الألوان، اللغات، المأكل، الملبس، الموسيقى، نوع العمل، الدراسة، الانتماء، بصمات الأصابع، لون العيون. إلى آخر الاختلافات التكوينية أو التشريعية، التي يختلف فيها الناس بين الممارسة والرغبة التي ينشأ من خلالها السلوك الإنساني كما قال تعالى: (قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا) الإسراء 84. وكذلك قوله: (فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون) المؤمنون 53. وقوله: (من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون) الروم 32. والاختلاف الذي يؤطر الحياة ويعمل على إدامتها واستمرارها ما هو إلا فطرة جبل الناس عليها فلا يمكن إتفاق الناس في كل شيء لأن هذا يؤدي إلى كساد الحياة وجمودها وبالتالي تقف حركة التطور والقيام بأقل الأعمال التي تسير الفرد والمجتمع، ومن أكثر الاختلافات التي يكون لها التأثير المباشر في حياة أي مجتمع من المجتمعات وفي أي زمان ومكان هو الاختلاف الفكري فإن قبل قبل ما سواه وإن رد رد ما سواه لأنه النهج الذي تقوم عليه الحياة وهو الكفيل بفتح أبواب العلم وتشعباتها لذلك عندما يريد الإنسان الولوج إلى مداخل الفكر المتشعبة ويجهد نفسه في حل ألغاز كذا نوع من العلوم والأفكار والإبحار في نظريات أهل العلم فإنه يواجه أمواجاً كثيرة تجرفه واتجاهات شتى تأخذ به ومن هنا تبدأ لديه مرحلة التحليل والتنقيح فيكون موقفه من تلك الاتجاهات إما القناعة بأحدها أو تعديل أو إضافة أو الخروج بما يخالف تلك الاتجاهات. ومن هنا فإن نشأت الفكر لا يمكن أن تعتمد على إتجاه الآحاد وكذلك لا يمكنها الأخذ بمختلف الآراء التي تكون سقيمة قياساً إلى ما يجب العمل به في الأفكار الايجابية لذلك فإننا نجد أن الاختلاف في أي سلوك يمثل حياة الكائن العاقل لا بد أن يتشعب منه إتجاهان إما السلب وإما الايجاب.
لذلك فإن ما يحثنا به القرآن الكريم على اعتماد الوسطية لا يعني أن تلك الوسطية التي تكون بين السلب والايجاب وإنما الوسطية التي تلتزم الموازنة في الجانب الايجابي وليس تلك التي تحدث طرفاً مضافاً، ومن هنا نرى أن الغالب العام من هذه الأمة حين التزموا الوسطية التي كانوا يعتقدون بأنها الحد الفاصل بين الواقع والحقيقة ووضعوها في المكان غير المناسب كان هذا هو السبب في نشأت الاختلاف في المذاهب والطرق والنزعات التي ألحدت في جانب السلب، لأن أصحاب القرار كانت ميولهم نحو الأهواء والعقل الجمعي معتبرين أن الآخرين في واد وهم في واد آخر وكان هذا هو السبب في تطور الخلاف المذموم بين المذاهب والفرق على اختلاف مللها ونحلها وعندما نريد دراسة تلك الانقسامات والتحكم بها نكون قد فتحنا جميع الأبواب التي أرصدت من قبل التيارات التي أخذت الإتجاه المعاكس، وعند ذلك يمكننا جمع الأفكار التي تفرقت بسبب الاختلاف غير السليم وبهذا نحصل على فكر مخالف وجديد يتمثل في المفاهيم العامة التي يرتكز عليها المجتمع وبنفس الطريقة التي شرعها الله في هذا المبدأ المتمثل في العبادات والأحكام من خلال النهج السليم لأن الاختلاف بطبيعة الحال يفضي بالأمة إلى الواقع المحيط بها والذي بموجبه تحسن التصرف في الأعباء الملقاة على عاتقها والمطلوب التمسك بها كالتآلف والإتحاد كما يتجسد ذلك في الشعائر الدينية من إقامة صلاة الجماعة والحج أو الاجتماع على قلب رجل واحد في كل أمر جامع، أما بخلاف هذا فإن الواقع المتزمت والاعتقاد المتخذ دخلاً بين أبناء الأمة تكون نتائجه سلبية لا محال ولذلك فإننا نلمس هذا في الاختلاف السلبي المتمثل في عدم الإتفاق على يوم مشترك لصيام رمضان أو عيد الفطر أو الأضحى وهكذا.
وهذا الاختلاف الذي يبعث اليأس في حال هذه الأمة ولم شملها يتفرع على الاختلاف الفكري الذي شغل العلماء طيلة القرون السابقة إلى يومنا هذا، وإن كانت بعض المراحل لا تخلو من المخلصين الذين بذلوا الجهد لأجل التقريب بين الفرق المختلفة فكرياً، ولكن هذا العدد لقلته لا يمكن أن يجاري التيارات التي همها الهدم والتفريق لأن دوافع هؤلاء وأهدافهم ليس في مصلحة العامة من الناس وإنما حب التسلط والتحكم بمصير السواد الأعظم من الناس ولو كان ذلك على حساب حقوق الآخرين.
والأشد فتكاً بهذه الأمة من ذلك التيار الذي يعمل على علم وبينة تيار آخر يغلب عليه الجهل والتخلف وعدم مراعاة مصالح الآخرين وهذا التيار له اليد الطولى في القضاء على همم الطليعة التي تأمل على إصلاح ما أفسده السلف.
والاختلاف الفكري الذي يفرضه الواقع والمعتقد الحي بطبيعته يثري النهج السليم، حيث أن تعدد الآراء وفتح أكثر من باب للعلوم المختلفة تجعل المتلقي على يقين وطمأنينة عند دخوله هذا الصرح ومن أي الأبواب شاء وليس هناك أمر سالب في هذا لأن القرآن الكريم جعل من الاختلاف أمراً ايجابياً كما قال تعالى: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين***إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) هود 118-119. ولو أخذنا هذا الاختلاف الذي أشارت إليه الآية الكريمة على عمومه لكان مفهوماً عاماً ينطوي تحته ألف عنوان من اختلاف الألوان والألسن والرغبات والميول والقوة والضعف وغيرها بحيث يتفرع على هذا تكامل الحياة وخدمة البعض للبعض الآخر كما قال تعالى: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخريا) الزخرف 32.
فإن قيل: لطالما هذا الاختلاف أمر مشروع فلماذا لا يحق لنا أن نختار إما الدين وإما الإلحاد أو أية طريقة أخرى؟ أقول: إن الاستعداد الديني خارج عن الاختلاف لأنه أمر فطري جبل عليه الإنسان كما قال تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) الروم 30. لكن الذي حدث فيما بعد من تفرق الناس واختيارهم الطرق البعيدة عن الدين ما هو إلا خروج عن الفطرة وهذا يعد من البغي على دين الله كما قال تعالى: (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم) الشورى 14. وكذلك قوله: (فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) الجاثية 17. وهذا ما أشرنا له من تصادم الأطماع والجهل الناتج من العلماء ومن يعمل على شاكلتهم ومن هنا فإننا نجد القرآن الكريم يؤكد دائماً على أن الناس أمة واحدة وتحت ظلال فطرة واحدة لكن الاختلاف السلبي جعل الحاجة ماسة لإرسال الرسل والأنبياء لسد هذا الفراغ الذي أوجده الاختلاف لذلك قال جل شأنه: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) البقرة 213. وكذلك قوله: (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون) يونس 19. وكان المانع من القضاء على الطرف الذي بغى في دين الله هو الكلمة التي سبقت منه تعالى والتي جاء ذكرها في الآية [36 من سورة البقرة] وهي قوله: (ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين).