7 أبريل، 2024 11:00 ص
Search
Close this search box.

الاستعمار واعادة تكوين الشرق الاوسط

Facebook
Twitter
LinkedIn

ترجمة ـــ وليد خالد احمد
كتاب (الاستعمار واعادة تكوين الشرق الاوسط)، محاولة اقبل عليها احد اساتذة الجامعات البريطانية لوضع النقاط على الحروف وضبط الفاظ هذه الاحداث.. كما انه محاولة لمناقشة الاعلاميات التي احاطت بايران في عهد خميني بهالة من الضباب السياسي والقدسية الدينية.. ولأن الكتاب صدر خلال الحرب العراقية ــ الايرانية، لذا ارجو القارئ مراعاة الظروف الزمانية لطرح الافكار والتحليلات التي جاء بها.كما ألفت نظره الى اني للاسف لم اجد ضمن ارشيف ترجماتي نسخة الكتاب ولا عنوان الفصل الذي نطالع ترجمته هنا حتى اتمكن من جانب التوثيق ايراد عنوان الكتاب كما هو متعارف عليه في المنهجيات التي احرص عليها . ولاهمية الافكار الواردة في الفصل الذي قمنا بترجمته وعمق فائدتها في كتابة تاريخ هذه الحرب، ارتأيت ترجمتها، اعماما للفائدة. / المترجم

◊ حقيقة الثورة المضادة في ايران
حرص الاعلام الغربي، والاجهزة الضالعة معه والمغرّرة بمضامينه ((العلمية))، على تصوير ما جرى في ايران خلال السنوات الست الماضية بأنه ((ثورة)) والثورة، بالتعريف تُملي اجراء تغييرات اجتماعية واقتصاديةعميقة وحاسمة في النظام العام، وهذا اكثر ما ينطوي عليه تغيير البنية العليا من السلطة. فمثل هذا التغيير في زمام الحكم يُسمى عادة بــ ((الانقلاب)) ان هو استخدم القوة بدلا من الانتخاب. وقد استخدم الحكم الجديد في ايران، اوائل 1979، اسلوب الانتخاب في تقرير شرعية النظام الذي تسلم الخمينيون أعنته. فانتفى القول بالانقلاب. لكن الحكم الجديد لم يعمد، حتى الآن، الى اجراء التغييرات البنيوية التي تؤذن بانشاء نظام اجتماعي اقتصادي يختلف عن النظام الذي كان قائما في ايران قبل تغيير الحكم. فلا يصح علميا استخدام تعبير ((الثورة)) في وصف المجريات الايرانية حتى الآن. وليس في الاحداث المستجدة في هذا القطر ما يوحي بامكان استخدامه في المستقبل القريب. فكيف ينبغي تصوير الحدث الايراني المثير اذن بعدما توفرت جميع المعطيات المادية والسياسية لدرسه والحكم عليه.
لقد أسنَّ الشاه محمد رضا، في العقدين الماضيين، مجموعة من التغييرات العميقة استحقت وصفها بــ ((الثورة البيضاء)) لانها جاءت من عَلٍ. مع ذلك فأحداث ايران التي وضعت حد لهذه التغيرات بكثير من سفك الدماء لا تستحق وصفها بــ ((الثورة الحمراء)) مهما اصطبغت بالدم الاحمر وذلك لاختفاء العوامل الاساسية التي تبرر استخدام كلمة ((الثورة)). وانما يمكن وصف الصفحة التاريخية التي شهدتها ايران في أواخر العقد الماضي وأوائل العقد الحالي من هذا القرن (بالنظر الى علاقتها بما سبقها من تغييرات بنيوية عميقة) على انها ((ثورة مضادة)) اي انها عمل كبير يناهض ((الثورة البيضاء)) هذه ويعيد في آن عقارب الساعة في البلاد الى المرحلة التي سبقتها. فهذا العمل اذن لم يقتصر على اسقاط الشاه وعلى تنصيب الخميني ولا على تغيير بعض القوانين أو وسم المجتمع بصفات ذاتية جديدة لا تؤثر في آلياته المادية نفسها.
لاشك ان في ايران اليوم مظاهر كثيرة توحي بالرغبة في ضبط الامور الاقتصادية، وتنفيذ جزء اساسي من مشروع الشاه الرامي الى خلق دولة مركزية قوية. لكن هذه الدولة لا يُراد لها ان تكون صناعية مستقلة عن المصالح الغربية. وهذا هو السبب الاساسي في شن هذه ((الثورة المضادة)). فما نراه انما هو امور ثلاثة:
تأكيد التخصص القطاعي في استخراج النفط وتصديره.
تنشيط الزراعة والعزوف عن فكرة التصنيع الشامل.
الاحتفاظ بكثير من أعنّة التجارة الخارجية والداخلية في ايدي الدولة.
وهذا كله لا يمنع احداث تغييرات مهمة في قطاع النفط والاستمرار في شيء من التصنيع. لكن الاتجاه الجديد لا يشكل نظاما جديدا، يختلف عما كان الشاه يسعى الى تغييره من حيث صلته العضوية بالأسواق الاجنبية. ولا يختلف عما كان اعداء الشاه من اليسار الايراني يودون انشاءه من حيث علاقات الانتاج والتوزيع في المجتمع الايراني. ولعله اكثر عقلانية وانسجاما مع وقائع الحال وظروف المنطقة العسكرية والسياسية والعقائدية. لكن شتان بين هذا وما تُمليه الثورية في مرحلة التطور التاريخية في ايران اليوم من ضرورة العمل على:
قطع دابر التبعية الاقتصادية وما تعنيه من الاندماج بأسواق العالم ورؤوس الاموال المسيطرة عليه.
