إن ما جرى ويجري في السليمانية لا يختلف عما حدث ويحدث كل يوم في بغداد والناصرية والبصرة وغيرها.
نفس الأسباب والدوافع، ونفس النتائج. أجل، إنه نفس الغضب الذي يدفع الجماهير إلى الانتقام من الأحزاب الحاكمة، ونفس القسوة التي تستخدم لقمع المتظاهرين بالهراوات وقنابل الغاز وبالرصاص الحي أخيرا إذا لم يرتدعوا من أول إشارة، ويعودوا إلى منازلهم طائعين أذلاء، لكي لا يتطاولوا، بعد اليوم، على أسيادهم، في ذات يوم.
والذي تثبته تفاصيلُ معارك السليمانية بين المواطنين الكرد المقموعين المسروقين وبين قامعيهم وسارقيهم المكشوفين المفضوحين هو أن كل ما كان قادة العمل السياسي الكردي يخادعون به المواطن الكردي بالحديث عن المظلومية، والدعوة إلى حماية كرامته، وضمان أمنه واستقلاله، واستعادة حقوقه المشروعة في العدالة والمساواة وفرص العمل والرخاء.
تماما كما فعل حلفاؤهم الإسلاميون المحتكرون للسلطة والمال والسلاح في النصف العربي من الوطن. فكلهم من طينة واحدة، لا فرق بين أيٍ منهم وبين أيّ.
فمنذ الأيام الأولى للمعارضة العراقية التي كانت إيران، وهي في بدايتها أوائلَ التسعينيات، هي المحركَ الرئيس لها، مع دورٍ هامشي لنظام حافظ أسد، وحتى دخول أمريكا إليها تمويلا وتوجيها وتسليحا، والعراقيون، سواء المقيمون خارج الوطن أو داخله، يعلمون بحقيقة كلَّ واحد من زعماء تلك المعارضة، بالتفصيل، ويعرفون تاريخه في النصب والاحتيال، واستعداده الفطري للتعامل حتى مع الشيطان، إذا اقتضت مصالحه الشخصية ذلك.
ولأنهم جميعا من طينة واحدة، فقد كان عاديا وطبيعيا أن تشهد مؤتمراتُهم كلُها، من أولها إلى آخرها، كلَّ ما تسربت روائحه الكريهة إلى الخارج، من غش ومحسوبية وطائفية وعنصرية وعمالة وتآمرِ بعضِهم على بعضٍ وهم يتقاسمون حصص المقاعد القيادية في تلك المؤتمرات، أو يتعاركون على الهبات والمكرمات والمكافآت التي تلوح بها هذه الدولة الأجنبية أو تلك.
ومنذ أيام الغزو الأمريكي الأولى للعراق لم يفاجأ المواطن العراقي بما فعله بالوطن وأهله وكرامته وثرواته أؤلئك العائدون من مقاهي لندن ودمشق وطهران والرياض وبيروت ودبي وعمان.
وفي سبع عشرة سنة من حكمهم أفلست الخزينة، وأصبح الموظفون بلا رواتب، وغرقت المدن والقرى بمياه الأمطار أو المجاري، وتراكمت الأوساخ في الشوارع في جميع ربوع الوطن الذي كان آمنا وجميلا ونقيا وبلا لصوص.
نعم، لقد تغيّرت السليمانية وأربيل. فقد ظهرت فيهما العمارات العالية، والطرق العريضة، والفنادق الفخمة، والمطاعم الفاخرة، وآخر موديلات السيارات الباذخة، ونوادي الليل الساهرة، ولكن ليس للمواطن الكردي العادي فيها نصيب، بل هي، كلها، لنخبة النخبة من المسؤولين وذويهم، ولمن يدور في أفلاكهم. أما المدن والقرى الأخرى فما زالت في انتظار التغيير والتعمير والتنوير، باقيةً على حالها، من أيام الفقر والقهر والنهب القديم.
فالأموال الطائلة التي هبطت، بالحق أو بالباطل، على حكومة الإقليم، لم تستطع أن تقيم مشروعا واحدا إنتاجيا استراتيجيا صناعيّا أو زراعيّا يؤمّن حياة الأجيال القادمة من غوائل الزمان. فهي نجحت فقط في جعل أصغر فرد من أفراد الأسرتين الحاكمتين في أربيل والسليمانية من أصحاب الثروات الطائلة المهرّبة والمخزنة في مصارف أوروبا وأميركا ودبي، وجعلت أغلى القصور وأفخمُها وأغلاها في لندن وباريس ونيويورك وواشنطن ودبي لأبناء مسعود وجلال، وأبناء إخوتهم وأصهارهم وأبناء العمومة والخؤولة ولبعض الذيول.
والفارق الوحيد بين أحزاب السلطة في بغداد وبين حكّام الإقليم وأخلاقهم هو أن في بغداد شللاً حاكمةً فاسدة كثيرة تتناطح في ما بينها على المناصب والمكاسب والرواتب، وفي كردستان شلّتان، فقط لا غير.
وهنا وهناك أصبح المال كله، والسلطة كلها، للحكام المتحالفين، ولأبنائهم وأبناء إخوتهم وأعمامهم وأخوالهم وأصهارهم، ولعبيدهم والسماسرة الملتحقين بهم. أما المواطن، عندنا وعندهم، فله الله، ونصيبُه الجريُ وراءَ لقمة العيش، والخوفُ من غضب الزعيم.
ومعروف، تاريخيا، أن الجماهير الصابرة لا تنفجر، عادة، إلا حين تفقد صبرها، وحين يبلغ التعدي على حقوقها وكرامتها وحريتها ورزق عيالها حدوداً لا يعود في طاقتها احتمالها.
وقد كان متوقعا، منذ زمن طويل، أن يحدث في السليمانية وأربيل ما حدث في بغداد والناصرية والبصرة والحلة والنجف وكربلاء. وقد حدث. وكان يمكن أن يحدث مثلُه في الموصل وتكريت وسامراء والرمادي والفلوجة لو خرج الحشديون الإيرانيون من شوارعها وميادينها المحاصرة بالحديد والنار.
إن الجماهير الكردية المتظاهرة لا تطلب سوى إقالة الحكومة، ومحاربة الفساد، وتحسين الوضع الاقتصادي. وشعاراتها وهتافاتها أوضحُ رسالة كتبها المنتفضون بالقلم العريض (يسقط اللصوص)، (تسقط الحكومة الفاسدة).
إنه، في وجهه الآخر، استفتاءٌ شعبي عفوي شجاع وجريء تقول فيه جماهير كردستان، بعد صبر طويل، إن الطاقم السياسي الحاكم في السليمانية وأربيل وبغداد، قد بلغ أرذل العمر، وأصبح غير صالح للاستخدام، وإن عليه أن يرحل بالتي هي أحسن، أو بألسنة اللهيب وقناني الغاز. فكفاية، كفاية، كفاية.