16 سبتمبر، 2024 9:59 م
Search
Close this search box.

الارتباط العضوي بين فساد الكبار والصغار

الارتباط العضوي بين فساد الكبار والصغار

هناك رابطة قوية بين حيتان الفساد وصغار الموظفين الفاسدين ؛ تتجاوز مفهوم التحالف الوقتي او الصفقات العابرة ؛ فقد أصبح فساد الصغار جزءًا من فساد الكبار والذي هو بدوره ينتمي لمنظومة الفساد العالمية والمافيات الدولية ؛ وهو ترابط تفرضه معطيات الواقع ومخرجات العملية السياسية الراهنة والضغوط الخارجية … ؛ والفساد من السمات التي كانت ولا تزال تميز حكومات دول العالم الثالث , وقد لا يكون الفساد وليد البيئات المحلية , انما هو المطلوب من الحكام والساسة والمسؤولين والموظفين العملاء والخونة في هذا البلد او ذاك ؛ والمأمورين بتنفيذه من قبل الاستعمار و القوى الدولية الكبرى والمخابرات الخارجية , وقد يكون نتيجة للبيئات المحلية والتربية المجتمعية ؛ وقد يكون نتاج العاملين الخارجي والداخلي , فالعلاقة بينهما علاقة وثيقة .

نعم في تجربتنا العراقية , نحن نعلم علم اليقين بأن قوى الاستعمار والاستكبار ومنذ تأسيس الدولة العراقية المعاصرة عام 1921 ؛ امرت الحكام والساسة المحليين بالبيروقراطية وسوء الادارة والدكتاتورية والفساد بكافة اشكاله وانواعه وبالعنف والقسوة … الخ ؛ اذ يجانب الحق والصدق من يدعي ان الامريكان وسائر القوى والجهات الدولية والاقليمية المتنفذة لا تعلم بحقيقة المشاريع الوهمية والاستثمارات البائسة في العراق او لا تعلم بمقدار الاموال المسروقة والمهربة الى الخارج , فكل هذه الصفقات المنكوسة والعمليات المشبوهة تجري بعلم هؤلاء الكبار , وما هؤلاء الا موظفين صغار يحصلون على فتات الموائد وان كان ذلك الفتات يقدر احيانا ب مليارات الدولارات ؛ مقابل رهن كل ثروات وامكانيات وطاقات البلاد بالإرادة الاجنبية الغاشمة … ؛ الا ان هذا لا يعفي الشعب بجماهيره ونخبه من مسؤولياته التاريخية والاخلاقية والانسانية والوطنية , فليس من المعقول أن تأمر قوى الاستكبار والاستعمار جماهير ونخب وساسة الشعب بالفساد , فيهرعوا مسرعين الى الفساد عن بكرة ابيهم من دون تأنيب ضمير او خوف من العواقب ؛ امتثالا للأوامر الاجنبية , فمن الاجحاف وعدم الانصاف اهمال العوامل المحلية والتربية المجتمعية والثقافة السائدة بين ابناء البلد , نعم هما كالسبب والمسبب او العلة والمعلول اذ توجد سنخية بينهما بنحو من الانحاء ؛ فلولا تشجيع الاجنبي لما اقدم المواطن على الفساد , ولولا انحلال وضعف وخسة شخصية المواطن وانعدام وعيه لما استطاع الاجنبي من تنفيذ اجنداته التخريبية … .