وبالتالي احداث تغييرات اجتماعية وسياسية قادرة على حمل اثقال التحديث والتطوير الزراعي العلمي والتصنيع الثقيل ورفع مستوى الخدمات العامة وارساء الاساس لعقلية علمية تقنية تناسب روح العصر وغير ذلك من مقتضيات القضاء على التخلف الاجتماعي والاقتصادي.
اشاعة ثمار التطور بين جميع سكان البلاد رجالا ونساءً.
احداث طفرة نوعية في محددات النمو الاقتصادي المستقل كمستوى التربية والتنظيم والتدريب المهني.
فالسياسة الثورية هذه تهدف الى تصنيع اليد العاملة لا الى اقامة المصانع المستوردة والى تشغيلها بأيد عاملة بدائية عاجزة عن شراء السلع التي تنتجها بنفسها، لأن جزءا كبيرا من الفائض الاقتصادي يصدر الى الخارج بحماية رأسمالية الدولة التي تعزز الخمينية اقدامها وجزءا آخر تستملكه ((اجهزة الدولة)).
فانما الذي جرى في ايران خلال الاعوام القليلة الماضية وذهب ضحيته كثير من اليساريين واليمينيين والابرياء والمجرمين والكبار والصغار لا يبدو ان يكون انتفاضة غوغائية منظمة ذات اهداف يمينية بحت على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي ضد ثورة يمينية كانت تحدَّت بعض دعائم الحكم في النظام القائم نفسه بسبب من عجزها على مواكبة التطور. ولا يعني زخم الجماهير المخدوعة التي جرى تعبئتها في انجاز هذه الانتفاضة الغوغائية اليمينية. ان هذه الحركة تشكل ((ثورة شعبية)) اكثر مما كانت تشكله حركة موسوليني في ايطاليا أو حركة هتلر في المانيا وسواها من الانتفاضات الفاشية في العالم الحديث. فاذا اخطأ بعض اليساريين في فهم حقيقة ما جرى مؤخرا في ايران فلأنهم خلطوا بين ((الاشتراكية)) التي فهمها موسوليني وهتلر والاشتراكية التي فهمها ماركس وانجلز.
ولئن كانت الحركة الخمينية عاجزة عن اعادة عقارب الساعة الى ما كانت عليه تماما، قبل ان تنطلق من عقالها في معاداة التطور السابق و ((تصحيحه)) لمصلحة رؤوس الاموال الغربية والمصالح المنتفعة منها في الداخل، الا ان الهدف كان ولا يزال الحيلولة دون ما سعى اليه ((شاه ايران غير المعتم)) من اغضاب ((المصالح الواقفة وراء الشاه الجديد المعتم)) بتطوير ايران صناعيا وتهديد بقائها في حلبة ((الدول النامية)).

◊ سياسة الشاه
فمن واجب اي باحث ان يدرس ما جرى على ايدي الشاه محمد رضا كي يفهم بدقة الفارق العظيم بين ما يتظاهر به ((الشاه ــ الخميني)) وما يفعله حقا. فإن كان ((قلبه اطهر)) من هذا الذي جرى في ايران ولا يزال يجري من تعزيز ارتباطها بالأسواق العالمية ورؤوس الاموال المهيمنة عليها، لأنه مثلا جاهل بــ ((قضايا الاقتصاد التقنية)) فانه عاجز في الحالين عن تبرئة نفسه من مسؤولية ما يفعل العاملون باسمه: فالسياسي مسؤول عن نتائج اعماله ومواقفه لا عن نواياه الحسنة.
لقد سعت ايران، في عهد الشاه، الى احداث تحولات اقتصادية عميقة دون اجراء اي تحول اجتماعي حاسم. فأنفقت عقدا ونصف عقد من السنين في اقامة ((رأسمالية الدولة)) بمجموعة واسعة من اجراءات الاصلاح الزراعي والتصنيع الثقيل استهدفت بهما التخفيف من اعتمادها على استخراج النفط وتصديره. لكن هذا السعي الى اقامة نظام رأسمالي صناعي حديث يرفع ايران من مستوى الدولة النامية التابعة لمراكز الانتاج القائدة في الغرب الصناعي، الى مستوى المركز الصناعي الرأسمالي الخامس في العالم، ما كان يمكن ان تسمح به رؤوس الاموال المهيمنة على النظام الاقتصادي العالمي القائم. فكما اوضح روبرت غريهام(1)، مراسل الفايننشال تايمز في طهران، كان مثل هذا التحول والارتفاع ينطويان بالضرورة على ((مخاطر سياسية)) لا قِبلَ للغرب الصناعي بتحملها من حيث انهما يؤديان الى ((خلق طبقة عاملة صناعية ذات قدرة عظيمة على التعبير)) وبالتالي على الفعل الحاسم، فالتغير الذي يخشاه الغرب الصناعي في اي جزء من الجنوب النامي ليس وجود تنظيم شيوعي اممي ولا حزب اشتراكي قومي بالذات فمثل هذه التنظيمات لم تغير بذاتها شيئا وانما الذي تخشاه رؤوس الاموال الغربية المتحكمة في مقادير كثير من ارجاء العالم قيام صناعة متينة قادرة على اشاعة الانماء الاقتصادي المتوازن بمعزل عن الارتباط بالاسواق العالمية وقادرة بالتالي على خلق طبقة عاملة قوية او شعب حر متماسك(2).
ومع ان الاخطاء السياسية والاقتصادية التي ارتكبها الشاه في السنوات السابقة على انهاء حكمه كانت السبب الرئيسي في اضعاف سيطرته على ايران، الا ان تقويض حكمه كان عملا موجها من الخارج وقد تضافرت على احداثه وتنظيمه القوى الغربية التي خافت خروج هذا القطر من اسار التنمية والتبعية لاسيما وان العراق الذي يجاوره قد اتجه في الوقت نفسه الى التنمية المستقلة الشاملة التي تخرجه من اسار الاعتماد على الاسواق الدولية.
