يمثل محمود محمد طه رقما في العمل العام في السودان يصعب تجاوزه، فمنذ مناهضة الاستعمار الي مناهضة الديكتاتورية العسكرية والتعصب الديني الاسلاموي ( نظام نميري تحديدا خاصة بعد تحالفه مع التيار الاخواني بقيادة حسن الترابي )، و شجاعته التي اوصلته للتضحية بحياته وفاءا للمبدأ الذي اعتنقه.
الي هنا الأمر مفهوم رغم ان الغوغاء لا يزالون يجادلون بردته وخروجه علي الملة بما يسمح لهم باستحلال دمه و حياته! الا ان الاشكالية تكمن في التوصيف الدقيق لاقوال و اعمال الشهيد محمود، بمعني هل تصنفه في خانة المفكرين السياسيين ام الفلاسفة؟! ام هل هو مصلح ديني؟! وهل التيار الذي انشأه ( الاخوان الجمهوريون ) هو جماعة وطائفة دينية ام هو مذهب سياسي؟ هل هو طريقة صوفية ام مذهب فكري؟! ام هو مجرد حزب سياسي ( الحزب الجمهوري السوداني- الاسلامي؟! وهل يمكن تصنيفه كاسلام سياسي-صوفي! ام هو مجرد اسلام سياسي؟!
هذه كلها اسئلة لها دواعيها وتستحق البحث لها عن اجابات..
انقسمت النخب كما العوام في السودان الي فرقتين؛ محبين ( مريدين ) للشهيد مادحين لاعماله وافعاله، و آخرين قادحين له و فيه ومؤيدين لحكم اعدامه كمرتد خارج عن الملة ومتجاوزين عن الاساس القانوني لمحاكمته و لحد الردة المطعون في مشروعيته حتي من قبل بعض الاسلامويين…
لكن الجميع يغض النظر عن وضع اقوال واعمال الشهيد في سياق الدرس والتمحيص والتأريخ!
هذا التجاهل هو السبب الرئيسي للجمود الذي اصاب منهجه بعد رحيله، صحيح ان اعدامه صحبته حملة ارهاب وتخويف سممت الجو المعرفي و حقل العمل العام كله، لكن هذا لا يمنع من تأمل اثاره سيما من قبل الكثير من المثقفين الذين غادروا السودان للعيش في اوروبا و اميركا بما فيهم تلامذته والمقربون منه! لكنهم كغيرهم انخرطوا في احد الفريقين ( القادح او المادح ).
لعل ما تسبب في ضعف اثر الشهيد الأستاذ هو انه وزع جهده في اكثر من مجال و حقل، فهو من جهة مفكر سياسي و في نفس الوقت سياسي ومؤسس حزب يلاحق مستجدات السياسة، لكن يقدح في ذلك انشغال الديني فالاحزاب تقوم علي مصالح اعضاء الحزب و العامة من جمهور الحزب دون النظر الي اختلاف الدين؛ ومن جهة ثالثة هو مصلح ديني ( اسلامي ) صاحب تفسير و رؤية جديدة تماما؛ فهو اول من قال ان انقسام سور القرآن الي مكي و مدني يستتبع انقسام في الحكم والاستنباط .. و هو فيلسوف صاحب تأملات و مقولات، ومفكر له منهجية يتبعها في انشغالاته بالقضايا العامة،
لكن ايضا هذه الصفة فيها ما يقدح، فالفلسفة والفكر ايضا لا تنشغل بالدين الا في حدود عامة دون التحيز لدين او تفضيل لمذهب!
فالمفكر والفيلسوف ينظر لكل الاديان بمنظور واحد ولا يتعامل الا مع الثابت منها كحقيقة واقعية وعلمية، اما الغيبيات فهي شغل المؤمن المسلم ( من التسليم ) وليست عمل المفكر والفيلسوف الذين شغلهم الشك باستمرار و الاختبار والتمحيص..
اما المؤسسة او الهيئة التي عمل علي تكوينها فهي غير واضحة المعالم و الصيغة! هل هي طائفة دينية جديدة؟ ام تيار فكري؟ وهل هي مدرسة فلسفية ام حزب سياسي؟ فلكل منها متطلباتها التي تختلف عن الاخريات فالمذهب الديني غير الحزب السياسي، والتيار الفكري يختلف عنهما معا!
و اذا اخذنا الحزب الجمهوري الذي ينضوي تحت لواءه عدد من تلامذة الشهيد يحق لنا ان نسأل هل هو حزب اسلام سياسي صوفي؟ و ما الفرق بين الاسلام السياسي ( الحركي-الاخواني ) و الاسلام الصوفي؟ ! بل وما الفرق اصلا بين الاسلام السياسي السني والاسلام السياسي الشيعي؟!!!
و لأن الاخوان الجمهوريين لم ينشغلوا بتحديد توجه منظومتهم، فيما بين الطائفة والمذهب و الحزب السياسي؛ و هل كل من اقتناع بافكار الشهيد الدينية هو عضو بالتالي في حزبه! وكل عضو في الحزب الجمهوري هو من حواريي مذهبه الديني الاسلامي الاصلاحي؟!
لم يهتموا بهذه التقاطعات لذا تاهوا في خضم القضايا الدينية و السياسية والفلسفية و انتهي بها الحال لأن تكون مجرد رابطة اجتماعية!