17 نوفمبر، 2024 1:22 م
Search
Close this search box.

الاخلاق عند دوستويفسكي

الاخلاق عند دوستويفسكي

أعتقد أنّ دوستويفسكي أهتم، اهتمامًا منقطع النظير، بمبدأ الاخلاق والقضية الخلقية؛ وذلك من خلال جُل اعماله الروائية، حيث اوضح ذلك على لسان ابطال اعماله تلك.

ونحن، نعد هذا الاديب الكبير بأنه أحد الفلاسفة الاخلاقيين الكبار. ذلك للاهتمام البائن في بعض رواياته، ومنها على سبيل المثال رواية “حُلم العم” وكذلك رواية “الجريمة والعقاب” و “الليالي البيضاء”. وهو يطرح كل ذلك على اعتبار أنه فيلسوف اخلاق. فمن الفلاسفة الاخلاقيين الفيلسوف اسبينوزا، صاحب كتاب “علم الاخلاق” والكتاب يعُد من اعظم كتب الاخلاق في العصر الحديث، وجعل اسبينوزا كتابه هذا على شكل هندسي.

ويرى زكريا ابراهيم إن “أهم طابع يُمثِّل النظرية الأخلاقية عند اسبينوزا هو القول إن الإنسان لا يقف بمعزل عن الطبيعة وقوانينها؛ فاسبينوزا قد انتقد بشدة أولئك الذين تصوروا الإنسان على أنه «يقف من الطبيعة كأنه دولة داخل الدولة، ويظنون … أن له سلطانًا مطلقًا على أفعاله، وأن شيئًا لا يتحكم فيه سوى ذاته». فنقطة البداية الأساسية في هذه النظرية الأخلاقية هي الإدراك العلمي للارتباط بين الإنسان وبين الطبيعة بوجه عام؛ ومن ثم تأكيد سيادة فكرة الضرورة في مجال الإنسان بدوره، «فمن المحال ألا يكون الإنسان جزءًا من الطبيعة، أو أن يكون قادرًا على ألا يتأثر إلا بالتغيرات التي يمكن فهمها من خلال طبيعته بوصفها العلة الكافية لها». (فؤاد زكريا- اسبينوزا- ص 196، دار التنوير، بيروت سنة الطبع 2005)

يقول اسبينوزا- وهو يؤكد أن العقل هو مصدر الخير والشر- وبالتالي نحرز عن طريق العقل قضايا الخلقيّة: “إن الرغبة المتولدة من العقل تجعلنا نسعى الى الخير بصورة مباشرة ونتجنب الشر بصورة غير مباشرة” (علم الاخلاق، ص 292، منشورات المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الاولى بيروت – لبنان سنة الطبع 2009)

“…هل هذه الكتب اخلاقية أو لا، لأنها إذا كانت كتبًا غير اخلاقية.. لا يجوز لكِ اطلاقا أن تقرئيها، ستتعلمين منها أشياء قبيحة”. (دوستويفسكي – الليالي البيضاء- ص 56، المركز الثقافي العربي، لسنة 2016، بترجمة إدريس الملياني)

يعتقد دوستويفسكي أن الكتب المختلفة الاتجاهات والاغراض والاهداف، هي تحمل ما تحمل بين طياتها: من افكار ومبادئ وقيم، ونظريات ذو ابعاد مختلفة، جديرة بأن تحرّف الانسان عن كثير من القيم غير الانسانية وغير الاخلاقية، بطريقة او بأخرى، لأنه ليس جميع الكتب هي بمنأى عن الانحراف، أو لدس السّم بالعسل. ثم أن هناك كتب تطرح قضايا واتجاهات معينة، تكون ذو اغراض ايضًا معينة، وتكون كذلك مدفوعة الثمن، كالقضايا السياسية الفكرية او الدينية او العرقية او غيرها، او حتى الحزبية والايديولوجية تتبنى فكرة بعينها، وقد ننخدع ببعض مضامين تلك الكتب البراقة. لكن الكتب التي تتعلق بالأخلاق، وفلسفتها، والتي تسعى الى بث روح المحبة والوئام في كافة طبقات المجتمعات المختلفة، او التي تسعى الى التسامح ونبذ الفرقة، وتروم تطبيق مبادئ حقوق الانسان، وتؤكد على أن البشر هُم سواسية، ولدوا احرارًا وسيعيشون احرارًا كذلك، فلا فضل انسان على انسان آخر، الا بالعلم والاخلاق والمعرفة. فكلما زاد الانسان علمه واخلاقه سيكون محترمًا وسط المجتمع الذي يعيش فيه، وينظر اليه المجتمع بالإعجاب والاكبار، ويكنّ له كل الاحترام.