ولم تغفر الدوائر الغربية قط لشاه ايران دوره الاساسي في انتفاضة الاوبك عام 1973 بأكثر مما اغتفرت للملك فيصل عاهل المملكة العربية السعودية الذي قام ايضا بدور اساسي في رفع اسعار النفط ومجابهة الاحتكارات الدولية التي تسيطر على انتاجه وتسويقه بمثل ما تسيطر على امكانات تحرر الدول النفطية من التخصص الاقتصادي المفروض عليها بواسطة دورها هذا في انتاج النفط.
لقد خلقت سياسة الشاه الاقتصادية، قبيل انهياره، جفاء عظيما بين الحكم السياسي ــ العسكري وجميع القوى التقليدية التي كانت تفيد من بقاء ايران في اسار التبعية الاقتصادية لرؤوس الاموال الغربية. وقد نشأ هذا الجفاء عن سعي الشاه الى مواجهة رؤوس الاموال الغربية وهيمنتها على ايران من خلال التعاون التاريخي مع هذه القوى التقليدية في مجالات التجارة والاستثمار والتمويل كما في مجالات الاستغلال الاجتماعي الاساسية. ولم يدرك الشاه ان التحول الاقتصادي مستحيل دون قيام تحول اجتماعي مقابل، لاسيما وان الفلاحين الذين كانوا يشكلون اربعين في المائة من السكان كانوا راضين عنه او غير ساخطين عليه. وكان سعيه الى التصنيع والتحديث لا يضر بالعمال الذين لم يقوموا، آخر الامر، بالانضمام الى صفوف المعارضة الا من قبيل الانتهازية الثورية. وكان ذلك في النصف الثاني من 1978 عندما قرروا ان الموجة الرجعية الصاعدة بقيادة الخميني تقتضي السير في ركابها والسعي بالتدريج الى اعتلائها. وقد اخفقوا في هذا المسعى اخفاق جميع القوى الوطنية واليسارية في ايران عندما خالفت قاعدة لينين المشهورة بضرورة الامساك بقيادة الحركة التي تسعى الى التغيير عند اجراء مثل هذا التحالف.
يقول روبرت غريهام في كتابه ((ايران: وهم السلطة)): ((قد لا ترجع نقطة التحول الاساسية في حظوظ الخميني الى نمو جاذبيته الدينية، وانما ترجع الى القرار المحسوب الذي اتخذته قطاعات رئيسية من القوة العاملة الايرانية، وتخصيصا موظفو الدولة وعمال صناعة النفط.)) . وتأكيد الباحث البريطاني هذا لا يرجع بدوره الى اي قناعة ماركسية بأن العمال يحتلون دائما مركز القيادة في القرارات التاريخية الحاسمة، وانما يرجع الى اهمية الاقتصاد في التغيرات السياسية الكبرى. قال: ((لا يرجع اخفاق تجربة الحكم العسكري ( أي عملية اسقاط الشاه) الى زُخم الاحتجاج في الشارع بقدر ما كان ذلك بسبب اثر اضرابات العمال على شل النشاط الاقتصادي)) وبالتالي شل اعمال الادارة الحكومية. وكان فعلهم هذا اشد اثرا عندما تناول الاضراب مصفاة طهران في 9/9/1978 ومجمع الكيماويات النفطية في 19/9/1978 وشركة النفط القومية في 22/9/1978. واعقب هذا اضراب عمال طهران مما شل اعمال مصرف ((بزرغاني)) في 23/9/1978، فأخذت رؤوس الاموال تهرب خارج البلاد، فاعتبرت الحكومة العسكرية العودة الى انتاج النفط واستعادة النظام أهمَّ اهداف السلطة.

◊ انخداع اليسار
وقد يَصْدُق هذا العمل المحسوب على قرار قيادات حزب تودة الشيوعي وعصابات الفدائيين التي ظنَّت في الغالب انها تواجه دورة تاريخية جديدة تتكرر فيها ثورة شباط 1917 وتفسح المجال لثورة تشرين البلشفية فأظهرت الموالاة لموجة التغيير التي لم تنشئها بانفسها. وقد عزز هذا الرديف اليساري الانتهازي القصير النظر من الدور الخطير الذي لعبته نساء الطبقة العاملة في التظاهر ضد السلطة كما لعبه الطلاب الذين استهوتهم الافكار الماوية والتروتسكية بدعم قوي من المخابرات الاميركية، فضلا عن الدور الحماسي الهدام الذي قامت به ((الكدحاء الرثة)) lumpenprolitariat التي نزحت من الريف الى المدينة بسبب اضطراب سياسات الشاه الاقتصادية فقامت بنشاط واسع في احداث اضطرابات تبريز مطلع عام 1978 وفسح المجال امام جماهير ايران العريضة لمواجهة رصاص الجيش والشرطة.
على ان جميع هذه العناصر كانت اداة التغيير لا عقله المحرك. فجرى استغلالها، وذهب منها اكثر الضحايا، دون ان تفيد من التغيير شيئا. ذلك ان هؤلاء الثوريين لم يكونوا في معرض القيام بثورة وانما كانوا مطية لعملية قيصرية اتفقت عليها المصالح الاجتماعية التقليدية الخارجية منها والمحلية لايقاف التحولات الاقتصادية الجذرية التي كان الشاه محمد رضا بهلوي يسعى بها الى استكمال الحلم الذي بدأه ابوه الشاه رضا خان وكان يتهدد بها وضع ايران الاقتصادي من حيث هو جزء اساسي من المناطق المحيطية التي تخدم سيادة الغرب الصناعي على العالم ومن حيث هو، تخصيصا، جزء اساسي من علاقات النفط الدولية وبالتالي ارباح شركات النفط العالمية .
