23 ديسمبر، 2024 4:42 ص

الاستشراق ووهم المؤامره !!!

الاستشراق ووهم المؤامره !!!

في الغرب ولقرون, ارتبط المفهوم المثالي عن العرب والاسلام بصفات الاستبداد والظلم والارهاب ونقيضا” للحرية والفردانية والليبرالية، وهو خلاصة التصنيف الغربي اللاهوتي لثقافة الشر والخير، وثمرة الموضوعية الافتراضية والمنهجية الأوربية في دراسة الاسلام والثقافة العربية، إذْ رغم الاختلاف الشاسع بين طبيعة المقاربات والمدارس الاستشراقيه التي انتجت هذا الفهم في العصر الكلاسيكي للاستشراق الاّ إنها تكاد تتفق على ان العرب(قوم يركبون الجمال، إرهابيون، أنوفهم معقوفة، فاسقون، مرتشون، لا يستحقون ثرواتهم وهم إهانة حقيقية للحضارة), اما بعد اختلاط هذه الرؤية مع روح الهيمنة والتحكم وتفكيك هوية الاخر مع طبيعة النشأة الرسمية لمدارس الاستشراق, فقد أنتج وعيا غربيا” عن الاسلام تمتلئ فجواته بكل ما تحمله مخيلة الشيطان من شر مطلق وسواد حالك. فرغم انتهاء العصر الكلاسيكي للاستشراق منذ السبعينات من القرن الماضي الا ان القراءات المعاصرة لازالت متشبعة بالإرث القديم في ادوات التفكيك والتركيب المنهجي وتحاكي في رؤيتها انماط المدارس القديمة كالألمانية في فيلو لوجيا التاريخ او البنيوية الفرانكفورتية او الاركيولوجيا البريطانية.
يعتبر الراهب (جربرت) والذي أُنتخِبَ كحبر أعظم للكنيسة في عام 999م, اول من وردت اسمائهم من المستشرقين الرهبان في التاريخ، حيث درس الطب والفلسفة في المدارس الإسلامية في الاندلس ثم تلاه (جيرارد كريمون) في1114م وغيرهم ممن دفعهم الحماس الى تأسيس المدارس الاستشراقيه التي تُعنى بالنتاج الثقافي العربي المترجم الى اللاتينية.
استمر البحث الغربي في جوانب الثقافة العربية ستة قرون تخللها اعمال جريئة في دراسة القران والسنه النبوية، كان اخرها في القرن الثامن عشر بعدها بدأت اوربا لعبتها المقيتة مع الثقافة العربية في التبشير والتجهيل، كان الخدر الإسلامي في اوجه في ذلك القرن، ولم تكن الهوية العربية متجسده في بناء دفاعي عسكري او ثقافي امام غزو استعماري وثقافي بمنتهى الوحشية. حيث انبرت كبار المؤسسات العلمية على نهب ما تصله ايدي المستشرقين من مخطوطات وكتب قديمة او على شرائها بأبخس الاثمان.
بعد بلوغ الحركات الثورية والمشاريع المتصارعة في المنطقة العربية مرحلة الخواء الأيديولوجي، وظهور الاسلام السياسي كبديل انتحاري للنخب العربية، ظهر تيار براغماتي او ذرائعي تدعمه دوائر تجاريه في التسويق الاعلامي على تبني الرؤية (المحايدة) الغربية في مقارباتها لحلول المنطقة والاحتكام للدراسات الشرقية.
ارتبط الاستشراق في اذهان السلفيين والحركات الدينية، بالاستعمار، واستنزاف الغرب لثروات الشرق، وانتقلت هذه السمعة السيئة الى الرعيل الاول من التنويرين العرب كطه حسين وتوفيق الحكيم، حيث كانوا يعتبرونهم تلاميذ لعلماء الشيطان الغربيين.
ولم يتوقف هذا التوجه حتى ارتقى مستوا” منهجيا” على يد فلاسفة محدثين، هم اقرب لروح الغرب من الشرق ولكن الريبة والقلق المعلن من تشويه الاسلام ,والشك في نزاهة الاستشراق جعلت مفكر مثل إدوارد سعيد يؤلف كتاب مثيرا” للجدل حول الاستشراق.