لهذا يطرح أحد ابطال روايات دوستويفسكي السؤال التالي: “لماذا أفضل إنسان في العالم يخفي دائمًا شيئاً عن جاره ويبقى صامتا أمامه؟، لماذا لا يستطيع المرء أن يفضي صراحة، هنا، والآن بكل ما في قلبه، ما دام يعرف أنه لن يتكلم هذرًا؟ لأن كل شخص يريد أن يظهر نفسه اقصى مما هو في الواقع، كأن الناس جميعًا يخشون تشويه عواطفهم اذا هُم عبرّوا عنها قبل الاوان”. (الليالي البيضاء، ص 79، مصدر سابق)

والسؤال، رغم أنه سؤال يتعلق بالأخلاق، لكن فيه قيم فلسفية سامية أخرى، وطالما كون موضوعنا يتعلق بالأخلاق حصرًا، وما حولها، سنركز على موضوعة الاخلاق. فبطل هذه الرواية يشكل على كثير من الناس، الذين هم يعُدون من افضل الناس، لكنهم، مع ذلك يخفون على جيرانهم، وهم اقرب الناس اليهم، لأنه في تماس معهم، يراهم ويرونه صباحًا ومساءً. ومع ذلك يحاول أن يخفي قضايا كثيرة عن جاره (غير القضايا الشخصية طبعًا). فهذه يعدها دوستويفسكي أو بطل الرواية، صفة ذميمة لا تمنو عن اخلاق حميدة. والاهم من كل ذلك هو: أنّ هذا الشخص، الذي يعتبر شخص فاضل، والفاضل لا يخرج منه ألا الكلام النقي، الكلام الذي يكون في محله، فهو كلام بعيد كل البعُد عن الهذر والقبح، بل كلام موزون يحمل من القيم ما لا يخجل هو منه، ولا يجعل من جاره أن يحمل عليه الحقد والضغينة.

وهذا، وقد اهتم دوستويفسكي اهتمامًا واضحًا في مبدأ “الفضيلة” واعدها مبدأ عظيم من مبادئ الاخلاق، والانسان الفاضل، الذي تنظر اليه الناس بعين الاحترام وتجله، وهو القائل: “..الافضل أن يكون الانسان مواطنًا شريفًا على أن ينتمي الى المجتمع الراقي.. لأنه في زماننا هذا لا نعرف من نحترم، إنها مصيبة هذا الزمن، نحن لا نعرف نقدر أليس كذلك؟”. (الزّوج الابدي: ص 208، منشورات المركز الثقافي العربي، لسنة 2008، الطبعة الثانية)

والفيلسوف نيتشة يعد أنّ هناك نوعان من الفضيلة، واحدة اطلق عليها فضيلة “واهية” أو ضالة، واخرى فضيلة “مستقيمة”.

حتى “لقد تاه العقل وتاهت الفضيلة فخدعتها آلاف الأمور، ولمَّا يزل هذا الجنون يتسلط على جسدنا حتى أصبح جزءًا منه فتحول فيه إلى إرادة. لقد قام العقل وقامت الفضيلة معه بتجارب عديدة فضلَّا على ألف سبيل، وهكذا أصبح الإنسان عبارة عن تجارب ومحاولات ألصقت بنا الجهل والضلال. وليس ما استقر فينا من التجارب حكمة الأجيال فحسب، بل جنونها أيضًا، ولكَمْ يتعرض الوارثون إلى أخطار”. (نيتشة – هكذا تكلم زرادشت: ص 95)

وهذا المفهوم النيتشوي قد لا يتعارض والمفهوم الدوستويفسكي، بخصوص الفضيلة، ففي رواية “حلم العم” اعطانا، هذا الكاتب الكبير، صورة واضحة المعالم عن الفضيلة، وذلك من خلال شخوص هذه الرواية، علاوة على ما ذكره في روايات أخرى.

ينتقد هذا الروائي الكبير عدم التخطيط لما نقول به من اعمال وافعال هي في صميم عملنا الانساني، وكذلك الاقتصادي الذي يخدم الجميع على حد سواء، وغير ذلك. والذين يدعون ذلك من دون التزام ولا تفكير حاسم، يصفهم دوستويفسكي بالكذابين. يقول: “وإننا نحسب ونخطط لمصالحنا حتى في اعمالنا الشريفة النزيهة، نحسب لها ونخطط من حيث لا نقصد ولا نريد! صحيح أن اغلب الناس يكذبون على انفسهم حين يحاولون أن يقتنعوا بأنهم لا يقدمون على ما يقدمون عليه الا بدافع من النبل والشرف، لكنني لست منهم، فأنا ارفض أن اكذب على نفسي، وإني لأعترف أن أهدافي مهما سمت لا اقدم عليها الا بعد حساب وتخطيط”. (حلم العم، ص 128)، وطبعًا يقول دوستويفسكي هذا الكلام على لسان أحد ابطاله في هذه الرواية، وبالتالي هو فكر هذا الروائي نفسه، بل وفلسفته، ولعله، حين ما يقول هذا الكلام، هو ليس ببعيد أن يتبنى هذا الكلام، او هذا الرأي الذي يتعلق بالأخلاق.