فالاصلاح الزراعي الذي قام به الشاه محمد رضا عام 1962 أضر بمصالح الاقطاعيين الكبار في ايران، وان هو افادهم في تحويل ثرواتهم العينية الى سيولة نقدية اعادوا استثمارها في عقارات المدن غير الزراعية وخلقوا بها موجة الفورة العمرانية عقب 1973. والاصلاح الزراعي اضر ايضا بطبقة رجال الدين وان افادها التعويض المالي السائل لقاء ما ارغمت على التخلي عنه من اطيان كانت تملكها نظريا المساجد والاضرحة والمقامات.
كذلك اضرت سياسة التصنيع والتحديث بمصالح الكثير من فئات الطبقة الوسطى التقليدية اذ خلقت هذه السياسة امتيازات جديدة وفرصا في اعتلاء الهرم الاجتماعي ادت الى خلق طبقة وسطى جديدة حباها الشاه بكثير من العناية والتشجيع من حيث هي رمز التقدم و ((المدنية الكبرى)) فنافست الطبقة التقليدية واضعفت مراكزها.
وسعي الشاه الى تطوير التجارة الخارجية والداخلية، ومن ثم حملته على تجار ((البازار)) الذين كانوا يسيطرون على ثلثي تجارة الجملة المحلية وثلث الاستيرادات فضلا عن جانب من عمليات الاقراض المالي الخاص وكثير من محصول العملات الاجنبية، قد اضر ايضا بهذه الفئة فسارعت الى اداء دورها التاريخي ومولت ((الثورة)).(3)
فقبل ان يعتلي الخميني نفسه موجة التغيير ويركز السلطات في يديه، كان ائتلاف هذه القوى الاجتماعية التقليدية الاساسية بالتحالف مع المصالح الغربية قد قرر اصدار حكم الاعدام على عهد الشاه لأنه تمرد على الغرب وتمرد على التقاليد في آن.

◊ دور الاعلام الغربي
لقد صوّر الاعلام الغربي تنفيذ هذا الحكم بأنه بدأ عندما ((ادركت الطبقة الوسطى الايرانية، في حزيران 1977، مدى الاخفاق في مسيرة الشاه نحو المدنية الكبرى))(4) فحرر ستة من بقايا ((الجبهة القومية)) لعل اهمهم شهبور بختيار رسالة الى الشاه انتقدوا فيها سياساته، فاعقبهم المحامون فبقايا النخبة العليا من المجتمع الايراني. واستمر النقد حتى تحول الى احتجاج بالرغم من تنازلات الشاه السطحية التدريجية المتزايدة واقباله على سياسة ((التحرر المقيد)) وقناعته في المرحلة الاولى بأن زيارته الى واشنطن للاجتماع بالرئيس الامريكي كارتر وزيارة هذا له في طهران خلال تشرين الاول 1977 كان يعني رضا الحلفاء الغربيين عامة والامريكيين بخاصة عن بقائه في السلطة.
ويذهب الاعلام الغربي ايضا الى ان شدة الفوضى التي نشأت عن سياسة الشاه الاقتصادية والجفوة السياسية بينه وبين الجماهير الايرانية وغيبة الديمقراطية، قد افضت جميعا الى حصول القطيعة التي لا عودة بعدها، فعزفت الطبقة الوسطى التقليدية عنه وقام ممثلوها بتكوين تحالف سياسي ما لبث ان تحول بالتدريج الى سعي تستحثه الاحداث المتسارعة الى ايجاد بديل للسلطة القائمة. وكان من اهم عناصر هذا التحالف: ((الدستوريون)) الذين اتوه في الغالب من قادة ((الجبهة القومية)) كبختيار وأميني وسنجابي (وهم اقرب الى اليسار والنزعة القومية) و ((الاسلاميون)) الذين انضووا تحت قيادة مهدي بزركان و ((حركة التحرير الايرانية)) (التي ترفض الفكرة الاشتراكية) و ((الخمينيون)) الذين تفردوا على التدريج بالسلطة مقصين جميع حلفائهم وبقية العناصر المؤيدة للتغيير.
وقد اظهر الاعلام (في تأكيده على ((كراهة)) الخميني للغرب عامة والولايات المتحدة خاصة، واصطباغ حركة التغيير بالطابع القومي ودعم فلول حركة مصدق لها، ثم قيام الطلاب باحتجاز رهائن السفارة الاميركية واقدام الرئيس كارتر على ((محاولة انقاذهم)) بالطائرات العمودية وما اعقب ذلك من قطيعة دبلوماسية) ان ((ثورة)) ايران على الشاه كانت ايضا ((ثورة على الغرب)).
غير ان ما حرص على اهماله الاعلام الغربي، والاعلام السائر في ركابه، انما هو الدور الفعال الذي قامت به المصالح الغربية في اسقاط الشاه. فالتغيير الحاسم الذي تم في ايران اواخر 1978 وأوائل 1979 لم يكن وحسب نتيجة لتمرد الشاه محمد رضا بهلوي على الهيمنة الغربية في ايران وانما ايضا ثمرة مباشرة لقرار وزارة الخارجية الأميركية والرئيس جيمي كارتر بأن دعم زبغينيو بريجنسكي وسواه من صانعي القرار الاميركيين لم يعد صحيحا(5) وان ارسال حاملة الطائرات الاميركية الى المياه الايرانية لم يعد ضروريا(6) وأن المستقبل القريب اصبح في ((أيدي الخميني الامينة)) بحلول كانون الثاني 1979(7) فأعلن سايروس فانس يوم 11/1/1979 قرار الولايات المتحدة بتسفير الشاه خارج ايران في عطلة لا محدودة(8) فاذا كان الشاه مرغما على القبول بالحكومة العسكرية ((خلافا لاجتهاده))(9) وعاجزا عن السيطرة على اجهزة السلطة العسكرية والادارية بالرغم من انه كان يفترض به ان يكون قابضا على زمام الحكم بيد من حديد فان الاميركيين هم الذين اقنعوا جنرالات الشاه (أوفيسي وفسروداد، ورابي)(10) بالتنازل وتسليم الحكم للخميني.
