التي تعيشها الغالبية العظمى من السوريين، يعلن الرئيس السوري، بشار الأسد، عن موعد انتخاباتمجلس الشعب، في 19 من الشهر الجاري.
فما الذي يمكن ان يعود على الشعب السوري من انتخابات تجري بنفس الآلية التي كانت تجري بها منذ 50 عاما؟ وما الذي يمكن أنيطرأ على انتخابات هذه الدورة من تغيير في ظل نفس النظام والنهج والآليات، بل والشخصيات أيضا؟ ألا يعد ذلك تجاهلا لكل مايبذل من جهود تحاول المساعدة للتمهيد لعملية بدء المسار التنفيذي لقرار مجلس الأمن رقم 2254؟ ألا يعد ذلك استهانةبالإرادة السياسية لمجموعة أستانة التي نجحت في التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار على كامل الأراضي السورية، سعيا إلىالشروع في تنفيذ القرار رقم 2254؟
إن هذه الانتخابات، بكل صراحة، لن تعني للشعب السوري أي شيء، فغالبية الشعب لم يعد يثق بالنظام، في وضعه وبشكله ونهجهوآلياته الراهنة، وكيف يمكن لأي شعب أن يثق في قيادته، حينما تتم إقالة رئيس لمجلس الوزراء (المنصب الثاني في الدولة بعدرئيس الجمهورية)، ترأس الحكومة للسنوات الأربع الأخيرة، بعد اتهامه بتهم غير واضحة حتى اللحظة، ولا أحد يعرف مصيره، حياكان أو ميتا أو معتقلا أو تحت الإقامة الجبرية. كيف يمكن لشعب لأي شعب أن يثق في وضع سياسي ينتحر فيه رئيس وزراء أسبق بـ“ثلاث رصاصات في رأسه” في سابقة أظن أنها الأولى في العالم! كيف يثق الشعب في رئيس وزراء يترك النظام، وبلاده في مرحلةحساسة ودقيقة للغاية، ليتابع “النضال“، لا من أراض سورية تسيطر عليها المعارضة مثلا (في مرحلة كانت المعارضة السوريةتسيطر على أكثر من 50% من مساحة البلاد)، بل من أروقة فنادق فخمة بالخارج، كيف يمكن للشعب السوري أن يثق في قيادتهبينما يسمع عن رشاوى وفساد ومبالغ هنا وهناك بمئات الملايين من الدولارات، ويرى من حوله مظاهر “التشبيح” والفضائح التيتطال شخصيات مقربة من أرفع الشخصيات في الدولة. إن الشعب السوري لم يسمع عن ضحايا (بين أكثر من نصف مليون إنسانضحايا الأحداث السورية) ينتمون إلى النخب السياسية أو قيادات المعارضة! انعدام الثقة بالنظام ليس قاصر على الشعب السوريوحده، وإنما المجتمع الدولي أيضا، لكنه وعلى الرغم من ذلك يتعامل مع النظام، بوصفه الممثل الشرعي الوحيد عن الشعبالسوري، وفقا للمواثيق والأعراف الدولية، وذلك حفاظا على سيادة سوريا، ووحدة أراضيها، وتفاديا للفوضى التي يمكن أن تعمّالمنطقة إذا ما انزلقت سوريا إلى مصير الدولة الفاشلة، وهو الأمر الذي يسعى الجميع لتجنبه.
بعد كل هذا، وفي ظل هذا الوضع المعقد، تنبري أصوات سورية معارضة فتحمّل روسيا المسؤولية عن استمرار الوضع المأساويوالكارثي في سوريا، بل وتتهمها بالوقوف أمام “بزوغ شمس داعش” التي يبدو أنهم كانوا ينتظرونها ويفضلونها عن الوضع الراهنللدولة السورية.