كذلك ينتقد، دوستويفسكي، بشدة، الناس الضعفاء في مواقفهم، وفي ترددهم باتخاذ مواقف حاسمة لها علاقة بالأخلاق، وهم دائمو الخضوع، ولم يكونوا في موقف واضح من الصلابة والعزيمة فيعتقد: “إن اصحاب الطباع الضعيفة الجوفاء الذين يتعودون على الخضوع الدائم، قد يتغلبون على ضعفهم احيانا فيحتجون، ويبرهنون على صلابة وعزيمة غير معتادة. لكن تلك العزيمة والصلابة لا تكون الا عابرة. إنهم عادة ما يبدؤون بالاحتجاج بكل ما يملكون من قوة، بل أن قوة احتجاجهم قد تبلغ حد الهياج، فينقضون على الحاجز الذي يقف امامهم بعيون مغمضة، ويحملون في اغلب الاوقات عبأ لا طاقة لهم به. ولكنهم ما أن يصلوا درجة معينة من الاندفاع حت يشعروا بالخوف فجأة فيتوقفون وهم يقولون لأنفسهم: “ماذا فعلت”؟ وفجأة ينهارون تماما، وينتحبون، وينتحلون الاعذار، بل يجثون على ركبهم طالبين العفو، ويتضرعون أن تعود الامور الى ما كانت عليه وفي اسرع وقت ممكن”. (المصدر السابق: ص 200)

وقريب من هذا الكلام هو قول بعضهم، إنه: “يولد الإنسان وفطرته ترشده إلى فعل مكارم الأخلاق، لكن فيما بعد قد تتعرض هذه الفطرة إلى التلوث بأفكار غريبة وخاطئة، فيكتسب الإنسان أخلاقًا غير صحيحة، مما يوقعه في الكثير من الأخطاء، لهذا من واجب كل شخص أن يُحافظ على فطرته السليمة التي تدعوه إلى الحض على الأخلاق الفاضلة وتجنب الأخلاق السيئة التي توصل الإنسان إلى الهلاك”.

ويسمح لما دوستويفسكي، احيانا، وفي مواقف معينة، بأن نكذب، بشرط أن يكون الكذب به مصلحة، خاصة او عامة، هي كالصلاح بين طرفين متخاصمين، او لغرض الدفاع عن شخص يتعرّض للأذى للقتل مثلا، او ما شابه، وهذا نص ما يقول دوستويفسكي: “إن الكذب ليغتفر حين يكون الهدف من ورائه انقاذ حياة انسان”. (المصدر نفسه، ص 75)

وهذا المعنى قريب جدا مما يسمح به المسلمون بهذا الخصوص، كالرأي الذي نسب الى ابن الجوزي. فيقول ابن الجوزي: «الكذب ليس حراماً لعينه، بل لما فيه من الضرر، والكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن أن يتوصل إليه بالصدق والكذب جمعياً، فالكذب فيه حرام، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح إذا كان يحصل ذلك المقصود مباحاً، وواجب إذا كان المقصود واجباً، إلا أنه ينبغي أن يتحرز عن الكذب ويوري بالمعاريض مهما أمكن، لأن الكذب إنما أبيح لضرورة أو حاجة» (انظر كشف المشكل ج 4 ص 459).

على اعتبار الحفاظ على الانسان وكرامته، هو جزء هام من الاخلاق، ومن طبيعة هذا الاخلاق التي جُبل الانسان أن يحافظ عليها، ومنها أن يحافظ على صنوه في هذه الحياة. فالحياة قد بُنيت على هذا المبدأ العظيم المسمى بالـ “أخلاق”، فاذا فقد المجتمع اخلاقه، وفقد الانسان اخلاقه، فسيصبح اقرب للحيوان منه الى الانسان. لذلك نجد دوستويفسكي حاول أن يؤكد على الاخلاق، وعلى مبدأ هذه الاخلاق، بل ويعالج جُل الامور والقضايا الاخرى، أن يعالجها بدواء الاخلاق، من خلال ادبه الروائي، فهذا الدواء هو الدواء الذي يشفي جميع الامراض الخلقية، ويحاول أن يعطي الانسان الاحساس النفسي والروحي، بقيمته العليا الحقيقية لطابع وجوده، واهمية وجود في هذه الحياة المترامية الاطراف.

أحدث المقالات