كلا، ما كان هذا الدور الأميركي الحاسم نتيجة لحكمة اميركية دفعت اليها الرغبة بحماية احد أعمدة الاستعمار الأميركي في المنطقة وانقاذه من موت محقق بعدما دارت عليه الدوائر، وانما كان نتيجة لعملية قيصرية طويلة نسقتها المخابرات الغربية(الأميركية والبريطانية و ((الاسرائيلية)) بخاصة) في ايران بالتعاون مع المخابرات الايرانية (السافاك) وبعض السفارات الغربية وغير الغربية وكثير من صانعي القرار الثانويين في المنطقة.
في نهاية 1976 شن الرئيس كارتر حملته السياسية المشهورة لاعادة ترتيب الاوضاع السياسية في البلدان التابعة للولايات المتحدة باسم ((الدفاع عن حقوق الانسان)). وقد استجاب لهذا الضوء الأخضر بختيار وسنجابي وزملاؤهما بكتابة رسالتهم الى الشاه (حزيران 1977). وسمحت المخابرات الأميركية ــ الايرانية لهذه المجموعة ((الدستورية)) من السياسيين بنشر عشرة آلاف نسخة من هذه الرسالة في طهران حيث كان يفترض ان تكون الأعين ساهرة ضد اي معارضة ، وقد أدرك الشاه معنى هذه الحملة الموعز بها من الخارج فتراجع امام ((الضغط الاميركي)) بعدما جمحت به ثقته التامة بأصدقائه الغربيين واحتقاره التام للطبقات التقليدية الرجعية في ايران الى الانفراد شبه التام بالسلطة والاتجاه الذي ينبغي ان تسير فيه السلطة. لكن تراجعه لم يكن كافياً، لأن الشاه رفض ان يقبل التخلي عن الحلم الذي كان يمضي فيه، وهذا الحلم كان ينطوي على تحدي المصالح الغربية في ايران وتغيير منزلة ايران التابعة في نظام الهيمنة العالمية. فجاء التراجع جزئياً واقتصر على الميدان السياسي فلم يكن امام الولايات المتحدة بخاصة من طريق آخر سوى ازاحة الشاه من الطريق.

◊ تنشيط التيارات الاسلامية
يقول الباحث البريطاني روبرت غريهام: ((كان الشاه تحت ضغط اوقعته عليه الولايات المتحدة والحكومات الغربية طيلة عامين على الاقل. لكن هذا الضغط لم يكن سابقاً ذا اثر كبير… فأدركت الحكومات الغربية انها عاجزة عن ارغام الشاه على التغيير وانه ينبغي عليها العمل بطريق غير مباشر)).. فاقتضى الأخذ بهذا الطريق غير المباشر: استمرار الابتسام للشاه والطعن في ظهره في آن. وأي طريق كان اسهل عليها اقتياداً، امام عناد الشاه الاقتصادي وتغزله السياسي بها في فترة ما يعرف باسم سياسة ((التحرر المقيد)) من تنشيط المعارضة المأمونة: ((الدستوريين)) و ((الاسلاميين)) و((الخمينيين)). ففي هذا التنشيط احسنت المخابرات الغربية والايرانية اداء دورها خلافاً للصورة الهزيلة التي حرصت هذه المخابرات، والاعلام السائر في ركابها، على اعطائها للناس اثناء معالجة الوضع في ايران. فركبت فرساً بعد فرس واجهضت ((الثورة الممكنة)) التي ظن اليسار الايراني انه كان يمكن تحويل موجة التغيير نحو تفجيرها وذلك بمقدار ما اثار الخمينيون جماهير ايران لارتكاب اعمال الفوضى الدموية: أولاً بالتحريض والعنف الغوغائي داخل ايران، وثانياً بتحويل الانظار عن الاهداف الثورية الى العدوان على الاقليات غير الايرانية ثم العدوان على الجيران من الدول العربية. فلقد كانت المخابرات الايرانية (سافاك) ومن ورائها المخابرات الاميركية وتجار ((البازار)) صاحبة اليد الطولى في دفع ((الكدحاء الرثة)) (التي تتألف من الشبان الصغار ((العديمي الجذور)) النازحين الى احياء المدن الفقيرة) الى تحدي القوات المسلحة بمجابهة رعناء في ((تبريز)) و((طهران)) في الوقت الذي دفعت هذه القوات الى اطلاق النار وتصعيد المشاعر، ووضعت مكبرات الصوت التي تذيع اصوات طلقات الرصاص وسفحت الدماء المصطنعة في الحفر ومصارف المياه لتضخم في اذهان العامة ارهاب الشاه، ثم منعت العسكريين من التدخل لحماية العرش فسهلت لقيادات الخميني ان تسيطر على رجل الشارع بدلا من قيادات اليسار ومكَّنت نظام الشاه من الانهيار تدريجياً في حضن البديل المأمون المختار.