في نفس الوقت، وعلى الجانب الآخر، لا يبدو وضع المعارضة السورية أفضل من وضع النظام السوري بكثير، فهناك خلاف داخلهيئة التفاوض، وائتلاف قوى المعارضة، بين توجهات سعودية وأخرى تركية، وكأن المعارضة قد انفصلت عن تبعيتها وانتمائهاللشعب السوري ومصيره المأساوي. وأنا على يقين أن تركيا والمملكة العربية السعودية كانتا لتحترما وتؤيدا وتمتثلا لإرادةالمعارضة السورية، إذا ما كان لهذه المعارضة موقفا مبدئيا موحّدا يعلي من شأن إرادة السوريين ويضعها في اعتباره قبل أيأولوية أخرى، وما كان لتركيا أو السعودية ساعتها أن تتدخلا في الشأن السوري. إلا أن البعض يتلاعب ويستغل تناقضات الأطرافالإقليمية لتحقيق مكاسب تنظيمية وحزبية وحتى شخصية.
إن لنظام في دمشق، والمعارضة الموزّعة بين تركيا والسعودية، يشتركان برغبتهما في حدوث شرخ في العلاقات الروسية التركية،والروسية الإيرانية، لنسف مسار مجموعة أستانا (روسيا، إيران، تركيا)، حتى يتخلص النظام بذلك من استحقاقات قرار مجلس الأمنرقم 2254 من جهة، وتتخلص المعارضة من دور مجموعة أستانا من جهة أخرى، أملا في الحصول على دعم من واشنطن وحلفائهافي المقابل، لإخراج روسيا وإيران من سوريا، والاستيلاء على الحكم من خلال التدخل الخارجي. ولا يبدو أن أي من الطرفين يكلّفنفسه عناء التفكير فيما يمكن أن يكلفه ذلك من ضحايا ودمار ما تبقى من سوريا. هناك أيضا من يتوهم إمكانية بقاء الوضع على ماهو عليه، كي يحافظ على مصالحه، حتى لو كان في ذلك استنزافا لموارد ومقدرات البلاد، واستمرارا لمعاناة ومأساة الشعبالسوري.
هذا ما يبدو عليه المشهد السوري الراهن، بينما يعجز كثير من المسؤولين والقياديين على أرفع المستويات في المعارضةوالنظام، عن إدراك معنى استخدام روسيا والصين لحق النقض في مجلس الأمن الدولي ضد قرار غربي لتمديد الموافقة على نقلالمساعدات عبر معبري باب الهوى وباب السلام على الحدود السورية التركية لمدة 6 أشهر، ذلك أن آلية نقل المساعدات كانتمؤقتة بالأساس، وآن الأوان لإنهاء عملها، بعد التغيرات على الأرض في سوريا.
إنها التغيّرات التي لا تريد المعارضة أن تعترف بها، ولا يريد النظام أن يراها، من القضاء بشكل نهائي على التنظيمات الإرهابيةالدولية، وسريان مفعول وقف إطلاق النار على كافة الأراضي السورية، والبيان الصادر عن الرؤساء الثلاثة لمجموعة أستانا بتاريخ 1 يوليو، والذي أكّد على ضرورة الالتزام بقرار مجلس الأمن رقم 2254، والبدء في عملية التغيير السلمي من خلال الآليات التي نصعليها القرار، والأهم من هذا وذاك، غياب المبرر لأي قرارات مؤقتة من مجلس الأمن، تنتقص من احترام السيادة السورية، وفتحممر واحد فقط هو ممر باب الهوى الحدودي الرسمي الخاضع لسلطة الدولة السورية، الذي يكفي لتمرير كل المساعدات الدوليةالتي تحتاجها البلاد.
يفرض الوضع الميداني في سوريا الآن كذلك ضرورة التخلص مما يسمى بـ “اللجان المستقلة” المعنية بالشان السوري، على غرار“لجنة التحقيق المستقلة“، والتي تم تمرير قرار إنشائها من قبل الدول الغربية بالدرجة الأولى، وهي لا تخفي ذلك، من خلالالتصويت في مجلس حقوق الإنسان التابع لهيئة الأمم المتحدة، على تشكيل آلية تحمل هدفا محدد سلفا، وهو البحث عن ذرائعضد دمشق، ومن يوصفون بأنهم حلفاؤها. حيث لا تستند هذه اللجان “المستقلة” إلى المعايير الدولية، وتستند في تقاريرها إلىأخبار منقولة من مواقع التواصل الاجتماعي، ومن مصادر مجهولة، “لا يتم الإفصاح عنها لدواع أمنية!”، وتهدف بالأساس إلىإلصاق تهم زائفة بأنشطة ومهام الجيش العربي السوري والقوات الروسية في شمال سوريا، والادعاء بأن تلك الاتهامات “ترقى إلىجرائم حرب“.