و قد استنسخ الفاسدون في الداخل تجربتهم مع اسيادهم في الخارج , اذ عمدوا الى انشاء علاقات معقدة بينهم – باعتبارهم حيتان الفساد او الفاسدون الكبار- وبين صغار الفاسدين من المسؤولين والموظفين وغيرهما ؛ لذلك يخطئ من يطلق دعوات محاربة الفاسدين الصغار وانزال اقسى العقوبات بحقهم , او دعوات تقنين الفساد وحصره بدائرة الكبار فقط والقضاء على شراذم صغار الفاسدين وتطهير دوائر الدولة منهم , فهؤلاء كالذين يحاولون التفريق بين الليل والظلام والشمس والضياء , فكما ان الضياء من لوازم الشمس , كذلك صغار الفاسدين من لوازم وجود حيتان الفساد واستمرارها وبقاءها , فوجود أولئك مرتبط بوجود هؤلاء , والشواهد على ما ذهبنا اليه كثيرة , فعندما تباع الوزارة على الوزير والدائرة على المدير والوحدة العسكرية على الضابط بأموال طائلة ومبالغ كبيرة , فهذا يعني ان امام هؤلاء طريقان لا ثالث لهما , اما انهم اشتروا المنصب بأموال خارجية وهذه القوى الخارجية سوف تسترد هذه الاموال من خلال تقديم التسهيلات لها وحصولها على الاستثمارات والامتيازات , او انهم اشتروا المنصب بأموالهم الخاصة او الحزبية والتي سوف تسترجع وبأضعاف مضاعفة من خلال التلاعب بمقدرات الوزارة او الدائرة او الوحدة العسكرية … الخ ؛ فالمدير العام في دائرة المرور – مثلا – يطالب صغار الضباط ورجال المرور كافة بالسعي الحثيث من اجل تحصيل الغرامات من المواطنين حتى وان كانت مجحفة وباطلة , واتمام المعاملات وان كانت مزورة وغير قانونية , وكذلك هو الحال مع امر الوحدة العسكرية الفلانية الذي يستولي على مخصصات الوحدة العسكرية من الوقود والمواد الغذائية وغيرها , ويتواطئ مع الضباط الصغار والجنود على اخلاء سبيل الجنود مقابل الحصول منهم على اموال معينة , وهذه الظاهرة تسمى ب ظاهرة الفضائيين والمقصود بهم الجنود وغيرهم من موظفي الدولة الذين لا يلتزمون بالدوام الرسمي ويجلسون في بيوتهم مقابل دفعهم اموال معلومة للفاسدين المسؤولين عنهم ؛ فلولا هؤلاء لما اكتنز الذهب والفضة أولئك .

لذلك وعلى الرغم من إعلان الحكومات العراقية المتعاقبة عن تشكيل العديد من اللجان لمكافحة الفساد , وعلى الرغم من كل الدعوات والاجراءات والقوانين التي تهدف الى مكافحة الفاسدين ، فضلا عن منظمات المجتمع المدني والاف المقالات والاخبار والبرامج الصحفية والاعلامية التي تندد بالفساد والفاسدين ؛ تبقى معدلات الفساد عالية وتبوء كل تلك الدعوات والاجراءات بالفشل الذريع , لأنها تدور في حلقة مفرغة , ولا اجد مثلا شعبيا ينطبق على هذه الحالة , اكثر من المثل العراقي القائل : (( السمجة خايسة من راسها )) اذ ان الحاكم والمسؤول والسياسي والموظف الحكومي منوطة به مسؤولية حماية الوطن والمواطن وعدم التفريط بالمصالح الوطنية , فاذا تحول هذا الحاكم او السياسي او المسؤول الى اداة طيعة بيد قوى العدوان والاستعمار والاستكبار او معول هدام بيد الاجانب ؛ سوف تنهار منظومة القيم الوطنية اذ يسقط القدوة من اعين الشعب , والمثل الاعلى سيتحول الى محرض لارتكاب جرائم الفساد والتحايل على القانون ؛ وعندها ينطبق علينا قول الشاعر :

وراعي الشاة يحمي الذئب عنها *** فكيف إذا الرعاة لها ذئاب؟!!

وليت الامر يقف عند خيانة هؤلاء وفسادهم بل يمتد الى عموم طبقات الشعب بما فيها النخب , اذ يتأثر هؤلاء بأولئك ويعم الفساد وينتشر الخراب في كل مفاصل الدولة ؛ من باب : اذا كان رب البيت بالدف ضاربا فشيمة أهل البيت كلهم الرقص … ؛ فالفساد يبدأ من اعلى الهرم الحكومي ثم ينزل الى ابسط موظف في دوائر الدولة ؛ وهل يعقل ان الاشخاص الذين تسببوا بالفساد ونشروه في كافة مفاصل الدولة كالسرطان ؛ يستطيعون ايقافه والقضاء عليه ؟!

بل ان زيادة الهيئات وتكرار تشكيل اللجان ؛ سيزيد الطين بلة ويساهم في ضياع الادلة , لأنها تعتمد في عملها على الروتين والبيروقراطية والمحسوبية وتدخل القوى والارادات المحلية والخارجية , وتعد هذه العوامل بيئة ملائمة لنمو شبكات الفساد وتمددها ؛ وعليه أي نية حقيقية وارادة وطنية للإصلاح يجب أن يسبقها التفكير خارج هذا الصندوق الاسود , واختيار أشخاص مستقلين وطنيين يتصدون للفساد من خارج المنظومة السياسية والاقتصادية ، وليس من داخلها كون أغلبهم مرتبطين بهذا المنظومة الفاسدة بطريقة أو بأخرى من خلال المحاصصة والمصالح الحزبية أو العائلية والارتباطات الخارجية المشبوهة .

أحدث المقالات