فاذا قام الحكم الجديد يوم 31 آذار 1979 باستفتاء عام صوّت فيه رجل الشارع المهتاج على انشاء جمهورية ((اسلامية)) (دون اي تحديد او تعريف لماهية هذه الجمهورية يحول في ما بعد دون اتمام ((الثورة المضادة)) على ما أخذ به الشاه من تصنيع وتحديث وفصم لايران عن دور ((التبعية التنموية)) و((التنمية التابعة)) ) واصلت القوى التقليدية والأجنبية تعزيز مواقعها فأقصت رفقاء الطريق من عمال وعصابات فدائية وطلاب ونساء وسواهم من الزمر اليسارية التي أرادت ركوب الموجة ((الثورية))، كما اقصت او اغتالت جميع العناصر القيادية غير المؤتمن لها في صفوف ((الدستوريين)) و((الاسلاميين)) و((الخمينيين)) انفسهم (كبختيار، وبني صدر، وبهشتي وقطب زاده)، فيما حرصت على اطالة الحرب مع العراق والاستفادة اكثر ما يمكن من طاقة ايران الاقتصادية كي تضمن في آن معاً بقاء ايران والعراق في اسار التنمية اللاهثة العاجزة عن بلوغ مستوى التطور الصناعي والاستقلال عن المصالح الغربية.

◊ قوة العراق
لكن عودة ايران الى النهج ((العقلاني)) الرأسمالي التابع لم يحقق لهذه المصالح الغربية كل ما ارادت تحقيقه من معالجة تمرد الشاه. فالحرب قد كلفت ايران نحواً من سنتين من ناتجها القومي الاجمالي، ومنحت الشركات الغربية فرصاً عظيمة لبيع السلاح في الحاضر وبيع السلع السلمية في المستقبل. لكن الحرب افادت العراق افادة خطيرة: فلأول مرة في تاريخ العرب يكتسب جيش عربي خبرة قتالية لا مثيل لها، وتوضع الادارة العراقية موضع تجربة مرة تقوي عودها لمهمات التصنيع والتنمية المستقلة، سواء حل السلام سريعاً ام لم يحل. والحرب، رغم كل ما اوقعته بالعراق من ضرر مادي وبشري، ماتزال اقل كلفة وخسارة من النسب المعروفة في الحروب الطويلة ولا تتجاوز في مطلع عامها الخامس خُمْسَيْ نسبة الضحايا التي حلت بالولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية، فكان لابد للمصالح الغربية ان تسعى عند الخميني في ايران الى اطالة الحرب والحيلولة دون انتصار العراق. ولا يكفي ان تمد هذه المصالح ايديها لانقاذ الاقتصاد الايراني واستغلال نفطه في آن بتوقيع عقود طويلة الأمد للحصول عليه باسعار تدنو عن المستوى الرسمي بمقدار 5 و6 دولاراً في البرميل(كما قدرت مجلة ((يُورُومني)) Euromony البريطانية الرصينة(12) وانما ارادت ايضاً اضعاف الاقتصاد العراقي حفاظاً على مبدأ التوازن بين البلدين وعدم تمكين العراق احراز الظفر في ظروف ايران الاقتصادية والعسكرية الصعبة. ولتحقيق هذا الهدف، هدف اضعاف العراق اقتصادياً بعدما اخفق الايرانيون في اضعافه عسكرياً وسياسياً، وبعدما تمكن الغربيون من استخدام نظام الخميني في اضعاف ايران اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، قررت الولايات المتحدة ايقاع الضغط على فرنسا وسواها لمنعها من التبادل الجاري مع العراق وقررت بريطانيا وألمانيا الغربية ان تعزز هذا الضغط بسؤال شركاتها الاستمرار في مشاريعها الحالية مع العراق لكن عدم الدخول في اي مشاريع جديدة ، غير ان قوة العراق العسكرية والسياسية في مواجهة اربع سنوات من العدوان كقوته الاقتصادية، انما تستمد قدرتها على الاستمرار والنمو من اصالة الشعب العراقي ورغبته في المقاومة والنضال والظفر. فالقوة الاقتصادية لا تنبع من رضا التجار الاجانب ولا من حسن نوايا الشركات الدولية او المصارف العالمية، وانما تنبع من ارادة الشعب على الاستمرار في الانتاج وحسن تنظيمه وعدالة توزيعه.

◊ ايران الثورية الاسلامية
كانت مصادر الاعلام الغربية إبان المرحلة الجديدة من انفتاح اوروبا الغربية والولايات المتحدة على ما يسمى عادة بــ((ايران الثورية المسلمة)) قد نقلت ان ((الامام الفقيه آية الله روح الله الخميني)) وعددا من كبار اعوانه قد عقدوا في ((حسينية بني فاطمة)) في ايران مؤتمرا خطيرا قرروا فيه ((بث الثورة الاسلامية الى جميع اقطار العالم ولا سيما الاقطار العربية المجاورة)).
وقد تبعها عدد من مصادر الاعلام العربية، في مرحلة ((مؤقتة)) من انفتاح بعض اقطار الخليج على القومية الفارسية التوسعية في ايران، ان الامارات العربية المتحدة قد اقترحت في ((مجلس التعاون الخليجي)) ان تدفع الى حكومة الخميني في ايران ما يلزم من اموال لاعادة بناء ما دمرته حرب الخليج مقابل ان تتعهد حكومة الخميني بالتوقف عن ((بث الثورة الاسلامية)) الى البلدان العربية من الخليج. ويؤدي، في هذا التصور، توقيع الطرفين ((اتفاقية عدم اعتداء مشترك)) الى ان يحمي الذئب الايراني الحمل الوديع في الخليج .