دشن ادوارد سعيد كتابه (الاستشراق) بعبارة ماركس (إنهم عاجزون عن تمثيل أنفسهم ,ينبغي أن يمثلوا) والذي كان يتهم فيه المستشرقين بشرقنة الشرق أي عزل الوصف الانساني عن الشرق واعتباره مغارة للعجائب, لذلك لا ينتقص من انسانية الغرب التلاعب او استعمار او سرقة هذا الشرق الذي كان ساعةً مريضا” وساعة مجرد كنوز مدفونه بلا هويه, لذلك يقول ادوارد ( ان جوهر الاستشراق هو التمييز الذي يستحيل اجتثاثه بين الفوقية الغربية والدونية الشرقية).
وينطلق في كتابه على اساس ان مفهوم الثقافة التي بلورها الغرب عن الشرق ولّد سلطه تفكيك هذا الشرق ثقافيا” واعادة صياغته ليس على اساس تصورات أيديولوجية غير علميه كما يقول ماركس وانما بمثاليه مغرقه حيث لا وجود موضوعي لغير ما يراه الغرب موضوعيا، ولا لحقيقه معرفيه تجمع الغربي مع الشرق، فقط علاقة تقليديه بين مهيمن ومستَعبد. أي انها معرفه غير حقيقية وانما تشكيل زائف كونه الغرب بحسب الدلالات التقليدية في التوليف الصوري، فعندما يتكلم الغربي عن الشرق فأنه لا يتكلم عن الحقيقة وانما فقط عن تصورات خياليه حسب مفهوم ميشيل فوكو للخطاب الثقافي.
ولكن رغم ذلك توصف الدراسات الاستشراقيه لبعض المستشرقين بالرصانة العلمية , حتى إن الدارس العربي او المسلم يميل الى تصديق البحث الغربي للمستشرقين اكثر من البحث المحلي, وما عزز النظرة الدونية للنتاج الثقافي العربي هو التجميع غير الواعي للأحداث التاريخية, وانعدام النزاهة في الحكم, وافتقار الدراسات العربية للمهنية والاحتراف لان اغلبها يتم اعداده دعائيا” لهذه الرئيس او ذاك الزعيم , بالإضافة الى ذلك هناك خلل منهجي وجده الغربيون قبل ان نشعر به في الخطاب الثقافي العربي والاسلامي حيث تمتاز الدراسات العربية والإسلامية ب(اللاتأريخيه) أي ان المعلومة التاريخية في المدونات لا ترتبط بواقعها التاريخي بل يتم التعاطي معها كحدث معزول ومنفصل عن الابعاد الحيوية في تكوينها.
يقول شاتو بريان “إن الشرقيين لا يعرفون الحرية وهم يحتاجون الفاتحين كل فترة”، بهذه العبارة تتبلور الرؤية الغربية في عدائها للشرق، ويعتبر كرومر ان الغزو والعدوان الغربي هو تحريرا” ومخلصا” لهم، اما لإمارتين الشاعر والكاتب الكبير يقول ان العرب (أمم بلا أراضٍ، ولا أوطان، ولا حقوق، ولا قوانين ولا أمن، تنتظر بقلق حماية الاحتلال الأوروبي لها) , لتتعزز تاريخيا” هذه المقولات بتوجهات الغرب بعد اكتشاف البترول في المنطقة العربية, بحيث تجلت هيمنتهم كجلوس الضبع قرب فريسته في الادغال ينتظر ان يجوع مرة” ليلتهم ما تبقى.
رغم كل ما قيل وما سوف يقال، لا يمكن الاتفاق مع السلفيين او ادوارد سعيد فيما ذهب اليه في شيطنة الاستشراق عندما نمر على الاعمال العظيمة التي قام بها اوجست فيشر الذي قضى 40 سنه يجمع كتابه عن فهرست الأحاديث النبوية او ما قام به هادريان ريلاند في كتابه ( الديانة المحمدية) والذي دافع فيه عن الاسلام بشكل رائع, بالإضافة الى من فك رموز اللغات القديمة كالسومرية والهيروغليفية, اذْ يجد المرء نفسه امام اعمال لا يمكن اغفالها او اسقاطها عند محاولة الحكم على النتاج والابداع على ايدي علماء اسهموا في تعزيز الهوية الإسلامية مثل كتابات جولدزيهر ومارجليوت وشاخت وكولسن وبرنارد لويس وهاملتون جب وتوماس أرنولد وبروكلمان, ورينان وغيرهم, رغم الاجحاف الذي نراه في حكمهم على الاحداث ولكنها تبقى اكثر صرامه منهجيه واقل عبثيه مما يكتبه العرب الان عن تاريخهم.