إن بعض أطراف المعارضة لا زالت تسعى إلى تقسيم سوريا، بغرض السيطرة على جزء من أراضيها، مثل ما يحدث في الشمالالشرقي والغربي لسوريا، حيث تفرض بعض الجهات المعارضة على السكان المحليين التعامل بالعملة التركية أو بالدولار، وتمنعتداول العملة المحلية. بل إن البعض ذهب إلى فتح مدارس خاصة، تدرّس مناهج تربوية تختلف عن المنهج الحكومي السوري، بمافي ذلك التدريس باللغات التركية والإنجليزية باعتبارها لغة أساسية للتعليم. وهذه الجهات المعارضة هي من يدفع الغرب إلىالإصرار على تمديد اتفاقيات فتح معابر لـ “تمرير المساعدات الإنسانية” وإعطائها صفة الوضع الدائم، سعيا منها إلى تغيير العملةوالمناهج الدراسية والهوية القومية لتعزيز مقومات الانفصال، وإعلان مكوّن جديد مستقل ومنفصل عن سوريا. لذلك يهاجمهؤلاء السياسيون المعارضون، ممن يسعون إلى الانفصال، استخدام روسيا والصين لحق النقض ضد تمديد عمل هذه المعابر، ولايدركون أن ذلك الرفض يأتي استنادا إلى جوهر الدفاع عن القوانين الدولية بشأن حق سيادة الدول على أراضيها، ووحدة ترابهاالوطني، حيث يسود على الأراضي السورية نظام التهدئة ووقف إطلاق النار بإشراف دول مجموعة أستانا، ولم يعد هناك أي داعلمخالفة القوانين والأعراف الدولية الخاصة بسيادة سوريا على أراضيها.
ما أقوله هو أن تركيا لا تطمح إلى ضمّ أراض سورية إليها، وكذلك الحال بالنسبة لإيران، التي لا ترغب في “تشييع” سوريا كما يزعمالبعض (فالدعم الإيراني لسوريا ولأطراف لبنانية هو دعم لمحور وأهداف المقاومة التي لم تتحقق بعد في فلسطين أو الجولان،لكن ذلك حديث آخر). لذلك فإن أي رهان آخر خلاف الرهان على مجموعة أستانا ، سيدفع بسوريا نحو مصير ليبيا والعراق واليمن،وربما نحو مجهول آخر لا يعلم مداه إلا الله.
من هنا أؤكد على ضرورة احترام السيادة السورية، وحماية مؤسسات الدولة، والتعامل مع النظام الحالي بوصفه الممثل الشرعيالوحيد للشعب السوري، وعليه يتعيّن تحميله المسؤولية الكاملة لما آلت إليه الأمور اليوم، بوصفه القوة الأساسية التي يجب أنتضطلع بمهام إخراج سوريا من الأزمة الحالية، والكف عن التعنت في قضايا إطلاق سراح المعتقلين، والرهان على الحكم بالقوة،وتجاهل قرار مجلس الأمن رقم 2254.
لقد أصبح واضحا للجميع اليوم، أن الأمن والسلام لن يعودا إلى سوريا إلا بجهود الدول الضامنة (روسيا وإيران وتركيا)، والتي أكدرؤسائها في بيانهم الأخير احترامهم للسيادة ووحدة الأراضي السورية، والالتزام بعملية الانتقال السياسي، وفقا لما تم الاتفاق عليهفي سوتشي، وقرار مجلس الأمن رقم 2254. لكن دمشق والمعارضة لم تصدرا أي بيان بهذا الشأن بعد. فما الذي يمكن أن ينتظرهالشعب السوري كي يراهن عليه في ظل هذه الظروف؟ .
* سفير فلسطين السابق في الاتحاد الروسي