◊ العراق يسقط المشروع الايراني
ويشبه سلوك الاحمال الوديعة في الخليج ((سياسة الاسترضاء)) التي اتبعتها اوروبا الغربية علنا والاتحاد السوفياتي ضمنا بعد وصول الزعيم النازي ادولف هتلر الى السلطة في المانيا وقيامه بتعبئة الجماهير الالمانية والنمساوية باسم الاشتراكية ضد الاشتراكية وباسم الوطن لتوسيع الوطن على حساب الاوطان الاخرى. فقام الجيران، في مطلع الامر، بتجنب استيراد الثورة النازية من طريق ما اسماه المؤرخون ((استرضاء العدو على حساب المبادئ اجتنابا لشره او عدوانه)). فما كان في هذه السياسة ما يكسب الوقت لمنع الاستيراد ولا كان منها ما يرد الشر او يرجئ العدوان، ولو اتيحت بها حماية اي وطن دون استثناء بما في ذلك وطن الالمان نفسه الذي وقع آخر الامر فريسة لهذا التوسع القومي فتحققت بهزيمته تجزئة المانيا الى اليوم.
فسياسة التقية والاحتماء لا تمكن احمال الخليج الوديعة، العاجزة عن حماية نفسها من احد ولا ان تفر من التحدي القومي الاسلامي الخطير الذي يفرضه ((نظام الخميني)) على العرب وعلى الاسلام في آن. ولا تجدي هذه المسالمة باكثر مما يجدي دس النعامة رأسها في الرمل، حتى عندما تغور في اعماق الرمل آبار التبر الاسود أو تغطي صفحته الجرداء قصور مليئة بدولارات النفط.
فلو تمكن ((نظام الخميني)) من تقويض العروبة في العراق وبدأ بتمزيقه كما فعلت ((اسرائيل)) في بلاد الشام، فمن يحمي نعامة الخليج العربي من بندقية الصياد الايراني الذي صاد قبلها جماهير الاسلام في ايران، وحولها عن اهدافها المشروعة في التحرر والازدهار، وركب موجة السخط الجماهيري على الشاه والايمان الاسلامي بحق الحياة فعبأ الجماهير الايرانية ضد الاقليات غير الايرانية في ايران وضد الاحزاب الثورية التقدمية والعروبة في عربستان. واقام، بديلا عن النظام التقدمي الذي حاولت جماهير ايران سنين طويلة رفع عماده، نظاما توسعيا رجعيا باسم الاسلام ضد الاسلام وباسم الوطن على حساب بقية الاوطان.

◊ الخميني ضد الاسلام وروحه
لو كان الخميني، في اقامته الطويلة بفرنسا قبل الثورة الايرانية الاخيرة قد تعلم الدرس التاريخي الخطير الذي ضربه نابليون بونابرت في تصدير الثورات الشعبية المسلحة الى الخارج سبيلا الى احتوائها واجهاضها في الداخل لادرك ان مدى هذا الطريق قصير. لكن اصول نابليون كانت ابسط من اصول الخميني، فلا بد ان يأتي نظام الاخير اعتى واخطر لانه ابعد عن التحسس بآلام الانسان البسيط. فيجمع بين نظام نابليون ونظام باباوات الكنيسة قبل ان تنفصل عن الدولة، وذلك شأنا كان عليه هذا النظام في عهد آل بورجيا في ايطاليا.
كان نابليون يستمد سلطانه من ارادة الشعب فيضطر ان يذهب الى روما للحصول على بركة الكنيسة. اما الخميني فيستمد سلطانه من ((ارادة الله)) ويضفي بركته على الشعب كما يفعل بابا الكنيسة. وفيما كان لويس الرابع عشر يقول ((انا الدولة والدولة انا)). صار الخميني يقول ((انا (الخميني) روح الله وروح الله انا (الخميني) )) وهو اقرب الى تأليه الذات من التمسك بروح الاسلام.
وفي نظام نابليون يمكن ان يتخلى الشعب عن ارادته ويمنحها كليا الى الحاكم، فيصبح هو الآمر الناهي المطلق او ما يعرف في التاريخ الاسلامي باسم ((الحاكم بامره)). ويتمكن بذلك من خداع الجماهير عن ذاتها وتحويل انظارها عن مصالحها الاجتماعية والاقتصادية واجهاض حركتها العفوية النازعة الى اقامة نظام سياسي تسوده العدالة والمساواة والحرية واحترام الانسان. فلا يمكن للشعب في هذا الاسر القاهر ان يسترجع ارادته بالثورة على الحاكم. وتنشأ ضرورة ((تصدير الثورة)) لامتصاص الطاقة الثورية العظيمة في الجمهور واخصاء ارادته الراغبة بتغيير اوضاعه الاجتماعية الاقتصادية الداخلية.
على ان ((نظام الخميني)) يضيف الى ((نظام نابليون)) بعدا آخر يجعل نظامه اقوى واخطر في المرحلة الاولى من اغتصاب الارادة الشعبية. ففي ((ولاية الفقيه)) التي يقيمها نظام الخميني في ايران لا يمكن للشعب ان يسترجع ارادته لانه لم تكن له في مبادئ هذا النظام اي ارادة اصلا، وتصبح الثورة على الحاكم كفرا ورجسا من عمل الشيطان .
فتصدير الثورة الايرانية التي اغتصب الخميني قيادتها 1978 يضع نهاية لارادة الشعب الايراني في الحال والاستقبال. ويمكن بذلك ان يقرر الفقيه ارادة الشعب كما يقرر ((ارادة الله)) ويتصرف على انه ((روح الله)) في الارض كما هو روح الله من السماء . ويمكن له ان يفسر مصادر الاسلام الذي اغتصب حركته كما يفسر بقية الشرائع والقوانين ويدخل من البدع ويقيم من الاحكام ما يشاء لنفسه ان يدخل ويقيم. وهو في هذا كله معصوم .
