-1-
الكائن البشريّ مُعَرَّضٌ لكثيرٍ من الأخطاء في قراراته ومساراته ، وتبقى العصمة لأهلها ،من الانبياء والأوصياء (عليهم السلام) الذين ليست لهم أخطاء ولا خطايا ، وتلك قضية لايرقى اليها شك …
ولكنّ السؤال المهم :
هل الوقوع في الخطأ قابلٌ للتصحيح ، أم أنه الانزلاق الى الهاوية والى الأبد؟
ومن الواضح :
ان الحصافة تقتضي الرجوع عن الخطأ ، باتخاذ المواقف والوسائل التي تغسل الأدران، وتفتح صفحات جديدة للانسان، تلتمع فيها سطور النقاء وتصحيح الأخطاء .
من يعمل قد يُخطأ ، ولكن يجب ان لايصر على الخطأ، مبادراً الى التصحيح بلا عناء ولا مكابرة …
لقد قيل في هذا السياق :
ان الاعتراف بالخطأ فضيلة، في اشارة الى ان المبادرات التصحيحية تصطبغ بطابع اخلاقي ، ذلك أنها تكتشف عن ان ما ارتكب من أخطاء لم يكن متعمداً، ولم يصدر عن رغبة في اختراق الخطوط الحمراء، وانما كان عن خلل في التقدير والحسابات .
-2-
وفي ملّف (الطف) تبرز قضية (الحرّ بن يزيد الرياحي)، الذي خرج لتنفيذ خطة رهيبة تحول دون وصول الامام الحسين (ع) الى كربلاء، ولكنه ما إنْ صلّى خلفه وفتح قلبه قبل أذنَيْه للاستماع الى ما قاله أبو الأحرار (ع) ، حتى أحَسَّ بفداحة ما ارتكبه من جريرة ، حين جعجع بالحسين .
-3-
وقال العلاّمة الشيخ محمد السماوي في كتابه (إبصار العين) :
كان الحرّ الرياحي شريفاً في قومه، في الجاهلية والاسلام ، فان جده عتاب كان رديف النعمان بن المنذر )
أقول :
لقد كان الحر شريفاً في نفسه ، وموقفهُ نابعٌ من شرف نفسه .
وهنا تكمن العظمة.
ان التاريخ يحدثنا عن نماذج ضلّت وخانت وهي في بحبوحة من الشرف العالي :
خذها من (ابن نوح) حتى تصل الى (ابن سعد) …..
ان شرف الاسرة لم يكن مانعاً من الانحدار الى الهاوية .
انها نقلة كبيرة ، شكلّت منعطفاً كبيراً في مسار الاحداث
لو لم يبادر (الحرّ) مبادرته الخالدة تلك ، لأصبح في عِداد المنبوذين الملعونين على لسان الله ورسوله وملائكته، والاحرار من الناس أجمعين .
ولكنه حين آثر الحق على الباطل ، ووطّن نفسه على ان يخوض ملحمة الكفاح المقدّس، بكل بسالة ،أصبح من الخالدين، وها هي الجماهير المؤمنة جيلا بعد جيل، تتجه الى ضريحه زائرةً معبّرة عن حبها له ، وتقديرها لوقفته الشجاعة الباسلة ، وذَوْدِهِ عن القيم العادلة التي استشهد من أجلها، بشرف النفس .
ان شرف النفس حين يترجم عمليّاً الى مواقف ناصعة وقرارات يفوح منها شذا المروءة والوعي يعتبر من أهم الذخائر والمآثر .
-4-
لقد راى (الحّرُ) الحسينَ (ع) يأمر أصحابه قائلاً :
( اسقوا القوم وأرووهم من الماء ورشفوا الخيل ترشيفاً)
كان ذلك في مكان اسمه (ذو حسم ) وبه التقى الفريقان .
والسؤال الان :
كيف يأمر الحسين بان يُسقى الحرّ وأصحابه، وهم انما خرجوا ليُجَعْجعوا به وبِرَكْبِهِ ، وليمنعوهم من التوجه الى كربلاء ؟
والجواب :
ان الحسين هو نبع المكارم الفيّاض ، ولن يمنع الماء عن أحد ، حتى من خرجوا ليجعجعوا به …
ان هذا الموقف الانساني النبيل، هزّ الحر بن يزيد الرياحي، ودعاه الى ان يعيد حساباته
لقد سمع الحرُّ بن يزيد الحسين (ع) يقول :
{ أيها الناس
ان رسول الله (ص) قال :
من راى سلطاناً جائر مستحلاً لحرم الله ، ناكتاً لعهد الله ،مخالفاً لسنة رسول الله ، يعمل في عباد الله بالاثم والعدوان ، فلم يغير عليه بفعل ولا قول ، كان حقاً على الله أنْ يدخله .
الا ان هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيءوأحلوا حرام الله وحرّموا حلاله .
وأنا أحق من غيّر ….}
ومثل الحر بن يزيد الرياحي لا يتجاهل الحقائق الدامغة التي حفل بها الخطاب الحسيني المبارك
-5-
قال الحرّ بن يزيد الرياحي :
{ والله اني أخيّر نفسي بين الجنة والنار، ولا اختار على الجنة شيئاً، ولو قطعت إربا إربا وأحرقت بالنار }
-6-
يقول التاريخ :
{ ثم ضرب فرسه قاصداً الى الحسين (ع) ويده على رأسه وهو يقول :
اللهم اليك أَنَبْتُ ، فَتُبْ عليّ ، فقد أرعبتُ قلوب اوليائك وأولاد نبيّك }
فلما دنا من الحسين قلب ترسَهُ وسلّم عليه …
وقال للحسين (ع) :
{ والآن جئتك تائباً توبة نصوحاً، أفديك بنفسي فهل ترى لي من توبه ؟
فقال الحسين :
نعم ،ان تبت تاب الله عليك ،والله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن كثير }
-7-
وهكذا تحوّل (الحرّ) الى قدوة وأمثولة للأحرار جيلا بعد جيل .
انه بموقفه البطولي، يدعوهم الى أنْ يحاكوه ويضارعوه في تصحيح مواقفهم الخاطئه، وممارساتهم الشاذة وما هم فيه من سكرة الطغيان .
والغفلة عن الحقائق ….
[email protected]