23 ديسمبر، 2024 6:45 ص

الاختلاف في الاتجاهات الفكرية

الاختلاف في الاتجاهات الفكرية

عندما يريد الإنسان دراسة الأفكار المتشعبة ويجهد نفسه في حل ألغاز كذا نوع من أنواع العلوم والإبحار في نظريات أهل العلم فإنه يواجه أمواجاً كثيرة تجرفه واتجاهات شتى تأخذ به وبناءً على هذا تبدأ لديه مرحلة التحليل والتنقيح فيكون موقفه من تلك الاتجاهات إما القناعة بها أو الخروج بما يخالفها، ولهذا فإن نشأة الفكر لا يمكن أن تعتمد على اتجاه الآحاد أو أخذ الآراء السقيمة قياساً إلى ما يجب العمل به في الأفكار الايجابية. ومن هنا نعلم أن ما يحثنا به القرآن الكريم على اعتماد الوسطية لا يعني أن تلك الوسطية التي تلتزم الموازنة في الجانب الايجابي وليس تلك التي تحدث طرفاً مضافاً، ولذلك فإن الغالب العام من هذه الأمة حين التزموا الوسطية ووضعوها في المكان غير المناسب كان هذا هو السبب في نشأة الاختلاف بين المذاهب والاتجاهات، حتى أصبحت ميول أصحاب القرار نحو الأهواء والرغبات معتبرين أن الآخرين في واد وهم في واد آخر وهذا ما أدى إلى تطور الخلاف المذموم بين المذاهب والفرق على اختلاف مللها ونحلها.

وعندما نريد دراسة تلك الانقسامات والتحكم بها نكون قد وجدنا الحل الأمثل لجمع الأفكار التي تفرقت بسبب الاختلاف غير السليم وبهذا نحصل على فكر مخالف وجديد يتمثل في المفاهيم العامة التي يرتكز عليها المجتمع وبنفس الطريقة التي شرعها الله تعالى في هذا المبدأ المتمثل في العبادات والأحكام من خلال النهج السليم لأن الاختلاف بطبيعة الحال يفضي بالأمة إلى الواقع المحيط بها والذي بموجبه تحسن التصرف في الأعباء الملقاة على عاتقها والمطلوب التمسك بها أما بخلاف هذا فإن الواقع المتزمت والاعتقاد المتخذ دخلاً بين أبناء الأمة تكون نتائجه غير سليمة.

وهذا الاختلاف الذي يبعث اليأس في حال هذه الأمة يتفرع على الاختلاف الفكري الذي شغل العلماء طيلة القرون السابقة إلى يومنا هذا، وإن كانت بعض المراحل لا تخلو من المخلصين الذين بذلوا الجهد لأجل التقريب بين الفرق المختلفة فكرياً، ولكن هذا العدد لقلته لا يمكن أن يجاري التيارات التي همها الهدم والتفريق لأن دافع هؤلاء لا يخرج عن حب التسلط والتحكم

بمصير السواد الأعظم من الناس ولو كان ذلك على حساب حقوق الآخرين. والأشد فتكاً بهذه الأمة من ذلك التيار الذي يعمل على علم وبينة تيار آخر يغلب عليه الجهل والتخلف وعدم مراعاة مصالح الآخرين وهذا التيار له اليد الطولى في القضاء على همم الطليعة التي تأمل على إصلاح ما أفسده السلف.

والاختلاف الذي يفرضه الواقع والمعتقد الحي بطبيعته يثري النهج السليم، حيث إن تعدد الآراء وفتح أكثر من باب للعلوم المختلفة تجعل المتلقي على يقين وطمأنينة عند دخوله هذا الصرح ومن أي الأبواب شاء وليس هناك أمر سالب في هذا لأن القرآن الكريم جعل من الاختلاف أمراً ايجابياً كما قال تعالى: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين… إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) هود 118- 119. ولو أخذنا هذا الاختلاف الذي أشارت إليه الآية الكريمة على عمومه لكان مفهوماً عاماً ينطوي تحته ألف عنوان من اختلاف الألوان والألسن والرغبات والقوة والضعف وما إلى ذلك، بحيث يتفرع على هذا تكامل الحياة وخدمة البعض للبعض الآخر كما قال تعالى: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخريا) الزخرف 32.

فإن قيل: إذا كان الاختلاف أمراً مشروعاً فلماذا لا يحق لنا أن نختار الدين الذي نرغب به؟ أقول: إن الاستعداد الديني خارج عن الاختلاف لأنه أمر فطري جبل عليه الإنسان كما قال تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) الروم 30. لكن الذي حدث فيما بعد من تفرق الناس واختيارهم الطرق البعيدة عن الدين ما هو إلا خروج عن الفطرة وهذا يعد من البغي على دين الله كما قال تعالى: (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم) الشورى 14. وكذلك قوله: (فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) الجاثية 17. وهذا ما أشرنا إليه من تصادم الأطماع والجهل الناتج من العلماء ومن يعمل على شاكلتهم ولهذا فإن القرآن الكريم يؤكد دائماً على أن الناس أمة واحدة وتحت ظلال فطرة واحدة لكن الاختلاف السلبي جعل الحاجة ماسة لإرسال الرسل والأنبياء لسد هذا الفراغ الذي أوجده الاختلاف لذلك قال جل شأنه: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه

إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) البقرة 213. وكذلك قوله: (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون) يونس 19.

[email protected]