فنظام الخميني برأسه ((المتأله)) وعصابته الدينية الحالية الحاكمة منه ــ وهي ما يطلق عليه علماء السياسة اسم ((الاولغاركية)) ــ لا يضع نهاية لارادة الشعب وحسب وانما نهاية لبقية مصادر التشريع في الاسلام جميعا، وهو يفقد بذلك الشرع الاسلامي من اي روح اسلامية. ولا يقصد بمقررات مجلس الخميني في ((حسينية بني فاطمة)) وتعبير ((بث الثورة الاسلامية)) اشاعة الاسلام في بلاد الاسلام فعلا، وانما يقصد بها تصعيد ((ثورة الخميني)) على ثورة الجماهير الايرانية في مرحلة جديدة من احتوائها واخصائها بعيدا عن اهدافها الاجتماعية الاقتصادية الداخلية، وتصعيد الحرب على العرب برد البضاعة الى اهلها ممسوخة مشوهة كما فعل قادة الفرس في العهد العباسي وقادة الاتراك في العهد العثماني على السواء.
وقد اظهر الباحثون خطوات ثورة الخميني المضادة في قالبها البسيط: فثورة الشاه البيضاء لم تكن اكثر من محاولة بارعة لامتصاص ثورة مصدق القومية التحررية، فافضت ((الثورة البيضاء)) ولاسيما من 1962 الى 1978 الى نمو عظيم في ثروات الطبقة الوسطى وانهيار احوال العمال وسكان الريف. فالتحمت الحركة القومية في ايران بحركة الفدائيين اليسارية ونشاط العمال في المدن. وظهرت لاول مرة في تاريخ ايران، هذا القرن، حركة اجتماعية سياسية متكاملة تتجنب اخطاء الانقسام الداخلي والضياع العقائدي. وادركت المصالح النفطية وغير النفطية في الغرب اخطار هذه الحركة على بقاء الشاه. فحرضت طبقة آيات الرجعية التي حاربت الحركة القومية ومطالب الفلاحين في ايران سنين طويلة على التحرك شأن ما فعلت الكنيسة في روما للحركة المعارضة في بولندا.
وكان قرابة 20000 طالب ايراني في الخارج فغذتهم ((الاشتراكية الدولية)) بأفكار ليون تروتسكي اليهودي. ورغم ان تروتسكي اعلن بصراحة في اكثر من كتاب انه ((ضد تصدير الثورة بالسلاح)) الا ان وفاته المفاجئة وسيطرة الحركة الصهيونية والاستخبارات البريطانية والاميركية على اتباعه في ((الاشتراكية الدولية)) قد افضت الى تفسير صراعه مع ستالين واخذ هذا بمبدأ ((بناء الاشتراكية في بعد واحد)) انه يعني ((تصدير الثورة اسلوبا اساسي في النجاح)). والواقع ان تصدير الثورة اسلوب اساسي في النجاح بتقويضها لانه يوسع الرقعة فيضيف اليها من الاعداء اكثر مما يضيف اليها من الانصار.
هذا ولم تأت قرارات ((الثورة)) في الاعوام الثلاثة. الماضية بأي تغيير محسوس على توزيع الاملاك وبالتالي على توزيع القوى الاجتماعية في البلاد. فالثورة وضحاياها خلال ارهاب الخميني جاءت ((عملية قيصرية)) لاجهاض الثورة. وتصديرها الى الخارج طريقة مكملة لهذا الاجهاض على حساب العرب. وهو ايضا امر لم يتورع عنه نابليون في عدوانه على مصر وفلسطين قبل ان يتسلم مقاليد السلطة في فرنسا ويزج بجماهيرها من مدريد الى موسكو فيضع بذلك العدوان نهاية للثورة الفرنسية وشعاراتها في الآخاء والحرية والمساواة.
وقد كانت تقوية الجيش الايراني من طريق اطالة الحرب في الخليج، والسعي الى تقويض العروبة في العراق، والتحالف مع الحكم العسكري في سورية المتواطئ مع اعداء الثورة الفلسطينية في لبنان مقدمة لاستكمال مخطط كبير يعده الغرب في المشرق العربي ويستهدف به اعادة تنظيم اوضاعه النفطية والعسكرية. فيستخدم تزييف الاسلام في ايران ضد الاسلام، كما استخدم من قبل تزييف الديمقراطية في لبنان ضد الديمقراطية، وتزييف الاشتراكية في سورية ضد الاشتراكية، وتزييف السلام في مصر ضد السلام، وتزييف القومية العربية في اكثر من بلد عربي ضد القومية العربية.
وانما استهدف تصدير ((الثورة الايرانية)) الخمينية باسم الاسلام ان يكون حلقة جديدة من المؤامرة الكبرى على الوطن العربي. فان هي فاجأت المغفلين والنائمين في عقر دورهم فانها لا تفاجيء العقلاء الذين يرفضون المسالمة بين الذئب والانسان.

¤ هوامش
Iran, the lllusion of Power. London 1979.p.46.
فوجود اي من هذين التنظيمين لا يحل في ذاته مشكلة العلاقات الاقتصادية التي تشد البلد النامي الى المصالح الأجنبية التي تمتص خبراته وتكبل تطوره. وانما الذي يهدد هذه العلاقات هو السعي الى خلق هذه القاعدة الصناعية.
انظر روبرت غريهام: ايران ــ وهم السلطة. ص 225 ــ 226 وانباء الاقتصاد MEED، ص8 من15 ــ 21/7/1983.
روبرت غريهام: ايران ــ وهم السلطة. ص208.
نيوزويك 29/1/1979.
المرجع السابق.
هيرالد تريبيون الدولية وواشنطن بوست 4/1/1979.
هيرالد تريبيون الدولية 24/1/1979.
روبرت غريهام (ص235).
المرجع السابق
روبرت غريهام، ص226.
Euromoney,Juin1982,p.84.
Quincy Wrisht: A Studies of War, War Chfuachès

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب