18 ديسمبر، 2024 7:39 م

الاختلاف الثقافي للشعوب .. تجربة من القاهرة

الاختلاف الثقافي للشعوب .. تجربة من القاهرة

السفر حلم يشتغل فيه المخيال لتحقيق الواقع، حلم يحاول إزاحة الاشتغالات الذهنية و ترك الاوتار العقلية تعمل بدون تكلف او عناء، السفر هو جهد الجسد على حساب تأملات العقل، فدعة و أناة الروح يتحقق معناها عند سبر المسافات و قطع الأشواط و مغادرة المألوف.

أجريت بعض الزيارات الاستكشافية المهمة في مصر، كالأهرام و المتحف و جامع الأزهر و مقام سيدنا الحسين و السيدة زينب و ميدان التحرير و قلعة محمد علي و بعض المقاهي و الاماكن و الاسواق الاثرية.
أستطيع ان أزعم ان لكل مكان قصة او حادثة جديرة بالذكر، سأتطرق الى ثلاثة حوادث رأيتها اليوم.
1- ذهبت الى المتحف برفقة سائق التكسي ( يحيى) رجل طيب جداً قلت له ما رأيك ان تدخل معي المتحف رحب بالفكرة كثيراً لانه لم يزر المتحف منذ ما يقارب العشرين عاماً ، تجولنا هناك بين أثار عمرها آلاف السنين ، منحوتات و تماثيل و قبور و مومياء، انواع مختلفة عددها بالآف، عندما دخلت الى قاعة المومياء و جدت ما يقارب عشرة هياكل بشرية، كان أولهم رمسيس او فرعون، تأملت به طويلاً نظرت الى طوله و اسنانه و عظامه، حاولت ان ألتقط له صورة لكن القانون لا يسمح بذلك، فأحترمت القانون. كان منظر فرعون يستدعي التأمل الجاد ،لخلق حياة تليق بِنَا كبشر دون الاستعلاء او إستعداء الناس الآخرين ممن يختلفون معنا في الفكر او الدين او الطائفة.
2- ذهبت أنا و يحيى الى مرقد سيدنا الحسين، وإذا به مكان واسع و كبير، فيه مصلى و يتوسطه منبر للخطابة ، يقع المقام في الجهة اليمنى، وهو مقام صغير قياساً بالمقامات الموجودة عندنا بالعراق،سبقتني رغبتي بالتطلع و استكشاف ماذا يفعل المصريون عند المقام، حتى ان أحد المشايخ المشرفين و المقيمين هناك وهو رجل في السبعين من العمر ذو لحية طويلة و عينان مكحلتان، بهلوان اقرب منه الى رجل دين، رأني محدقاً بتفاصل المكان و حركات الاشخاص و مشاهد الطقسنة و كيفية الخضوع و الاستذلال بالدعاء و التوسل بالمقام، لم يلحظ الشيخ تأثري بالمكان لكنه لاحظ انني لم أمسك بحذائي بالطريقة المتعارفة فنبهني لذلك جزاه الله خيراً!
الذات المهمة في هذه التوطئة، عندما خرجنا، قلت ليحيى هل الموجودون في مقام الحسين مصريون؟ قال و بلهجته المحببة آيوه كلهم مصريين، قلت لكن السلفيين و بعض رجال الدين السنة يعتبرون هذا شرك ؟ قال هو إيه يعمي شرك ! هذا مجرد صلاة و دعاء ، ( مهمه السلفيون خربوا البلاد العربية)
قلت له الشيعة يفعلون نفس الشىء و العالم الاسلامي يكفرهم ؟ قال لا يعمي الشيعة يعبدون الحسين ! قلت من قال لك ؟ سكت .

قلت هل تثق بكلامي قال ، آي والله ، قلت له الشيعة يؤمنون بالحسين كما تؤمن انت بالضبط وهم لا يعبدون الائمة إطلاقاً. تختلف طرق التعبير و الممارسة الطقوسية بين المذاهب وهذا أمر حاصل في جميع المذاهب و الملل.
لا ألوم يحيى فهو وديع صادق و يتعامل بإخلاص مع موروثه الديني الذي تعلمه من بيئته المصرية المنفتحة على الديانات و الثقافات ، لكني أوبخ الموروث الذي يكرّس ثقافة الكراهية بين البشر. لا يختلف يحيى عن غالبية الأفراد فهو منقاد الى ثقافة وراثية تقليدية غير قابلة للتجديد او المفاكرة.

3- مساءً اتصلت بي الصديقة الدكتورة نادية عويدات من امريكا، دار بيننا حديث أقترحت عليّ أسم شخص لكي ألتقي به ،كانت قد حدثته عني مسبقاً قلت لامانع لدّي خاصة وانا اثق بإختيارات د. نادية للصداقة و اعرف مقاييسها في تشخيص الأفراد . أرسل لي الرجل رسالة قال انا حاب ألتقي بك .
تواعدنا على الساعة الثامنة و في تمام الثامنة جاء أيمن كامل، حاملاً إبتسامة لطيفة و قلباً كبيراً و ثقافة عالية ، ذهبنا الى احدى المقاهي، أخذنا الحديث فغافلنا الوقت ليندلق بسرعة، دون ان نشعر به. حديث إرتكز على تطوير الذات في رقي الذات، إمكانية خلق مساحة للحوار و السؤال في البيئة العربية، تجديد الاليات المعرفية في الاستكشاف و الاستدلال ذكرنا مأساة بعض المفكرين و أزمتهم مع المجتمع ، كان واحداً منهم ايمن الذي خرج حديثا من السجن بعد ان قضى ستة أشهر ،بسبب تهمة إزدراء الأديان.
أيمن عضو و مؤسس في منظمة علمانيون ، التي أتابعها منذ زمن في اليوتيوب و التي تستضيف نخبة من الأكاديميين و المفكرين و الفلاسفة.
ذكرت بعض الاساتذة المهمين في مصر مثل الدكتور مراد وهبة و الدكتور حسن حنف، قال لي ايمن ان الدكتور حسن حنفي حالته الصحية غير مستقرة وانا على تواصل معه ، ثم اتصل به هاتفياً و قدمني اليه و تحدثت مع الدكتور حنفي على انه احد المهمين في إثراء المكتبة العربية، استبشر خيراً و تمنى لو نلتقي بالايام القادمة .
لم يعد الجلوس ممكناً مع توفر الحركة ، غادرنا الى ميدان التحرير ثم الى بعض المكتبات و زرنا بطريقنا مؤسسة علمانيون.
كنت قبل ان تشرق شمس اليوم ، وحيداً تنتابني موجات من اللاراحة مع شعور بعدم معرفتي بالواقع وعدم معرفة الواقع بي ، لكنني شعرت بالراحة و الإبتهاج بعد رحلتي و مقابلتي للمتمرد على الواقع الاستاذ ايمن كمال.
تحية لكل الذين يحملون هاجس التغيير و الإبداع و التطلع نحو الإشراق .